الآيات 22 - 25

﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـحَ لَوَقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَسْقَيْنَـكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـزِنِينَ22 وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَ رِثُونَ23 وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَئْخِرِينَ24 وَإِنِّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ25﴾

التّفسير

دور الرّياح والأمطار:

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسماً من أسرار الخليقة والنعم الإِلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من مستلزمات، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح وما لها من آثار في عملية نزول المطر، فيقول: (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين).

"لواقح" جمع "لاقح" ... وهي تشير هنا إِلى دور الرياح في تجميع قطع الحساب مع بعضها لتهيئة عملية سقوط الأمطار.

وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إِلى أن الآية تشير إِلى عملية تلقيح النباتات بواسطة الرياح، وبها يستدلون على الإِعجاز العلمي للقرآن، على اعتبار أن عصر نزول القرآن ما كان يحظى بما وصل إِليه عصرنا من العلوم الحديثة، وأنّ إِخبار القرآن بهذه الحقيقة العلمية (علمية التلقيح) من ذلك الوقت لدليل على إِعجازه العلمي.

مع قبولنا بحقيقة تلقيح النباتات ودور الرياح فيها، إِلاّ أنّنا لا نرى ما يشير لما ذهب إِليه علماء اليوم لسببين:

الأوّل: وجود قرينة نزول المطر بعد كلمة لواقح مباشرة.

ثانياً: وجود فاء السببية بينها (بين لواقح ونزول المطر).

ممّا يبيّن بشكل جلي أن تلقيح الرياح يعقبه نزول المطر.

ويعتبر ما جاء في الآية المباركة من روائع الكلم، حيث شبّه قطع الحساب بالآباء والأمهات يتم تزاوجهم بأئر الرياح، فتحمل الأُمهات، ثمّ تلقي بما حملت (قطرات المطر) إلى الأرض.

ويمكن حمل (ما أنتم له بخازنين) على أنّها إِشارة لخزن ماء المطر في السحب قبل نزوله، أي إِنّكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر الأصلي للأمطار.

ويمكن حملها على أنّها إِشارة إِلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها، أي إِنّكم لا تقدرون على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله، وأنّ اللّه عزَّوجلّ هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج، أو ينزلها في أعماق الأرض لتكون بعد ذلك عيوناً وآباراً.

ثمّ ينتقل من مظاهر توحيد اللّه إِلى المعاد ومقدماته: (وإِنّا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون)، فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهم المقدمات لبحث موضوع المعاد، إِضافة لكون هذه المسألة من مكملات موضوع التوحيد، باعتبار مسألة الحياة منذ بدايتها وحتى انتهائها بالموت تشكل نظاماً مترابطاً في عالم الوجود لا يمكن تصور تشكيله إِلاّ بوجود علم وقدرة مطلقين، بالإِضافة إِلى أن وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أنّ موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عمّا هو بأيديها، وأنّ الوارث الحقيقي لكل شيء هو اللّه تعالى.

ثمّ يضيف: (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين).

أيْ، نحن على علم بهم وبما يعملون، وإِن أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد علينا سهل يسير.

ولهذا، نرى الآية التي تليها: (وإِنّ ربّك هو يحشر هم إنّه حكيم عليم) مرتبطة تماماً مع ما قبلها ومتممة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت... فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شيء.

فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شيء بالموت لكانت عملية الخلق عبثاً، وهذا غير معقول، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.

فالحكمة الإِلهية اقتضت من "حياة الدنيا أن تكون مرحلة استعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق"، وبتعبير آخر.

مقدمة لحياة أبدية خالدة.

وأمّا كونه سبحانه عليماً... فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة، وكذلك في اعماق وجود الانسان من جهة أُخرى، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.

وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.

بحث

مَنْ هم المستقدمون والمستأخرون؟

ذكر المفسّرون في تفسير (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) احتمالات كثيرة، فذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) ستة احتمالات، والقرطبي ثمانية احتمالات، وأبو الفتوح الرازي بحدود العشرة احتمالات، والملاحظة الدقيقة تظهر أنّه يمكن لنا أن نجمع كل ما ذكروه في تفسير واحد، لأن كلمة "المستقدمين" و"المستأخرين" لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها.

وإِذا ما أخذنا بهذا المعنى الجامع فيمكننا جمع كل الإِحتمالات الواردة في "تقدم" و"تأخر" المذكورتين في الآية في تفسير واحد.

وفيما روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحث على الإِشتراك في الصف الأوّل من صفوف صلاة الجماعة أنّه قال: "إنّ اللّه وملائكتة يصلون على الصف المتقدم" فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا: "لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم"، فنزلت هذه الآية.

(وأفهمتهم على أنّ اللّه تعالى عليم بنيّاتكم، فحتى لو كنتم في الصف الأخير فإنّه يكتب لكم ثواب الصف الأوّل حسب نيّتكم وعزمكم على ذلك).

فمحدودية شأن نزول الآية لا يكون أبداً سبباً لحصر مفهومها الواسع.