الآيات 13 - 17
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلَهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّلِمِينَ 13 وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الاَْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ 14 وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّار عَنِيد15 مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيد16 يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَان وَمَا هُو بِمَيِّت وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ 17﴾
التّفسير
خطط الجبّارين المعاندين ومصيرهم!
عندما يعلم الظالمون بضعف منطقهم وعقيدتهم، يتركون الإستدلال، ويلجأون إلى القوّة والعنف، ونقرأ هنا أنّ الأقوام الكافرة العنيدة عندما سمعوا منطق الأنبياء المتين والواضح قالوا لرسلهم: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملّتنا) وكأنّ هؤلاء القوم يعتبرون جميع ما
في الأرض ملكهم، حتّى أنّهم لم يمنحوا لرسلهم حقوق المواطنة، ولذلك يقولون "أرضنا".
وفي الحقيقة فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وكلّ مواهبها للصالحين، وهؤلاء الجبابرة في الواقع ليس لهم أي حقّ فيها.
وقد يتوهّم البعض أنّ جملة (لتعودنّ في ملّتنا) إشارة إلى أنّ الأنبياء السابقين كانوا من أنصار عبادة الأصنام، مع أنّ الحقيقة ليست كذلك، لأنّهم - وبصرف النظر عن كونهم معصومين حتّى قبل نبوّتهم - فعقلهم ودرايتهم كان أكبر من أن يفعلوا هذا العمل غير الحكيم، فيسجدوا أمام الأحجار والأخشاب.
ويمكن أن يكون هذا التعبير بسبب أنّ الأنبياء قبل بعثهم لم يؤمروا بالتبليغ، فسكوتهم أوجد هذا الوهم بأنّهم من المشركين.
بالإضافة إلى أنّ الخطاب وإن كان موجّهاً للرسل، إلاّ أنّه في الواقع يشمل حتّى الأصحاب، ونعلم أنّهم كانوا مع المشركين من قبل، فنظر المشركين كان منصرفاً إلى الأصحاب فقط، وتعبير "لتعودنّ" من باب التغليب (يعني حكم الأكثرية يسري على العموم).
وهناك جواب آخر لهذا الوهم وهو أنّ "عود" إذا عدّيت بـ"إلى" يكون معناها الرجوع، وإذا عُدِيَت بـ"في" فتفيد تغيير الحال... لذلك فمعنى الآية (لتعودنّ في ملّتنا) يكون مفهومها أن تغيّروا من حالكم وتدخلوا في ملّتنا، وقد إختار هذا المعنى العلاّمة الطباطبائي في الميزان، ولكن عند مراجعتنا لبعض الآيات ومنها (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اُعيدوا فيها) تبيّن أن "عود" حتّى لو عُدّيت بـ"في" فمعناها الرجوع أيضاً (فتدبّر).
ثمّ يضيف القرآن الكريم لتسلية قلوب الأنبياء (فأوحى إليهم ربّهم لنهلكنّ الظالمين) فلا تخافوا من وعيدهم، ولا تُظهروا الضعف في إرادتكم.
وبما أنّ الظالمين كانوا يهدّدون الأنبياء بالتبعيد عن أرضهم، فإنّ الله في مقابل ذلك كان يعد الأنبياء (ولنسكننكم الأرض من بعدهم) ولكن هذا النصر والتوفيق لا يناله إلاّ (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) فلطفه ومنّه ليس بدون حساب ودليل، ولا يناله إلاّ من أحسّ بمسؤوليته في مقابل العدل الإلهي، لا الظالمين والمعاندين لطريق الحقّ.
وحين إنقطعت الأسباب بالأنبياء من كلّ جانب، وأدّوا جميع وظائفهم في قومهم، فآمن منهم من آمن، وبقي على الكفر من بقي، وبلغ ظلم الظالمين مداه، في هذه الأثناء طلبوا النصر من الله تعالى (واستفتحوا...) وقد استجاب اللّه عزّوجلّ دعاء المجاهدين المخلصين(وخاب كلّ جبّار عنيد).
"خاب" من الخيبة بمعنى فقدان المطلوب.
و "جبّار" بمعنى المتكبّر هنا، ورد في الحديث أنّ امرأة جاءت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمرها بشيء، فلم تطعه فقال النّبي: دعوها فإنّها جبّارة(1).
وتطلق هذه الكلمة أحياناً على الله جلّ وعلا فتعطي معنىً آخر، وهو (جبر وإصلاح من هو بحاجة إلى الإصلاح) أو بمعنى (المتسلّط على كلّ شيء)(2).
و "العنيد" في الأصل من "العَنَد" على وزن (رَنَد) بمعنى الإتّجاه، وجاءت هنا بمعنى الإنحراف عن طريق الحقّ.
ولذلك نقرأ في رواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "كلّ جبّار عنيد من أبى أن يقول لا إله إلاّ الله".(3)
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: "العنيد المعرض عن الحقّ".(4)
ومن الطريف أنّ "جبّار" تشير إلى صفة نفسانية بمعنى روح العصيان، و "عنيد" تشير إلى آثار تلك الصفة في أفعال الإنسان حيث تصرفه عن طريق الحقّ.
ثمّ يُبيّن نتيجة عمل الجبّارين في الآخرة ضمن آيتين في خمسة مواضع:
1 - على أثر هذه الخيبة، أو أنّ مثل هذا الشخص: (من ورائه جهنّم).
مع أنّ كلمة "وراء" بمعنى "الخلف" في مقابل أمام، إلاّ أنّها في هذه الموارد تعني نتيجة وعاقبة العمل.
2 - أمّا في جهنّم فإنّه (ويسقى من ماء صديد).
"الصديد" القيح المتجمّع بين اللحم والجلد، وهو بيان للماء المتعفّن الكريه الذي يسقونه.
3 - فهذا المجرم المذنب عندما يرى نفسه في مقابل هذا الشراب (يتجرّعه ولا يكاد يسيغه) يسيغه: من إساغة، وهي وضع الشراب في الحلق.
4 - ووسائل التعذيب كثيرة بحيث (ويأتيه الموت من كلّ مكان وما هو بميّت).
حتّى يذوق وبال عمله وسيّئاته.
5 - وقد يتصوّر أن ليس هناك عقاباً أكثر من ذلك، ولكن (ومن ورائه عذاب غليظ).
وبهذا الترتيب فإنّ كلّ ما يخطر في ذهن الإنسان وما لا يخطر من شدّة العقاب هو في إنتظار هؤلاء الظالمين والجبّارين والمذنبين، أسوؤها الشراب المتعفّن الكريه، والعقوبات المختلفة من كلّ طرف، وفي نفس الوقت عدم الموت، بل الإستمرار في الحياة وإدامة العذاب.
ولكن لا يتصوّر أنّ هذا العقاب غير عادل، لأنّه - وكما قلنا مراراً - النتيجة الطبيعيّة لعمل الإنسان، بل تجسيم أفعالهم في الآخرة، فكلّ عمل يجسّم بشكل مناسب، وإذا ما شاهدنا جنايات بعض المجرمين في عصرنا أو في التاريخ القديم لقلنا: حتّى هذه العقوبات قليلة.
بحوث
1 - ماذا يعني مقام الربّ؟
قرأنا في الآيات أعلاه أنّ النصر على الظالمين وإسكان الأرض للذين يخافون مقام ربّهم، فما هو المقصود من "المقام"؟ هناك عدّة إحتمالات:
الف: - المقصود هو مقام الربّ عند الحساب، كما ذكرت بعض الآيات الأُخرى (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى...)، (5) (ولمن خاف مقام ربّه جنّتان). (6)
باء: - المقام بمعنى القيام أي المراقبة، ومعناه الشخص الذي يخاف من مراقبة الله له، ويحسّ بالمسؤولية.
ج: - والمقام بمعنى "القيام لإجراء العدالة وإحقاق الحقّ".
وعلى أيّة حال، فلا مانع أن تكون الآية الشريفة متضمنّة لكلّ هذه المفاهيم، فالذين يرون مراقبة الله لهم، يخافون من حسابه وإجراء عدالته، خوفاً بنّاء يجعلهم يحسّون بمسؤولياتهم في كلّ عمل يقومون به، ويبعدهم عن الظلم والذنوب، فالغلبة وحكومة الأرض من نصيبهم.
2 - هناك جدل بين المفسّرين حول جملة "واستفتحوا" حيث إعتقد البعض بأنّها بمعنى طلب الفتح والنصر، كما ذكرناه سابقاً، وشاهدهم الآية (19) من سورة الأنفال (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح).
وقال بعض آخر: إنّها بمعنى القضاء والحكومة، يعني أنّ الأنبياء طلبوا من الله أن يحكم بينهم وبين الكفّار، وشاهدهم الآية (89) من سورة الأعراف (ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين).
3 - جاء في التأريخ والتّفسير أنّ الوليد بن يزيد بن عبدالملك الحاكم الاُموي الجبّار تفألّ بالقرآن يوماً لكي يرى حظّه في المستقبل، فظهرت قوله تعالى (واستفتحوا وخاب كلّ جبّار عنيد) في بداية الصفحة، فاستوحش وأخذته العصبية بحيث مزّق القرآن الكريم ثمّ أنشد:
أتوعد كلّ جبّار عنيد؟ ***** فها أنا ذاك جبّار عنيد؟
إذا ما جئت ربّك يوم حشر ***** فقل ياربّ مزّقني الوليد
ولكن لم يمض وقت طويل حتّى قُتل أسوأ قتلة من قبل أعدائه، وقطعوا رأسه وعلّقوه فوق سطح قصره، ومن ثمّ نقلوه إلى باب المدينة(7).
1- "تأذّن" من باب "تفعّل" بمعنى الإعلام للتأكيد، لأنّ مادّة أفعال من (إيذان) بمعنى إعلام، ولمّا يصبح من باب تفعّل يستفاد منه الإضافة والتأكيد.
2- يوم الكرّة - أي يوم الرجعة.
3- نور الثقلين، ج2، 526.
4- المصدر السّابق.
5- سفينة البحار، المجلد الأوّل، 710.
6- نور الثقلين، ج2، 529.
7- اُصول الكافي، المجلّد الرابع، صفحة 80 باب الشكر.