الآيات 51 - 60

﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراهِيمَ51 إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلماً قالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ52 قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلم عَلِيم53 قالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِى الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ54قالُوا بَشَّرْنكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُن مِّنَ الْقنِطِينَ55 قالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ56قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّها الْمُرْسَلُونَ57قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنآ إِلى قَوْم مُّجْرِمِينَ58 إِلآَّ ءَالَ لُوط إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ59 إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنآ إِنَّها لَمِنَ الْغبِرِينَ60﴾

التّفسير

الضّيوف الغرباء...!!

تتحدث هذه الآيات المباركات وما بعدها عن الجنبة التربوية في تاريخ حياة الأنبياء عليهم السلام وما جرى لهم مع العصاة من أقوامهم، وتطرح الآيات نماذج حيّة للإِعتبار، لكلا الطرفين (عباد اللّه المخلصين من طرف وأتباع الشيطان من طرف آخر).

ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إِبراهيم (وهم الملائكة الذين جاؤوا بهيئة البشر وبشروه بولد جليل الشأن، ومن ثمّ أخبروه عن أمر عذاب قوم لوط).

فقد جاء في الآيتين السابقتين أمر اللّه إِلى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبيان سعة رحمة اللّه للناس مع تبيان أليم عذابه، ويطرح في هذه القصة نموذجين حيين لهاتين الصفتين، وبذلك تتبيّن صلة الربط بين هذه الآيات.

فتقول أوّلاً: (ونبئهم عن ضيف إِبراهيم).

فكلمة "ضيف" جاءت بصيغة المفرد، ولا مانع من ذلك حيث ذهب بعض كبار المفسّرين إِلى أن "ضيف" تستعمل مفرداً وجمعاً.

وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إِبراهيم (عليه السلام) بوجوه خالية من الإِبتسامة، فابتدأوه بالسلام (إِذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً).

فقام إِبراهيم (عليه السلام) بوظيفته (إِكرام الضيف)، فهيأ لهم طعاماً ووضعه أمامهم، إِلاّ أنّهم لم يدنوا إِليه، فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء، فعبّر عمّا جال في خاطره (قال إِنّا منكم وجلون)(1).

وكان مصدر خوف إِبراهيم (عليه السلام) ممّا كان عليه متعارفاً في مسألة رد الطعام أو عدم التقرب منه، فهو عندهم إِشارة إِلى وجود نيّة سوء أو علامة عداء.

ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى: (قالوا لا توجل إِنّا نبشرك بغلام عليم).

مَنْ هو المقصود بالغلام العليم؟

يبدو من خلال متابعة الآيات القرآنية أنّ المقصود هو (إِسحاق)، حيث نقرأ في سورة هود، الآية (71) أن امرأة إِبراهيم كانت واقفة بقربه عندما بشرته الملائكة، ويظهر كذلك أنّها كانت امرأة عاقراً فبشروها أيضاً (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإِسحاق).

وكما هو معروف فإِنّ سارة، هي أم إِسحاق، ولإِبراهيم (عليه السلام) ولد آخر أكبر من إِسحاق واسمه (إِسماعيل) من (هاجر) - الأمَة التي تزوجها إِبراهيم.

كان إِبراهيم يعلم جيداً أنّه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية، (ومع أن كل شيء مقدوراً للّه عزَّ وجلّ)، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب: (قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون)... هل البشارة منكم أم من اللّه عزَّوجلّ وبأمره، أجيبوني كي أزداد اطمئناناً؟

إِنّ تعبير "مسّني الكبر" إِشارة الى ما كان يجده من بياض في شعره وتجاعيد في وجهه وبقية آثار الكبر فيه.

ويمكن لأحد أن يشكل: بأنّ إِبراهيم (عليه السلام) قد سبق بحالة مشابهة حينما ولد له إِسماعيل (عليه السلام) وهو في الكبر... فَلِمَ التعجب من تكرار ذلك؟

والجواب: أوّلاً: كان بين ولادة إِسماعيل وإِسحاق (على ما يقول بعض المفسّرين) أكثر من عشر سنوات، وبذلك يكون تكرار الولادة مع مضي هذه المدّة ضعيف الإحتمال.

وثانياً: إنّ حدوث ووقوع حالة مخالفة للموازين الطبيعية مدعاة للتعجب، وإِذا ما تكررت فلا يمنع من التعجب لحدوثها وتكرارها مرّة أُخرى.

فولادة مولود جديد في هكذا سن أمر غير متوقع، وإِذا ما وقع فهو غريب وعجيب في كل الأحوال(2).

وعلى أية حال... لم يدع الملائكة مجالا لشك أو تعجب إِبراهيم حيث (قالوا بشرناك بالحق) فهي بشارة من اللّه وبأمره، فهي حقُّ مُسَلَّمٌ به.

وتأكيداً للأمر ودفعاً لأي احتمال في غلبة اليأس على إِبراهيم، قالت الملائكة: (فلا تكن من القانطين).

لكنّ إِبراهيم (عليه السلام) طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة اللّه إِليه، وإنّما هو في أمر تلك القدرة التي تجعل من اختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون الخلل في الموازنة، (قال ومن يقنط من رحمة ربّه إِلاّ الضّالون).

إِنّ الضالين هم الذين لا يعرفون اللّه وقدرته المطلقة، اللّه الذي خلق الانسان ببناءه العجيب المحير من ذرة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولداً سوياً، اللّه الذي حوّل نخلة يابسة الى حاملة للثمر بإِذنه، اللّه الذي جعل النّار برداً وسلاماً... هل من شك بأنّه سبحانه قادر على كل شيء، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته!!؟!!

وراود إِبراهيم (عليه السلام) - بعد سماعه البشارة - أنّ الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير البشارة، وما البشارة إِلاّ مهمّة عرضية ضمن مهمّتهم الرئيسية، ولهذا (قال فما خطبكم أيّها المرسلون قالوا إنّا أرسلنا إِلى قوم مجرمين).

ومع علم الملائكة بإِحساس إِبراهيم (عليه السلام) المرهف وأنّه دقيق في كل شيء ولا يقنع بالعموميات، فبينوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين باستثناء أهله (إِلاّ آل لوط إِنّا لمنجّوهم أجمعين).

إِنّ ظاهر تعبير "آل لوط" وما ورد من تأكيد بكلمة "أجمعين" سيشمل امرأة لوط الضالة التي وقفت في صف المشركين، ولعل إِبراهيم كان مطلعاً على ذلك، ولذا أضافوا قائلين: (إِلاّ امرأته قدّرنا أنّها لمن الغابرين).

و"قدّرنا" إِشارة إِلى المهمّة التي كُلفوا بها من اللّه عزَّ وجلّ.

هذا وقد بحثنا قصة نزول الملائكة على إِبراهيم (عليه السلام) وتبشيره بإِسحاق (عليه السلام)وحديثهم معه بشأن قوم لوط (عليه السلام) مفصلا في تفسيرنا للآيتين (69 و70) من سورة هود من هذا التّفسير.


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 27.

2 ـ الخصال للشيخ الصدوق ـ باب الثمانية.