الآيات 24 - 27
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ 24 تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الاَْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ25 وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيثَة كَشَجَرَة خَبِيثَة اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاَْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَار 26 يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الاَْخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّلِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ27﴾
التّفسير
الشّجرة الطيّبة والشّجرة الخبيثة!
هنا مشهد آخر في تجسيم الحقّ والباطل، الكفر والإيمان، الطيّب والخبيث ضمن مثال واحد جميل وعميق المعنى... يُكمل البحوث السابقة في هذا الباب.
يقول تعالى أوّلا: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيّبة كشجرة طيّبة) ثمّ يشير إلى خصائص هذه الشجرة الطيّبة في جميع أبعادها ضمن عبارات قصيرة.
ولكن قبل أن نستعرض هذه الخصائص يجب أن نعرف ما المقصود من"الكلمة الطيّبة"؟
قال بعض المفسّرين: إنّها كلمة التوحيد (لا إله إلاّ الله).
وقال آخرون: إنّها تشير إلى الأوامر الإلهيّة.
وقال البعض الآخر: إنّه الإيمان الذي محتواه ومفهومه (لا إله إلاّ الله).
وقال آخرون في تفسيرها: إنّها شخص المؤمن.
وأخيراً قال بعضهم: إنّها الطريقة والبرامج العمليّة.
ولكن بالنظر إلى سعة مفهوم ومحتوى الكلمة الطيّبة نستطيع أن نقول: إنّها تشمل جميع هذه الأقوال، لأنّ "الكلمة" في معناها الواسع تشمل جميع الموجودات، ولهذا السبب يقال للمخلوقات "كلمة الله".
و "الطيّب" كلّ طاهر ونظيف، فالنتيجة من هذا المثال أنّه يشمل كلّ سنّة ودستور وبرنامج وطريقة، وكلّ عمل، وكلّ إنسان... والخلاصة: كلّ موجود طاهر ونظيف وذي بركة، وجميعها كشجرة طيّبة فيها الخصائص التالية:
1 - كائن يمتلك الحركة والنمو، وليس جامداً ولا خاملا، بل ثابت وفاعل ومبدع للآخرين ولنفسه (التعبير بـ"الشجرة" بيان لهذه الحقيقة).
2 - هذه الشجرة طيّبة، ولكن من أيّة جهة؟ بما أنّه لم يذكر لها قسم خاص بها، فإنّها طيّبة من كلّ جهة... منظرها، ثمارها، أزهارها، ظلالها، ونسيمها جميعها طيب وطاهر.
3 - لهذه الشجرة نظام دقيق، لها جذور وأغصان، وكلّ واحد له وظيفته الخاصّة، فوجود الأصل والفرع فيها دليل على سيادة النظام الدقيق عليها.
4 - أصلها ثابت محكم بشكل لا يمكن أن يقلعها الطوفان ولا العواصف.
وبإستطاعتها أن تحفظ أغصانها العالية في الفضاء وتحت نور الشمس، لأنّ الغصن كلّما كان عالياً يحتاج إلى جذور قوّية (أصلها ثابت).
5 - إنّ أغصان هذه الشجرة الطيّبة ليست في محيط ضيّق ولا رديء، بل مقرّها في عنان السّماء، وهذه الأغصان والفروع تشقّ الهواء وتصعد فيه عالياً (وفرعها في السّماء).
ومن الواضح أنّ الأغصان كلّما كانت عالية وسامقة تكون بعيدة عن التلوّث والغبار وتصبح ثمارها نظيفة، وتستفيد أكثر من نور الشمس والهواء الطلق، فتكون ثمارها طيّبة جدّاً(1).
6 - هذه الشجرة كثيرة الثمر لا كالأشجار الذابلة العديمة الثمر، ولذلك فهي كثيرة العطاء (تؤتي اُكلها).
7 - وثمارها ليست فصلية، بل في كلّ فصل وزمان، فإذا أردنا أن نمدّ يدنا إلى أغصانها في أي وقت لم نرجع خائبين (كلّ حين).
8 - إنّ إنتاجها من الثمار يكون وفق قوانين الخلقة والسنن الإلهيّة وليس بدون حساب (بإذن ربّها).
والآن يجب أن نفتّش، أين نجد هذه الخصائص والبركات؟
نجدها بالتأكيد في كلمة التوحيد ومحتواها، وفي الإنسان الموحّد ذي المعرفة، وفي البرامج الحيّة النظيفة، وجميعها نامية ومتحرّكة ولها اُصول ثابتة ومحكمة وفروع كثيرة وعالية بعيدة عن التلوّث بالأدران الجسديّة والدنيوية، وكلّها مثمرة وفيّاضة.
وما من أحد يأتي إليها ويمدّ يده إلى فروعها إلاّ ويستفيد من ثمارها اللذيذة العطرة، وتتحقّق فيه الخصال المذكورة، فعواصف الأحداث الصعبة والمشاكل الكبيرة لا تزحزحه من مكانه، ولا يتحدد، واُفق تفكيره في هذه الدنيا الصغيرة، بل يشقّ حجب الزمان والمكان ويسير نحو المطلق اللامتناهي.
سلوكهم وبرامجهم ليست تابعة للهوى والهوس، بل طبقاً للأوامر الإلهيّة وبإذن ربّهم، وهذا هو مصدر الحركة والنمو في حركتهم.
الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيّبة، وحياتهم أصل البركة، دعوتهم توجب الحركة، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم... وحتّى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومُربّية.
نعم (ويضرب الله الأمثال للناس لعلّهم يتذكرّون).
وهناك سؤال مطروح بين المفسّرين وهو: هل لوجود هذه الشجرة وصفاتها واقع خارجي؟
يعتقد البعض بوجودها وهي النخلة، ولذلك اضطروا إلى أن يفسّروا (كلّ حين) بستّة أشهر.
ولكن لا حاجة إلى الإصرار في وجود مثل هذه الشجرة، بل هناك تشبيهات كثيرة وليس لها وجود خارجي أصلا.
وعلى أيّة حال، فالهدف من التشبيه هو تجسيم الحقائق والمسائل العقليّة وصبّها في قالب الحواس، وهذه الأمثال ليس فيها أي إبهام، بل هي مقبولة ومؤثّرة وجذّابة.
وفي عين الحال هناك أشجاراً في هذه الدنيا ثمارها لا تنقطع على طول السنة، وقد رأينا بعض الأشجار في المناطق الحارّة وكانت مثمرة وفي نفس الوقت لها أزهار جديدة للثمار المقبلة!
وبما أنّ أحد أفضل الطرق لتوضيح المسائل هو الإستفادة من طريق المقابلة والمقايسة، فقد جعلت النقطة المقابلة للشجرة الطيّبة، الشجرة الخبيثة (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة إجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار).
والكلمة "الخبيثة" هي كلمة الكفر والشرك، وهي القول السيء والرديء، وهي البرنامج الضالّ والمنحرف، والناس الخبثاء، والخلاصة: هي كلّ خبيث ونجس.
ومن البديهي أنّ مثل هذه الشجرة ليس لها أصل، ولا نمو ولا تكامل ولا ثمار ولا ظلّ ولا ثبات ولا إستقرار، بل هي قطعة خشبيّة لا تصلح إلاّ للإشتعال... بل أكثر من ذلك هي قاطعة للطريق وتزاحم السائرين وأحياناً تؤذي الناس!
ومن الطريف أنّ القرآن الكريم فصل الحديث في وصف الشجرة الطيّبة بينما إكتفى في وصف الشجرة الخبيثة بجملة قصيرة واحدة (اجتّثت من فوق الأرض وما لها من قرار)، وهذا نوع من لطافة البيان أن يتابع الإنسان جميع خصوصيات ذكر "المحبوب" بينما يمرّ بسرعة في جملة واحدة بذكر "المبغوض"!
ومرّة أُخرى نجد المفسّرين إختلفوا في تفسير الشجرة الخبيثة، وهل لها واقع خارجي؟
قال البعض: إنّها شجرة "الحنظل" والتي لها ثمار مرّة ورديئة.
واعتقد آخرون أنّها "الكشوت" وهي نوع من الأعشاب المعقّدة التي تنبت في الصحراء ولها أشواك قصيرة تلتفّ حولها وليس لها جذر ولا أوراق.
وكما قلنا في تفسير الشجرة الطيّبة، ليس من اللازم أن يكون للشجرة الخبيثة وجود خارجي في جميع صفاتها، بل الهدف هو تجسيم الوجه الحقيقي لكلمة الشرك والبرامج المنحرفة والناس الخبثاء، وهؤلاء كالشجرة الخبيثة ليس لها ثمار ولا فائدة... إلاّ المتاعب والمشاكل.
مضافاً إلى أنّ الأشجار والنباتات الخبيثة التي قلعتها الأعاصير ليست قليلة.
وبما أنّ الآيات السابقة جسّدت حال الإيمان والكفر، الطيّب والخبيث من خلال مثالين صريحين، فإنّ الآية الأخيرة تبحث نتيجة عملهم ومصيرهم النهائي، يقول تعالى: (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)لأنّ إيمانهم لم يكن إيماناً سطحياً وشخصيتهم لم تكن كاذبة ومتلوّنة، بل كانت شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وبما أنّ ليس هناك من لا يحتاج إلى اللطف الإلهي، وبعبارة أُخرى: كلّ المواهب تعود لذاته المقدّسة، فالمؤمنون المخلصون الثابتون بالإستناد إلى اللطف الإلهي يستقيمون كالجبال في مقابل أيّة حادثة.
والله تعالى يحفظهم من الزلاّت التي تعتريهم في حياتهم.
ومن الشياطين الذين يوسوسون لهم زُخرف الحياة ليزلّوهم عن الطريق.
وكذلك فالله تعالى يثبّتهم أمام القوى الجهنّمية للظالمين القُساة، الذين يسعون لإخضاعهم بأنواع التهديد والوعيد.
ومن الطريف أنّ هذا الحفظ والتثبّت الإلهيين يستوعبان كلّ حياتهم في هذه الدنيا وفي الآخرة، فهنا يثبّتون بالإيمان ويبرؤون من الذنوب، وهناك يُخلدون في النعيم المقيم.
ثمّ يشير إلى النقطة المقابلة لهم (ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء).
قلنا مراراً: إنّ الهداية والضلال التي تنسب إلى الله عزّوجلّ لا تتحقّقان إلاّ بأن يرفع الإنسان القدم الأوّل لها، فالله عزّوجلّ عندما يسلب المواهب والنعم من العبد أو يمنحها له يكون ذلك بسبب إستحقاقه أو عدم إستحقاقه.
ووصف "الظالمين" بعد جملة "يضلّ الله" أفضل قرينة لهذا الموضوع، يعني ما دام الإنسان غير ملوّث بالظلم لا تسلب الهداية منه، أمّا إذا تلوّث بالظلم وعمّت وجوده الذنوب، فسوف يخرج من قلبه نور الهداية الإلهيّة، وهذه عين الإرادة الحرّة.
وبالطبع إذا غيّر مسيره بسرعة فطريق النجاة مفتوح له، ولكن إذا إستحكم الذنب فإنّ طريق العودة يكون صعباً جدّاً.
بحوث
1 - هل القصد من الآخرة في الآية هو القبر؟
نقرأ في روايات متعدّدة أنّ الله يثبت الإنسان على خطّ الإيمان عندما يواجه أسئلة الملائكة في القبر، وهذا معنى الآية (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).
ولقد وردت كلمة "القبر" بصراحة في بعض هذه الرّوايات (2).
ولكن هناك رواية شريفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "إنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضلّه عمّا هو عليه، فيأبى الله عزّوجلّ له ذلك، وهو قول الله عزّوجلّ: (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)(3).
وأكثر المفسّرين يميلون إلى هذا التّفسير، طبقاً لما نقله المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الآخرة ليست محلا للأعمال ولا للإنحراف، بل هي محلّ الحصول على النتائج فحسب ولكن عند وقوع الموت وحتّى في البرزخ (الذي هو عالم بين الدنيا والآخرة) قد تحصل بعض الهفوات، فهنا يكون اللطف الإلهي عاملاً في حفظ وثبات الإنسان.
2 - دور الثبات والإستقامة
من بين جميع الصفات التي ذكرتها الآيات أعلاه للشجرة الطيّبة والخبيثة، وردت مسألة الثبات وعدم الثبات بشكل أكثر، وحتّى في بيان ثمار هذه الشجرة يقول تعالى: (يثبّت الله الذين آمنوا) وبهذا الترتيب تتّضح لنا أهميّة الثبات ودوره في حياة الإنسان.
فكثير من الأشخاص من ذوي القابليات المتوسطة، إلاّ أنّهم ينالون إنتصارات كبيرة في حياتهم، ثمّ إذا حقّقنا في الأمر لم نجد دليلا إلاّ الثبات والإستقامة لديهم.
ومن جهة إجتماعية لا يتحقّق أي تقدّم في البرامج إلاّ في ظلّ الثبات، ولهذا السبب نجد المخرّبين يسعون في تدمير الإستقامة، ولا نعرف المؤمنين الصادقين إلاّ من خلال إستقامتهم وثباتهم في مقابل الحوادث الصعبة.
3 - الشجرة الطيّبة والخبيثة في الرّوايات الإسلامية
كما قلنا أعلاه فإنّ كلمة "الطيّبة" و "الخبيثة" التي شبّهت الشجرتان بها، لها مفهوم واسع بحيث تشمل كلّ شخص وبرنامج ومبدأ وفكر وعلم وقول وعمل، ولكن وردت في بعض الرّوايات في موارد خاصّة ولكن لا تنحصر بها.
ومن جملتها ما ورد في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية (كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء) قال: "رسول الله أصلها وأمير المؤمنين فرعها، والأئمّة من ذرّيتهما أغصانها، وعلم الأئمّة ثمرها، وشيعتهم المؤمنون ورقها، هل فيها فضل؟" (أي هل يبقى شيء) قال قلت: لا والله، قال: "والله إنّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، وإنّ المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها"(4).
وعنه أيضاً (عليه السلام) حينما سأله سائل عن معنى الآية (تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها) قال: "ذاك علم الأئمّة يأتيكم كلّ عام من كلّ المناطق"(5).
وفي رواية أُخرى: "الشجرة الطيّبة رسول الله وعلي وفاطمة وبنوها، والشجرة الخبيثة بنو اُميّة"(6).
وفي بعضها الآخر فسّرت الشجرة الطيّبة بالنخل والخبيثة بالحنظلة.
وعلى أيّة حال ليس هناك من تضادّ بين هذه التفاسير، بل بينها وبين ما قلناه أعلاه ترابط وتنسبق، لأنّها مصاديقها.
1- المصدر السابق.
2- النازعات، 40.
3- الرحمان، 46.
4- تفسير القرطبي، ص3579.
5- للإطلاع أكثر راجع تفسير الآية (217) من سورة البقرة من تفسيرنا هذا.
6- يوسف، 90.