الآيات 85 - 91

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـوتِ وَالأَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لأََتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ85 إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلَّـقُ الْعَلِيمُ86 وَلَقَدْ ءَاتَيْنكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ87لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ88 وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ89كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ90 الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ91﴾

التّفسير

يعود القرآن بعد طرح قصص الأقوام السالفة - كقوم لوط وقوم شعيب وصالح - إِلى مسألة التوحيد والمعاد، لأنّ سبب ضلال الإِنسان يعود إِلى عدم اعتناقه عقيدة صحيحة، ولعدم ارتباطه بمسألة المبدأ والمعاد، فيشير إِليهما معاً في آية واحدة (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إِلاّ بالحق).

فنظامها محسوب ومحكم وهو حق، وكذا هدف خلقها حقٌّ.

فيكون هذا النظام البديع والخلق الدقيق المنظم دليلا واضحاً على الخالق العالم القادر جلَّ وعلا، وهو حق أيضاً، بل هو حقيقة الحق، وكل حق بما هو متصل بوجوده المطلق فهو حق، وكل شيء لا يرتبط به سبحانه فهو باطل... وهذا ما يخصّ التوحيد أمّا في المعاد فيقول: (وإِنّ الساعة لآتية)... وإِنْ تأخرت فإِنّها آتية بالنتيجة.

ولا يبعد أن تكون الفقرة الأُولى بمنزلة الدال على الفقرة الثّانية، لأنّ هذا العالم إِنّما يكون حقاً عندما يكون لهذه الأيّام الدنيوية المليئة بالآلام والمتاعب هدف عال يبرر خلق هذا الوجود الكبير - فليست الدنيا لنحياها وتنتهي - ولهذا فمسألة خلق السماوات والأرض وما بينهما حقّ يدل على وجود يوم القيامة والحساب، وإِلاّ لكان الخلق عبثاً وليس حقّاً - فتأمل.

وبعد ذلك... يأمر اللّه تعالى نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ يقابل عناد قومه وجهلهم وتعصبهم وعداءهم بالمحبّة والعفو وغض النظر عن الذنوب، والصفح عنهم بالصفح الجميل، أيْ غير مصحوب بملامة (فاصفح الصفح الجميل).

لأنّك تملك الدليل الواضح على ما أمرت بالدعوة إِليه، فلا تحتاج وإِيّاهم إِلى الخشونة لتثبيت عقيدة المبدأ والمعاد في قلوب الناس، فالعقل والمنطق السليم معك.

بالإِضافة إِلى أنّ الخشونة مع الجهلة غالباً ما تؤدي بهم إِلى الرد بالمثل، بل وبأشد من ذلك.

الصفح: هو وجه كل شيء، كوجه الصورة(1)، ولهذا فقد جاءت كلمة "فاصفح" بمعنى أدر وجهك وغض النظر عنهم.

وبما أنّ إدارة الوجه وصرفه عن الشيء قد تعطي معنى عدم الإِهتمام والنفرة وما شابه ذلك بالإِضافة لمعنى العفو والصفح، فقد ذكرت الآية المتقدمة كلمة

"الجميل" بعد "الصفح" لكي تحدد المعنى الثّاني.

وفي رواية عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: (العفو من غير عتاب)(2).

وروي مثل ذلك عن الإِمام زين العابدين(عليه السلام)(3).

الآية التالية - كما يقول جمع من المفسّرين - بمنزلة الدليل على وجوب العفو والصفح الجميل، حيث تقول: (إِن ربّك هو الخلاق العليم).

فاللّه يعلم بأنّ الناس ليسوا سواسية من جهة الطبائع والمستويات الفكرية والعاطفية وهو سبحانه مطلع على ما تخفيه صدورهم، وينبغي معاملتهم بروحية العفو والمسامحة ليهتدوا إِلى طريق الحق بأسلوب الإِصلاح المرحلي أو التدريجي.

ولا يرمز ذلك إِلى الجبر في أعمال الناس وسلوكهم، بقدر ما هو إِشارة إِلى أمر تربوي يأخذ بنظر الاعتبار اختلاف الناس في القابليات.

وممّا يجدر ذكره... تصور البعض أنّ الأمر الإِلهي مختصٌ بفترة حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة قبل الهجرة، وعندما هاجر(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة أصبح للمسلمين القدرة والقوّة فنسخ هذا الأمر وجاء الجهاد بدله.

ولكننا نجد ورود هذا الأمر في السور المدينة أيضاً (كسورة البقرة وسورة النّور والتغابن والمائدة)، فبعض منها يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو والصفح، والبعض الآخر يأمر المؤمنين بذلك.

فيتّضح لنا أنّ أمر الصفح عام ودائم، وهو لا يعارض أمر الجهاد أبداً، فلكلٍّ محله الخاص به.

فإِذا كان الموقف يستدعي العفو والتسامح، فَلِمَ لا يؤخذ به!! وإِذا كان مدعاة للتجرؤ والجسارة من قبل الأعداء ولا ينفع معهم إِلاّ الشدة، فلا مناص حينئذ من الأخذ بأمر الجهاد.

ثمّ يواسي اللّه تعالى نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)... أنْ لا تقلق من وحشية الأعداء وكثرتهم وما يملكون من إِمكانات مادية واسعة، لأنّ اللّه أعطاك ما لا يقف أمامه شيء (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم).

وكما هو معلوم، فإِنّ "السبع" هم العدد سبعة، و"المثاني" هو العدد اثنان، ولهذا اعتبر أكثر المفسّرون أنّ "سبعاً من المثاني" كناية عن سورة الحمد، والرّوايات كذلك تشير لهذا المعنى.

والداعي لذلك كونها تتأليف من سبع آيات، لأهميتها وعظمة محتواها فقد نزلت مرتين على النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لأنّها تتكون من قسمين (فنصفها حمد وثناء للّه عزَّ وجلّ والنصف الآخر دعاء عبادة)، أو لأنّها تقرأ مرّتين في كل صلاة(4).

واحتمل بعض المفسّرين أن "السبع" إِشارة إِلى السور السبع الطول التي ابتدأ بها القرآن، و"المثاني" كناية عن نفس القرآن، لأنّه نزل مرتين على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)مرّة بصورة كاملة، وأُخرى نزل نزولا تدريجياً حسب الإِحتياج إِليه في أزمنة مختلفة.

وعلى هذا يكون معنى (سبعاً من المثاني) سبع سور مهمات من القرآن.

ودليلهم في ذلك الآية الثّالثة والعشرون من سورة الزمر، حيث يقول تعالى: (اللّه نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني)، أيْ مرتين على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صواباً، خصوصاً وأنّ روايات أهل البيت(عليهم السلام)تشير إِلى أنّ "السبع المثاني" هي سورة الحمد.

واعتبر الراغب في مفرداته أنّ كلمة "المثاني" أطلقت على القرآن لما يتكرر من قراءة آياته، وهذا التكرار هو الذي يحفظه من التلاعب والتحريف (إِضافة إِلى أنّ حقائق القرآن تتجلى في كل زمان بشكل جديد ينبغي له أن يوصف بالمثاني).

وعلى أية حال، فذكر عبارة "القرآن العظيم" بعد ذكر سورة الحمد، بالرغم من أنّها جزء منه، دليل آخر على شرف وأهمية هذه السورة المباركة، وكثيراً ما يذكر الجزء مقابل الكل لأهميته، وهو كثير الإستعمال في الأدب العربي وغيره.

وخلاصة المطاف أنّ اللّه تعالى قد صرّح لنبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّك قد ملكت سنداً عظيماً (القرآن)، ولا تستطيع أي قوة في عالم الوجود أن تصرعه.

سنداً كلّه نور، بركة، دروس تربوية، برامج عملية، هداية وتسديد، وبالذات سورة الفاتحة منه التي لها من المحتوى والأثر بحيث لو ارتبط العبد بربّه ولو للحظة واحدة لحلّقت روحه لساحة قدس الرّب، وهي تعيش حال التعظيم والتسليم والمناجاة والدّعاء.

وبعد هذه الهبة العظيمة يأمر اللّه تعالى نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) بأربعة أوامر فيقول له أوّلاً: (لا تمدّن عينيك إِلى ما متعنا به أزواجاً منهم)(5).

فمتع الحياة الدنيا ليست دائمة ولا خالية من التبعات، والحفاظ عليها أمر صعب في أحسن الحالات.

ولهذا، لا تستحق الإِهتمام بها مقابل ما أعطاك اللّه عزَّوجلّ من العطاء المعنوي الجزيل (أيْ القرآن).

ثمّ يقول في الأمر الثّاني: (ولا تحزن عليهم) لما عندهم من أموال ونعم مادية.

فالأمر الأوّل في الحقيقة يتعلق بعدم الإِهتمام والتوجه نحو النعم المادية، والأمر الثّاني يتعلق بعدم التأثر لفقدانها.

وقد جاء ما يشبه هذا المضمون في الآية (131) من سورة طه حيث يقول جل وعلا بتفصيل أكثر: (ولا تمدّن عينيك إِلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربّك خير وأبقى).

والأمر الثّالث: جاء بخصوص ضرورة اللين والتواضع مع المؤمنين حيث يقول: (واخفض جناحك للمؤمنين).

إِنّ هذا التعبير، كناية جميلة عن التواضع والمحبّة والملاطفة، فالطيور حينما تريد إِظهار حنانها لفراخها تجعلها تحت أجنحتها بعد خفضها، فتجسّم بذلك أعلى صور العاطفة والحنان وتحفظهم من الحوادث والأعداء، وتحميهم من التشتت.

والتعبير المذكور عبارة عن كناية مختصرة بليغة ذات مغزىً ومعان كثيرة جدّاً.

ويمكن أن يحمل ذكر هذه الجملة بعد الأوامر الثلاثة المتقدمة إِشارة تحذير بعدم إِظهار التواضع والإنكسار أمام الكفار المتنعمين بزهو الحياة الدنيا، بل لابدّ للتواضع والحب والعاطفة الفياضة لمن آمن وإِنْ كان محروماً من مال الدنيا.

ونصل إلى الأمر الرّابع: وقل لهؤلاء الكفرة المنعمين بكل حزم (إِنّي أنا النذير المبين).

قل: أنذركم من أمر اللّه بنزول عذابه عليكم (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين)(6)، أي الذين قسّموا الآيات القرآنية أصنافاً، فما كان ينفعهم أخذوه، وما لا ينسجم ومشتهياتهم تركوه.

فبدل أن يتخذوا كتاب اللّه هادياً وقائداً لهم، جعلوه كآلة بأيديهم ووسيلة للوصول لأهدافهم الشريرة، فلو وجدوا فيه كلمة واحدة تنفعهم لتمسكوا بها، ولو وجدوا ألف كلمة لا تنسجم مع منافعهم الدنيوية لتركوها بأجمعها!!!!

بحوث

1 - القرآن... عطاء إِلهي عظيم

يخبر اللّه تعالىْ في الآيات المذكورة نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعنوان تنبيه لجميع مسلمي العالم، أن هذا القرآن جعل في اختياركم، وفيه من العطاء ما لا يُعَدْ، وليكن رأسمالكم الذي تتعاملون فيه في حياتكم، ولو عملتم به لجعلتم دنياكم كلها سعادة ورفاه وأمن وصلاح.

وهذه حقيقة يعترف بها حتى غير المسلمين، فهم يعتقدون بأنّ المسلمين إِذا أخذوا القرآن وجعلوه أساس حياتهم، وعملوا بأحكامه وهديه، فسيكونون من القوّة والتقدم بحيث لا يسبقهم في ذلك أحد.

فنرى مثلا، سورة الحمد "سبعاً من المثاني" والتي تسمّى "خاتمة الكتاب" لوحدها تمثل مدرسة كاملة للحياة:

فأوّلها... يشير إِلى خالق الوجود الذي يربي جميع أهل العالم في مسيرة تكاملية شاملة، هذا الخالق الذي وسعت رحمته "خاصّة" وعامّة كل شيء... ثمّ تشير إِلى محكمة العدل الإِلهية التي يكفل الإيمان بها خلق رقابة دقيقة على جميع سلوكيات الإنسان ونواياه.

ثمّ الإِشارة إِلى عدم الإِتكال على غير اللّه، وعدم الخضوع والتسليم لغيره لتتهيأ الأرضية الصالحة للسير على صراطه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل لا إِلى شرق ولا إِلى غرب، كما أنّه ليس فيه إِفراط ولا تفريط، وكذلك ليس فيه ضلال ولا غضب من اللّه عزَّوجلّ.

إنّها جملة أُمور، لو تمثلها الإِنسان وبنى عليها كيانه، لكانت كفيلة بأن تجعل له شخصية سامية متكاملة.

وللأسف الشديد فقد وقع هذا العطاء الإِلهي بأيدي أُناس لم يعرفوا جلالة قدره، ولم يغورو العمق معناه، بل إنّهم من الجهل بمكان حتى وصل بهم الأمر أن تركوا تلك الآيات الرّبانية المنجية من التيه والضلال والجهل، وركضوا لاهثين وراء مَنْ ملكته شهواته ومَنْ لم يصل إِلى أدنى درجات النضج الفكري، ليستجدوا منهم القوانين والبرامج التربوية التي صنعها جهلهم المتلبس بلباس العلم والتقدم!!

فهؤلاء المساكين يبيعون أغلى ما عندهم بثمن بخس، ويشترون به ما يبعدهم عن بناء أُخراهم!!

ولا يعني هذا بأنّا ضد التقدم التقني، بل علينا أن لا نحصر كل أنفسنا في هذا الجانب من الحياة الإِنسانية... ففي الوقت الذي نجد في القرآن تلك العيون الفياضة بالمعنويات، نراه كذلك صاحب برامج حيوية في مجالات التقدم والرفاه الماديين، وهذا ما أوضحناه في الآيات المتقدمة وما سنزيد فيه في الآيات القادمة إِن شاء اللّه تعالى.

2 - الطمع بما عند الغير... مصدر الإِنحطاط

هناك الكثير من أصحاب العيون الضيقة الذين يلاحظون هذا وذاك باستمرار بعيون ملؤها الطمع والجشع!!

لقد دأب هؤلاء على قياس حالهم وحال الآخرين ويغتمون غماً شديداً فيما لو وجدوا أن شيئاً من الحاجات المادية الحياتية ناقصاً عندهم، فيبذلون كل شيء في سبيل الحصول عليها حتى وإِن كلفهم ذلك خسارة القيم الإِنسانية وبيع كرامتهم!!

هذا نمط من التفكير ينم عن حالة التخلف، ويكشف عن الشعور بعقدة الحقارة ونقص الهمة.

وهو من العوامل الفاعلة في تخلف الإِنسان في حياته، وعلى كافّة الأصعدة.

والشخص المستقل لا يتعامل مع مجريات الحياة بذلك النمط من التفكير المتخلف، وإِنّما يستعمل قواه الفكرية والجسمانية في طريق رشده وتكامله، فهو كمن يحدث نفسه قائلا: بما أنّه لا ينقصني عن الآخرين شيء، ولا يوجد دليل على عدم استطاعتي التقدم أكثر منهم أو الوصول لمصافهم... فلماذا أمدٌ عيني لما متع به الآخرين من مال وجاه وما شاكل... فصاحب الشخصية المستقلة لا يربط هدفه ومقصده من الحياة بالجوانب المادية البحتة فقط، بل يطلبها لإشباع ما يحتاجه روحياً وتربوياً، ويطلبها لكي يحفظ بها استقلاله وحريته، ولكي لا يكون عالة على الآخرين، فهو لا يطلبها بحرص، ولا يطلبها بكل ما يملك، لأنّ ذلك ليس بيع الأحرار، ولا هو بيع عباد اللّه الصالحين.

ونختم الحديث بالحديث النّبوي الشريف: "مَنْ رمى ببصره ما في يد غيره كثر همّه ولم يشف غيظه"(7).

3 - تواضع القائد

لقد أُوصي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً من خلال القرآن أنْ يكون مع المؤمنين متواضعاً، محبّاً، سهلا ورحيماً، والوصايا ليست منحصرة بخصوص نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هي عامّة لكل قائد وموجّه، سواء كانت دائرة قيادته واسعة أم محدودة، فعليه أن يأخذ بهذا الأصل الأساسي في الإِدارة والقيادة الصحيحة.

إِنّ حبّ وتعلق الأفراد بقائدهم من الأُسس الفاعلة لنجاح القائد، وهذا ما لا يتحقق من دون تواضعه وطلاقة وجهه وحبّه لخير أفراده.

أمّا خشونة وقساوة القائد فلا تؤدي إِلاّ إِلى فصم رابطة الإِلتحام بينه وبين الأفراد ممّا يؤدى إِلى تفرق وتشتت الناس عن قائدهم.

قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في رسالته إِلى محمّد بن أبي بكر: "فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة"(8).

4 - مَنْ هم المقتسمون؟

إنّ التوجيهات الإِلهية بلاشك تراعى فيها المصلحة العامّة ومصلحة الأفراد بصورة عامة، ولكن البعض منها قد يوافق مصالحنا الشخصية بحسب الظاهر والبعض الآخر على خلافها.

ومن خلال قبول أو رفض ما يدعونا إِليه اللّه يمحص المؤمن الخالص من المدعي للإِيمان، فالذي يقبل كل شيء نازل من اللّه ويسلم له، حتى وإِنّ ظاهره لا يتوافق مع مصلحته، ويقول "كل من عند ربّنا" ولا يجرؤ على تجزئة أو تقسيم أو تبعيض الأحكام الإِلهية... فذلك هو المؤمن حقّاً.

أمّا الذين استفحل المرض في قلوبهم فيحاولون تسخير دين اللّه وأحكامه لخدمة مصالحهم الشخصية، فيقبلون ما يدعم منافعهم ويتركون غيره، فتراهم يجزؤون الآيات القرآنية، بل وتراهم في بعض الأحيان يجزؤون الآية الواحدة، فما يوافق ميولهم احتذوا به ويتركون القسم الباقي من الآية!! ولكن من القبح أن نردد ما قاله بعض الأقوام السابقة (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) فهذا شأن عبيد الدنيا.

أمّا معيار تشخيص أتباع الحق من أتباع الباطل فمن خلال التسليم للأوامر والتوجيهات الإِلهية التي لا تنسجم مع الميول والأهواء والمنافع الدنيوية، فمن هنا يُعرف الصادق من الكذاب والمؤمن من المنافق.

وتجدر الإِشارة هنا إِلى وجود تفاسير أُخرى لمعنى المقتسمين (غير ما ذكرناه)، حتى أنّ القرطبي قد ذكر في تفسيره سبعة آراء في معنى هذه الكلمة، إِلاّ أنّ أكثرها خال من القرينة، والبعض الآخر لا يخلو من مناسبة وهو ما سنذكره أدناه:

فمنها... أنّ جمعاً من رؤوس المشركين كانوا يقفون في أيّام الحج على رؤوس طرق وأزقة مكّة، ويشرع كل واحد منهم بالسخرية والإِستهزاء بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن لينفروا الناس عنه.

فبعض يقول: إنّه " مجنون " فإِنّ ما يقوله ليس بموزون...

وبعض يقول: إنّه " ساحر " وقرآنه نوع من السحر...

وبعض يقول: إنّه " شاعر " والنغمة البلاغية للآيات السماوية هي شعر...

وبعض يقول: إنّه " كاهن " وإِنّ أخبار القرآن الغيبية هي نوع من الكهانة.

وقد سُمي هؤلاء بالمقتسمين لتقسيمهم شوارع وأزقة مكّة ومعابرها بينهم ضمن خطة دقيقة ومحسوبة.

ولا مانع من دخول هذا التّفسير وما ذكرناه معاً ضمن مفهوم الآية المبحوثة.


1 ـ سورة القمر، 34.

2 ـ نور الثقلين، ج2، ص358.

3 ـ نور الثقلين، ج3، ص23.

4 ـ المصدر السابق.

5 ـ المصدر السابق.

6 ـ نور الثقلين، ج3، ص382.

7 ـ إِنّ كلمة "إِنْ" في هذه الآية ليست شرطية وإِنّما هي مخففة، فيكون تقدير الكلام (إِنه كان أصحاب الأيكة لضالمين).

8 ـ أعلام القرآن، الخزائلي، الصفحة 292.