الآيات 1 - 5
﴿الر تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَبِ وقُرْءَان مُّبِين1 رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذيِنَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ2 ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ ويَتَمَتَّعُواْ ويُلْهِهِمُ الأَْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ3 وَمَآ أَهْلَكنَا مِن قَرْيَة إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ4 مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِروُنَ5﴾
التّفسير
الأماني الزّائفة!!
سورة أُخرى تفتتح بالحروف المقطعة (ألف، لام، وراء) لتبيّن من جديد أنّ مفردات كتاب نور السماء إَلى ظلام أهل الأرض، ما هي إِلاّ عين تلك الأبجدية التي تلوك ألفاظها ألسن كل البشر، صغيرهم وكبيرهم، بين مختلف اللغات، ومع ذلك فلا يستطيع أي مخلوق الوصول لبناء وتركيب كلام القرآن، وهو ذروة التحدي الرباني المعجز، وعليه فقد جاءت (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) مباشرة.
كما نعلم أنّ "تلك" اسم إِشارة للبعيد، والمفروض في هذا الموضع استعمال اسم الإِشارة (هذه) باعتباره يدل على القرب، لأنّ القرآن كتاب بين أيدينا، إِلاّ إنّ لغة العرب - كما بيّنا سابقاً - تسمح بذلك لبيان عظمة المشار إِليه، فالمراد أنّ لشأن القرآن عظمةً، وكأنّه في موضع بعيد جدّاً بين طيات السماء لا يناله إِلاّ منْ مَلَكَ مستلزمات التحليق إِليه.
ويقارب ذلك ما نتداوله فيما بيّننا عند تعظيم شخص معين فنقول له مثلا: (إنْ سمح لنا ذلك السّيد أنْ...) فنستعمل (ذلك) مع كون الشخص مخاطباً.
وأمّا بشأن مجيء صيغة "قرآن" نكرة فلبيان عظمته أيضاً، وذكر "القرآن" بعد "الكتاب" تأكيدٌ، ووصفه بال- "مبين" لأنّه يظهر الحقائق ويبيّن الحق من الباطل.
وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد بكلمة "الكتاب" إِشارة إِلى التوراة والإَنجيل، فهو كما يبدو بعيد جدّاً ويفتقد الى الدليل.
ثمّ يحذر الذين يصرون على الفساد ومخالفة آيات اللّه الجلية، ويخبر بأنّهم سوف يندمون حين ينكشف الغطاء يوم القيامة بما كسبت أيديهم من كفر وتعصب أعمى وعناد.
ويقول: (ربّما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين).
فالمراد بكلمة "يود" التمني حسب ما ورد في تفسير الميزان، وذكر كلمة "لو" للدلالة على تمنيهم الإسلام في وقت لا يمكنهم فيه العودة إلى ما كانوا ينكرون، وهذه إشارة إلى أن تمنيهم سيكون في العالم الآخر وبعد معاينة نتائج الاعمال.
ويؤيد هذا المعنى وما ورد عن الإِمام الصّادق (عليه السلام) قوله: "ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق إنّه لا يدخل الجنّة إلا مسلم، فثمّ يود سائر الخلائق أنّهم كانوا مسلمين".(1)
وروي أيضاً عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "إذا اجتمع أهل النّار في النّار ومعهم مَنْ يشاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين، قالو: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النّار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب (كبائر) فأخذنا بها (وهذا الاعتراف بالذنب والتقصير ولوم الأعداء يكون سبباً لأن) يسمع اللّه عزَّ وجلّ ما قالوا فأمر مَنْ كان في النّار من أهل الإِسلام فأُخرجوا منها فحينئذ يقول الكفار: يا ليتنا كنّا مسلمين".(2)
وربّما كان ظاهر الآية يوحي إِلى أُولئك الكفرة الذين ما زالت جذوة الفطرة تسري في أعماق وجدانهم، وحينما لمسوا من نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)تلك الآيات الرّبانية التي تناغي أوتار القلوب، لانت قلوبهم وتمنوا أَن لو يكونوا مسلمين، إِلاّ أنّ تعصبهم الأعمى وعنادهم القاتم، أو قل منافعهم المادية حجبتهم عن قبول دعوة الحق، وبذلك بقوا بين قضبان كفرهم واستحوذت عليهم أحابيل الكفر والضلال.
ذكر لنا أحد الأصدقاء من المؤمنين المجاهدين وكان قد سافر إِلى أوروبا قائلا: ذات مرّة التقيت بأحد المسيحيين - وكان رجلا منصفاً - وبعد أن بيّنت له بعض خصال ديننا، استهوته ومال إليها قائلا: أهنئكم من أعماقي على عظمة معتقدكم، ولكن - ماذا نصنع مع الضروف الاجتماعية التي أجبرتنا على أن لا نحيد عنها!!
ومن تاريخ الإِسلام نطالع ما حصل لقيصر الروم عندما وصله رسول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويذكر بأنّ القيصر قد أظهر الإِيمان سرّاً للرسول حتى أنّه رغب في دعوة قومه لدين التوحيد إِلاّ أنّه خاف قومه وفكر بامتحانهم ف- (أمر منادياً ينادي: ألا إِنّ هرقل قد ترك النصرانية واتبع دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأقبل جنده بأسلحتهم حتى طافوا بقصره، فأمر مناديه فنادى: ألا إِنّ قيصر إِنّما أراد أن يجرّبكم كيف صبركم على دينكم; فارجعوا فقد رضي عنكم.
ثمّ قال للرسول: إِنّي أخاف على ملكي.
وإِنّي لأعلم أنّ صاحبك نبيّ مرسل، والذي كنّا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكنّي أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته).(3)
وعلى أية حال، ينبغي التنويه بعدم وجود تعارض بين أيٍّ من التّفسيرين، فيمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة)، واعتبار عدم استطاعتهم العودة إِلى الإِسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات مختلفة - فتأمل.
ثمّ يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة، يا محمّد (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف، ولا تفهم سوى اللّذات المادية، وكل ما تريده لا يتعدى إِطار ما تعرف وتفهم.
إِنّهم لا يدركون فقه الحقائق، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم.
و لكن، عندما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم، وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم، وكيف أنّهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!!
الآية التالية توضح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنّما خالدة فتقول: (وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم) ثمّ يقول تعالى: (ما تسبق من أُمّة أجلها وما يستأخرون).
فقد سرت سنّة الباري جل شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إِلى بارئهم، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارةً، وبفيوضات رحمة الرخاء تارةً أُخرى، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإِنذار وهكذا، كل ذلك إِتماماً للحجة عليهم.
صحيح أنّ المصلحة الموجبة للتربية الربانية تقتضي (بعلم ربّ الأرباب) أن يمهل ولكنّه سبحانه لا يهمل، وعاجلا أم آجلاً سينال كلٌّ نصيبه بما كسبت يداه.
من الآيتين الآخيرتين، تتّضح لنا فلسفة تكرار آيات القرآن لذكر تأريخ الأُمم السابقة.
أفلا تكفينا قصص السابقين عبرة لإصلاح أنفسنا والرجوع إِلى اللّه تعالى؟ بل كيف نسترخي بالقعود حتى يقدّر علينا ما كتب على الذين ضلوا وظلموا من قبلنا؟ اذن وعلينا الإِعتبار، وإِلاّ فسنكون عبرة لمن سيأتي بعدنا.
ملاحظة
الغفلة وطول الأمل:
ممّا لا شك فيه أن الأمل بمثابة العامل المحرك لعجلة حياة الإنسان، فلو ارتفع الأمل يوماً من قلوب الناس لارتبكت مسيرة الحياة ولا تجد إّلا القليل ممن يجد في نفسه دافعاً لمواجهة صراع الحياة معه، والحديث النبوي الشريف: "الأمل رحمة لأُمتي، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجراً"(4)يشير لهذه الحقيقة.
وإِذا ما تجاوز الأمل حده المعقول فإِنّه سيتحول إِلى (طول أمل) وهو ما ينذر بالإِنحراف والهلاك، ومثله كمثل ماء المطر الذي يمثل عامل الحياة الفياض للأرض والنبات والحيوان، فلو زاد عن حدّ الحاجة إِليه، أصبح عاملا للغرق والهلاك.
وهذا الأمل القاتل هو أساس الجهل باللّه وعدم معرفة الحق والإبتعاد عن الحقيقة، ويؤدي الى تقوقع الانسان في دائرته الفردية بما ينسجه الخيال الواسع ويبتعد عن هدف وجود الإنسان على الأرض والمصير الذي يصبو إليه.
ويحدثنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن هذا المضمون بقوله "يا أيّها الناس، إِنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباعُ الهوى وطول الأمل; فأمّا اتّباع الهوى فيصدُّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فَيُنْسي الآخرة"(5).
حقاً، كم هم أولئك الذين امتازوا بالملكات الفائقة والكفاءات اللائقة، ولكنّهم سقطوا في شباك فخ طول الأمل فتحولوا إَلى موجودات ضعيفة، بل وممسوخة!! وأصبحوا لا يستطيعون تقديم شي لمجتمعهم، بل ضيّعوا حتى ما ينفع أنفسهم وأُثقِلُوا عمّا يسمون به إِلى التكامل.
وهذه الصورة نتلمس ملامحها بجلاء في دعاء كميل: "وحبسني عن نفعي بُعد أملي".
بديهي أنّ الأمل الذي يتجاوز الحد المعقول، يجعل الإِنسان عرضة للإِنهماك والعجز والإِضطراب، ويُصَوِّر لصاحبه أنّ هذه الحال ستوصله إِلى السعادة والرفاه، وما يدري أنّه يخطو صوب جرف الشقاء والنكد.
وغالباً ما تطوى صفحات هؤلاء بالدمعة الجارية والحسرة لما آل إِليه المآل ليكونوا عبرة لكل ذي عين بصيرة وأُذن سميعة.
1ـ تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 414.
2 ـ النساء، 93.
3 ـ صحيح البخاري ومسلم نقلا عن تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 323.
4 ـ هناك بحث مفصل في نهاية الآية (106) من سورة النحل، من التّفسير الأمثل حول الإرتداد، وفلسفة العقوبات الشديدة للمرتد.
5 ـ يراجع تفسير الآلوسي (روح المعاني) أثناء حديثه عن هذه الآية.