الآيات 19 - 21

﴿وَالاَْرْضَ مَدَدْنَـهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَ سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْء مَّوزُون19 وَجَعَلْنَا لَكُمْ فَيها مَعَـيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرزِقِينَ20 وَإِن مِّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَّعْلُوم21﴾

التّفسير

وإِتماماً لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق، ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة، ويبدأ بنفس الأرض (والأرض مددناها).

"المد"، في الأصل بمعنى: التوسعة والبسط، ومن المحتمل أن يراد به إِخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء، لأنّ سطح الأرض (كما هو معلوم) كان مغطىً بالمياه بشكل كامل نتيجة للأمطار الغزيرة، واستقرت المياه على سطح الأرض بعد أن مرّت السنين الطويلة على انقطاع الأمطار، وبشكل تدريجي ظهرت اليابسة من تحت الماء، وهو ما تسمّيه الرّوايات ب- "دحو الأرض".

ثمّ يتطرق إِلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد (وألقينا فيها رواسي).

عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإِلقاء، ولعل المراد ب- "إلقاء" هنا بمعنى (إِيجاد) لأنّ الجبال هي الإِرتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من برودة قشرة الأرض التدريجي، أو من المواد البركانية.

ومن بديع خلق الجبال إِضافةً إِلى كونها أوتاداً لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي، فإِنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.

واستعمال كلمة "رواسي" جمع (راسية) بمعنى الثابت والراسخ، إِشارة لطيفة لما ذكرناه.

فهي: ثابتة بنفسها، وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإِنسانية عليها.

ثمّ ينتقل إِلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية، ألاَ وهو النبات (وأنبتنا فيها من كل شيء موزون).

ما أجمل هذا التعبير وأبلغه!! "موزون" من مادة (وزن)(1)، ويشير بذلك إِلى: الحساب الدقيق، النظام العجيب، والتناسق في التقدير في جميع شؤون النباتات، وكل أجزائها تخضع لحساب معين لا يقبل التخلخل من الساق، الغصن، الورقة، الوردة، الحبة وحتى الثمرة.

يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات، وكل تحمل خواصاً معينة ولها من الآثار ما يميزها عن غيرها، وهي بابُ بمعرفة واسع وصولا لمعرفة الباريء المصور جل شأنه، وكل ورقة منها كتاب ينطق بعرفة الخالق.

وقد ذهب البعض إِلى أن المقصود هو إِحداث المعادن والمناجم المختلفة في الجبال، لأنّ كلمة "إِنبات" تستعمل في اللغة العربية للمعادن أيضاً.

وقد وردت الإِشارة في بعض الرّوايات لهذا المعنى، ففي رواية عن الإِمام الباقر (عليه السلام) عندما سئل عن تفسير هذه الآية أنبتنا فيها من كل شيء موزون، أنّه قال: "فإنّ اللّه تبارك وتعالى انبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والرصاص والكحل والزرنيغ وأشباه هذه لايباع إِلاّ وزناً"(2).

وهناك من ذهب إِلى أن المقصود من الإِنبات في الآية إِلى معنىً أوسع يشمل جميع المخلوقات على هذه الأرض، كما يشير إِلى ذلك نوح (عليه السلام) حين مخاطبته قومه (واللّه أنبتكم من الأرض نباتاً)(3).

وعليه، فليس هناك ما يمنع من إِطلاق مفهوم الإِنبات في الآية ليشمل النبات والبشر والمعادن... الخ.

وبما أنّ وسائل وعوامل حياة الإِنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط، ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إِلى جميع المواهب بقوله: (وجعلنا لكم فيها معايش).

ليس لكم فقط، بل لجميع الكائنات الحية حتى الخارجة عن مسؤوليتكم (ومَن لستم له برازقين).

نعم، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.

"معايش" جمع "معيشة"، وهي: الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة الإِنسان، والتي يحصل عليها بالسعي تارة، وتأتيه بنفسها تارة أُخرى.

ومع أن بعض المفسّرين قد حصر كلمة "معايش" بالزراعة والنبات أو الأكل والشرب فقط، ولكنّ مفهومها اللغوي أوسع من أن يخصص، ويطلق ليشمل كل ما يرتبط بالحياة من وسائل العيش.

وانقسم المفسّرون في تفسير (مَنْ لستم له برازقين) إِلى قسمين:

الأوّل: أنّ اللّه تعالى يريد أن يبيّن مواهبه ونعمه الشاملة للبشر والحيوان والكائنات الحية الأُخرى التي لا يملك الإِنسان أمر تغذيتها ولا يستطيعه.

الثّاني: أنّ اللّه تعالى يريد تذكير الإِنسان بأنّه سبحانه هو الرازق، وقد تكفل بإيصال رزقه إِلى كل محتاج له سواء كان بواسطة الإِنسان أو بواسطة أُخرى(4).

ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل أكثر صواباً، ويعزز ذلك الحديث المروي في تفسير علي بن إِبراهيم، حيث يتناول معنى (ومَنْ لستم له برازقين) على أنّه: (لكل ضرب من الحيوان قدّرنا له مقدراً)(5).

أمّا آخر آية من الآيات المبحوثة، فتحوي جواباً لسؤال طالما تردد على أذهان كثير من الناس، وهو: لماذا لم تهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إِلى سعي وكدح؟!!

فتنطق الحكمة الإِلهية جواباً: (وإِن من شيء إِلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إِلاّ بقدر معلوم).

فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك، وإِنّما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا، وليس من الصعب علينا خلق أي شيء وبأي وقت يكون، ولكنّ الحكمة إقتضت أن يكون كل شيء في هذا الوجود خاضعاً لحساب دقيق، حتى الأرزاق إِنّما تنزل إِليكم بقدر.

ونقرأ في مكان آخر من القرآن: (ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء)(6).

إِنّ السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإِنسان الحيوية والنشاط، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك الأبدان، فإِنه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيي القلب للتحرك والتفاعل مع الآخرين... وإِذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإِنسان بما يرغب هو لا حسب التقدير الرباني، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إِليه مصير البشرية؟

فيكفي لحفنة ضئيلة من العاطلين، ذوي البطون المنتفخة، وبدون أيّ وازع انضباطي، يكفيهم لأن يعيثوا في الأرض الفساد.

لماذا؟

لأنّ الناس ليسوا كالملائكة، بل هناك الأهواء التي تلعب بالقلوب والمغريات التي تُدني إِلى الإِنحراف.

لقد اقتضت الحكمة الرّبانية أن يكون الإِنسان حاملا لجميع الصفات الحسنة والسيئة، ويمتحن على هذه الأرض بما يحمل، وبماذا يعمل، وعن ماذا يتجاوز؟... والسعي والحركة لما هو مشروع، المجال الأمثل للإِمتحان.

والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والإمتحان، فكما أنّ الفقر والعوز قد يجران الإِنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الإِنحراف، فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأً للفساد والطغيان.

بحوث

1 - ما هي خزائن اللّه تعالى؟

نقرأ فى آيات القرآن أن: للّه عزَّ وجلّ خزائن، للّه خزائن السماوات والأرض، بيده خزائن كل شيء... فما هي خزائنه تعالى؟

"الخزائن" لغةً جمع "خزانة": وهي المكان المخصص لحفظ وتجميع المال.

وهي من مادة (خَزَنَ) على وَزْنِ (وَزَنَ) بمعنى: حفظ الشيء وحبسه.

بديهي، أن مَنْ كانت قدرته محدودة وغير قادر على أن يهيء لنفسه كل ما يحتاج إِليه على الدوام، يبدأ بجمع ما يملك وخزنه لوقت الحاجة إِليه مستقبلا.

وهل يمكن تصور ذلك في شأنه سبحانه!!؟ الجواب بالنفي قطعاً... ولهذا فسّر جمع من المفسّرين أمثال العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) والفخر الرازي في (تفسيره الكبير) والراغب في (المفردات)، فسّروا خزائن اللّه بمعنى (مقدورات اللّه)، يعني: أنّ كل شيء جمع في خزانة قدرة اللّه، وكل ما يخطه ضرورة أو صلاحاً لمخلوقه يخلقه بقدرته.

وقد فسّر بعض كبار المفسّرين "خزائن اللّه" بأنّها: (مجموع ما في الكون من أصوله وعناصره وأسبابه العامّة المادية، ومجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها)(7).

هذا التّفسير وإِن كان مقبولا من الناحية الأصولية ولكنّ تعبير "عندنا" ينسجم أكثر مع التّفسير الأوّل.

وانَّ عبارة "خزائن اللّه" وما شابهها لا تصف مقام الرب وشأنه الجليل، ولا يصح أن نعتبرها بعين معناها، وإِنّما استعملت للتقريب، من باب تكلم الناس بلسانهم، ليكونوا أكثر قرباً للسمع وأشد فهماً للمعنى.

وذكر بعض المفسّرين أنّ "خزائن" تختص بالماء والمطر، ولكن من الواضح حصر مفهوم "خزائن" بهذا المصداق المحدد تقييد بلا مقيد لإِطلاق مفهوم الآية، وهو خال من أيِّ دليل أو قرنية.

2 - النّزول مكانيّ ومقامى

كما بيّنا سابقاً أن النّزول لا يرمز إِلى الحالة المكانية دوماً (أيْ النّزول من مكان عال إِلى أسفل)، بل يرمز إِلى النّزول المقامي في بعض الموارد، فمثلا... في حال وصول نعمة من شخص ذي شأن إِلى من هم أقل منه شأناً، فإنّه يعبر عنها بالنّزول.

وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مورد النعم الإِلهية، سواء كانت نازلة من السماء إِلى الأرض كالمطر، أو ما يتوالد على الأرض كالحيوانات، وهذا ما نلاحظه في الآية السادسة من سورة الزمر (وأنزلنا لكم من الأنعام ثمانية أزواج)، وكذلك في الآية الخامسة والعشرين من سورة الحديد، بشأن الحديد، (وأنزلنا الحديد) ... الخ.

خلاصة القول:

إِنّ (نزول) و(إِنزال) هنا بمعنى وجود وإِيجاد وخلق ، وما استعمال هذا اللفظ إِلاّ لأنّها نعم اللّه عزَّ وجلّ التي وهبها لعباده.


1 ـ تفسير الجواهر، ج8، ص11.

2 ـ تفسير الجواهر، ج18، ص10.

3 ـ القرآن على مر العصور، ع . نوفل.

4 ـ راجع تفسير البرهان، ج2، ص310.

5 ـ سفينة البحار، ج2، ص9.

6 ـ الأنعام، 97.

7 ـ نور الثقلين، ج1، ص750.