الآيات 21 - 23
﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَاب اللهِ مِن شَىْء قَالُوا لَوْ هَدَينَا اللهُ لَهَدَيْنَكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيص 21 وَقَالَ الشَّيْطَنُ لَمَّا قُضِىَ الاَْمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَن إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 22 وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جَنَّت تَجْرِى مِن تَحْتَهِا الاَْنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَمٌ 23﴾
التّفسير
المحادثة الصريحة بين الشيطان وأتباعه:
أشارت الآيات السابقة إلى العقاب الشديد للمخالفين والمعاندين والكافرين، وهذه الآيات تكمل ذاك البحث.
يقول تعالى أوّلا: (وبرزوا لله جميعاً)(1).
وفي هذه الأثناء يقول الضعفاء الذين تاهوا في وادي الضلالة للمستكبرين الذين كانوا سبب ضلالهم (فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء) فيجيبونهم بدون توقّف (قالوا لو هدانا الله لهديناكم).
ولكن للأسف فالمسألة منتهية (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص).
ملاحظات
1 - ما هو المراد من (وبرزوا لله جميعاً)؟
أوّل سؤال يطرح بخصوص هذه الآية هو: هل أنّ الناس في هذه الدنيا غير ظاهرين في علم الله لكي تقول الآية: (وبرزوا لله جميعاً)؟
في الجواب على هذا السؤال قال كثير من المفسّرين: إنّ المقصود عدم إحساس الناس بهذا الظهور والبروز أمام الله في هذه الدنيا، فيكون إحساسهم ظاهراً لهم في الآخرة.
وقال بعض أيضاً: المقصود هو البروز والظهور من القبور في ساحة العدل الإلهي للحساب.
هذان التّفسيران جيدان وليس هناك مانع من أن تجمعا في مفهوم الآية.
2 - ما هو المقصود من جملة (لو هدانا الله لهديناكم)؟
يعتقد كثير من المفسّرين أنّ المقصود الهداية عن طريق النجاة من العقاب الإلهي في ذلك العالم، لأنّ هذا الحديث قاله المستكبرون لأتباعهم حينما طلبوا منهم أن يغنوا عنهم قسماً من العذاب، فالسؤال والجواب متناسبان ويوحيان أنّ المقصود هو هدايتهم للنجاة من العذاب.
وقد إستخدم القرآن هذه الكلمة "الهداية" بخصوص الوصول إلى نعم الجنّة، كما يقول أهل الجنّة: (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله).(2)
وهناك إحتمال أنّ "قادة الضلالة" حينما يرون أنفسهم أمام طلب أتباعهم، ولكي يتنصّلوا من الذنب ويلقوا باللائمة على الغير، كما هي طريقة كلّ المستكبرين - يقولون بكلّ وقاحة: ماذا نعمل؟ فلو كان الله قد هدانا إلى الطريق الصحيح لهديناكم إليه! ومعناه أنّنا مجبورون على ذلك وليست لنا إرادة حرّة.
وهذا هو منطق الشيطان بعينه، أو ليس هو القائل (فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم)؟ ولكن يجب أن يعلم المستكبرون أنّهم يتحمّلون مسؤولية ذنوب أتباعهم شاؤوا أم أبوا، طبقاً لصريح القرآن والرّوايات، لأنّهم المؤسّسون للإنحراف والضلال دون أن ينقص أي شيء من عذاب أتباعهم.
3 - أوضح بيان في ذمّ التقليد الأعمى
يتّضح لنا من الآية أعلاه ما يلي:
أوّلا: الأشخاص الذين يضعون زمام اُمورهم بيد الآخرين هم ضعفاء الشخصيّة، وقد عبّر عنهم القرآن الكريم بـ(الضعفاء).
ثانياً: إنّ مصيرهم ومصير قادتهم واحد، وهؤلاء البؤساء لا يستطيعون حتّى في أحلك الظروف أن يستفيدوا من حماية قادتهم المضلّين، أو أنّ يخفّفوا عنهم قليلا من العذاب، بل يسخرون منهم ويقولون لهم: لا تجزعوا ولا تفزعوا فلا طريق للخلاص والنجاة من العذاب!
ثالثاً: "برزوا" في الأصل من مادّة "البروز" أي الظهور أو الخروج من الصفّ في مقابل الخصم في ساحة القتال، وتأتي أيضاً بمعنى المقاتلة.
"المحيص" من "المحص" بمعنى التخلّص من العيوب أو الألم.
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى موقف آخر من مواقف القيامة والعقاب النفسي للجبّارين والمذنبين وأتباعهم الشياطين، حيث يقول تعالى: (وقال الشيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم) وبهذا الترتيب فالشيطان وجميع المستكبرين الذين هم قادة طرق الضلال، أصبحوا يلومون ويوبّخون تابعيهم البؤساء.
ثمّ يضيف (وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي)ويستمرّ في القول (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم).
أنتم فعلتم فاللعنة عليكم!!
وعلى كلّ حال فلا أنا أستطيع إنقاذكم من العذاب ولا أنتم تستطيعون إنقاذي: (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) والآن اُعلمكم بأنّي أتبرّأ من شرككم وإطاعتكم لي (إنّي كفرت بما أشركتمون من قبل) فقد فهمت الآن أنّ الشرك في الطاعة أدّى إلى شقائي وشقائكم، وهذه التعاسة ليس لها طريق للنجاة، واعلموا (إنّ الظالمين لهم عذاب أليم).
بحوث
1 - جواب الشيطان الحاسم لأتباعه
مع أنّ كلمة "الشيطان"(3) لها مفهوم واسع وتشمل كلّ الطواغيت ووساوس الجنّ والإنس، ولكن في قراءتنا لهذه الآية وما قبلها علمنا أنّ المقصود هنا هو شخص إبليس الذي يعتبر رئيساً للشياطين، ولذلك إنتخب جميع المفسّرين هذا التّفسير أيضاً.
ونستفيد بشكل أكيد من هذه الآية أنّ وساوس الشيطان لا تسلب الإنسان إختياره وحرية إرادته، بل هي مجرّد دعوة ليس أكثر، فالناس هم الذين يلبّون دعوته بإرادتهم، وقد تصل الأرضيّة السابقة والدوام على الخلاف بالإنسان إلى حالة من سلب الإختيار في مقابل وساوسه، كما نشاهد بعض المدمنين على المخدرات، ولكن نعلم أنّ السبب الأوّل كان هو الإختيار.
يقول تعالى في الآية (100) من سورة النحل: (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون).
وعلى هذا فالشيطان يجيب بشكل قاطع على الذين يعتبرونه العامل الأوّل في إنحرافهم وضلالهم، وما يقوله بعض الجهلاء لتبرئتهم من ذنوبهم، فإنّ السلطان الحقيقي على الإنسان هو إرادته وعمله ولا شيء غيره.
2 - كيف إستطاع الشيطان أن يلتقي باتّباعه ويلومهم في ذاك الموقف الكبير؟
الجواب: هو أنّ الله تعالى يمنحه القدرة على ذلك، وهذا في الواقع نوع من العقاب النفسي لأتباع الشيطان، وإنذار لكلّ السائرين في طريقه في هذه الدنيا، لكي يعلموا من الآن مصيرهم ومصير قادتهم، وعلى أيّة حال فالله تعالى بطريقة ما يهيىء وسيلة الإرتباط بين الشيطان وأتباعه.
ومن الطّريف أنّ هذه المواجهة غير منحصرة بالشيطان وأتباعه، بل إنّ جميع أئمّة الضلالة في هذا العالم لهم نفس البرنامج أيضاً، يأخذون بأيدي أتباعهم (بموافقتهم طبعاً) ويذهبون بهم إلى أمواج العذاب والبلاء، وحينما يرون الأوضاع سيّئة يتركونهم وشأنهم حتّى إنّهم يلومونهم ويوبّخونهم في خسران الدنيا والآخرة.
3 - "المصرخ" من مادّة "إصراخ" وفي الأصل من مادّة "صرخ"، وهي بمعنى الإغاثة وطلب المساعدة، ولذلك فالمصرخ بمعنى المغيث، والمستصرخ طالب الإستغاثة.
4 - القصد من إتّخاذ الكفّار الشيطان شريكاً في الآية أعلاه شرك الطاعة وليس شرك العبادة.
5 - في أنّ جملة (إنّ الظالمين لهم عذاب أليم) تابعة لحديث الشيطان أم كلام مستقل من الله تعالى، هناك آراء مختلفة عند المفسّرين، لكن التّفسير الأقرب هو أنّ الجملة مستقلّة ومن كلام الله حيث قالها في نهاية حديث الشيطان مع أتباعه لتكون درساً تربويّاً.
وبعد بيان حال الجبّارين والظالمين ومصيرهم المؤلم، تتطرّق الآية الأخيرة من هذا البحث إلى حال المؤمنين وعاقبتهم حيث يقول تعالى: (وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار) إلى آخر الآية.
"التحيّة" في الأصل "الحياة" وتستعمل لسلامة وحياة الأفراد، وتطلق لكلّ تحيّة وسلام ودعاء في بداية اللقاء.
قال بعض المفسّرين: "التحية" هنا من الله للمؤمنين قرينةً على نعمهم وسلامتهم من كلّ أذىً ونزاع (لذلك فتحيّتهم إضافة لمفعول، وفاعله الله).
وقال البعض الآخر: إنّ القصد هو تحيّة المؤمنين فيما بينهم، أو تحيّة الملائكة لهم، وعلى أيّة حال فـ"سلام" التي قيلت بشكل مطلق لها من المفهوم الواسع بحيث يشمل كلّ سلامة من أي نوع من أنواع العذاب الروحي والجسمي(4).
1- سفينة البحار، المجلد الثّاني، ص682.
2- تفسير الفخر الرازي ذيل الآية.
3- للتوضيح أكثر راجع تفسير الآية (43) من سورة المائدة من تفسيرنا هذا.
4- نور الثقلين، ج2، ص532.