الآيات 28 - 30

﴿أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ 28 جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ 29 وَجَعِلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إلى النَّارِ30﴾

التّفسير

نهاية كفران النعم:

الخطاب في هذه الآيات موجّه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في الحقيقة عرض لواحد من موارد "الشجرة الخبيثة".

يقول تعالى أوّلا: (ألم تر إلى الذين بدّلوا...) إلى نهاية الآية.

هؤلاء هم جذور الشّجرة الخبيثة وقادة الكفر والإنحراف، لديهم أفضل نعمة وهو رسول الله، وبإستطاعتهم أن يستفيدوا منه في الطريق إلى السعادة، إلاّ أنّ تعصّبهم الأعمى وعنادهم وحقدهم صارت سبباً في تركهم هذه النعمة الكبيرة، ولم يقتصروا على تركها فحسب.

بل أضلّوا قومهم أيضاً ممّا جعلهم يسلكون هذا السلوك.

مع أنّ بعض المفسّرين الكبار عند متابعتهم للروايات الإسلامية فسّروا - أحياناً - هذه النعمة بوجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحياناً أُخرى بالأئمّة (عليهم السلام)، وفسّروا الكافرين بهذه النعمة "بني اُميّة" و "بني المغيرة" مرّةً، ومرّةً أُخرى جميع الكفّار الذين عاصروا عهد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن من المسلّم به أنّ للآية مفهوماً أوسع من هذا، وليس مختّصاً بمجموعة معيّنة، بل تشمل جميع الأفراد الذين يكفرون بالنعم الإلهيّة.

وتثبّت الآية ضمناً هذه الحقيقة، وهي أنّ الإستفادة من وجود القادة العظام تعود لنفس الإنسان، كما أنّ الكفر بهذه النعمة العظيمة يؤدّي إلى الهلاك والبوار.

ثمّ إنّ القرآن الكريم يُفسّر دار البوار بقوله تعالى: (جهنّم يصلونها وبئس القرار)(1).

ثمّ يشير في الآية الأُخرى إلى واحدة من أسوأ أنواع كفران النعم (وجعلوا لله أنداداً ليضلّوا عن سبيله) لكي يستفيدوا عدّة أيّام من حياتهم الماديّة ومن رئاستهم وحكومتهم في ظلّ الشرك والكفر لإضلال الناس عن طريق الحقّ.

أيّها النّبي (قل تمتّعوا فإنّ مصيركم إلى النار).

فحياتكم هذه شقاء ورئاستكم فاسدة، ومع ذلك فانّها تعدّ حياة لذيذة وسعيدة بالنسبة للنهاية التي تنتظرهم، كما نقرأ في آية أُخرى (قل تمتّع بكفرك قليلا إنّك من أصحاب النار).(2)

بحوث

1 - يقال في العبارات الدارجة: إنّ الشخص الفلاني كفر بنعمة الله، ولكن الآية أعلاه تقول: (الذين بدّلوا نعمت الله كفراً) إنّ هذا التعبير الخاص يدلّ على أحد أمرين:

ألف: المراد من تبديل "النعمة" إلى "كفران" هو عدم شكرهم لهذه النعم، فبدّلوا الشكر بالكفران (في الحقيقة كلمة الشكر مقدّرة، ففي التقدير: الذين بدّلوا شكر نعمة الله كفراً).

ب: - إنّ المقصود هو تبديلهم نفس "النعمة" "كفراً"، وفي الحقيقة فإنّ النعم الإلهيّة وسائل، وطريقة إستعمالها مرتبطة بإرادة الإنسان، فمثلما يمكن أن نستفيد منها في طريق السعادة والإيمان والعمل الصالح، يمكن أن نستعملها كذلك في مسير الكفر والظلم والفساد، فهي كالمواد الأوّلية التي يمكن بمساعدتها الحصول على أنواع مختلفة من الإنتاج، إلاّ أنّها خُلقت في الأصل للخير والسعادة.

2 - ليس "كفران النعم" عدم الشكر اللساني فقط، بل كلّ إستفادة غير صحيحة ومنحرفة للنعم، تلك هي حقيقة الكفران، وأمّا عدم الشكر باللسان ففي الدرجة الثانية، وكما قلنا سابقاً فإنّ شكر النعمة تعني صرفها في الهدف الذي خُلِقَت من أجله، والشكر عليها باللسان يأتي في الدرجة الثانية، فإذا قلنا آلاف المرّات: الحمد لله، ولكنّنا أسأنا عمليّاً الإستفادة من النعم، فذلك كفران للنعم.

وفي عصرنا الحاضر أفضل نموذج لتبديل النعم بالكفران هو إستخدام الإنسان لمواهب الطبيعة بفكره ومهارته التي منحها الله للإنسان لخدمة منافعه الخاصّة.

فالإكتشافات العلميّة والخبرات الصناعية غيّرت وجه العالم ورفعت عن كاهل الإنسان عبئاً ثقيلا ووضعته على عجلات المعامل.

فالمواهب والنعم الإلهيّة أكثر من أي زمن آخر، ووسائل نشر المعارف وإنتشار العلوم ومعرفة جميع أخبار العالم متوفّرة في أيدي الجميع، فيجب على الناس في هذا العصر أن يكونوا سعداء من الناحية الماديّة والمعنوية.

ولكن بسبب تبديل النعم الإلهيّة الكبيرة إلى كفران، وصرف القوى الطبيعيّة في طريق الظلم والطغيان وإستخدام الإختراعات والإكتشافات في طريق الأهداف المخربة بحيث أنّ كلّ تطور صناعي يستخدم أوّلا في عمليات التدمير.

وخلاصة القول: إنّ عدم الشكر هذا والذي هو بعيد عن التعاليم الصالحة للأنبياء أدّى إلى أن يجرّوا قومهم ومجتمعهم إلى دار البوار.

ودار البوار هذه هي مجموعة من الحروب الإقليميّة والعالميّة بكلّ آثارها التخريبيّة، وكذلك عدم الأمن والظلم والفساد والإستعمار حيث يبتلي بها في النهاية المؤسّسون لها أيضاً، كما رأينا في السابق ونراه اليوم.

وما ألطف تصوير القرآن حيث جعل مصير كلّ الأقوام والاُمم التي كفرت بأنعم الله إلى دار البوار.

3 - "أنداد" جمع "ندّ" بمعنى "المثل" ولكن الراغب في مفرداته والزبيدي في تاج العروس قالا: إنّ "الندّ" يقال للشيء الذي يشابه الشيء الآخر جوهرياً، و "المثل" يطلق على كلّ شيء شبيه لشيء، ولذلك فالندّ له معنى أعمق وأدقّ من المثل.

وطبقاً لهذا المعنى نستفيد من الآية أعلاه أنّ أئمّة الكفر كانوا يسعون لأن يجعلوا لله شركاء ويشبهوهم في جوهر ذاتهم بالله عزّوجلّ، لكي يضلّوا الناس عن عبادة الله ويحصلوا على مقاصدهم الشريرة.

فتارةً يقرّبون لهؤلاء الشركاء القرابين، وأُخرى يجعلون قسماً من النعم الإلهيّة (كبعض الأنعام) مخصوصة للأصنام، ويعتقدون أحياناً بعبادتها.

وأوقح من ذلك كلّه كانوا يقولون أثناء حجّهم في عصر الجاهلية: (لبّيك لا شريك لك - إلاّ شريك هو لك - تملكه وما ملك)(3).


1- البحار، ج3، مطبعة كمباني ص377.

2- المصدر السابق، ص382.

3- البحار، ج2، ص607.