الآيتان 11 - 12
﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَن إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 11 وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَينَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ 12﴾
التّفسير
التوكّل على الله وحده:
نقرأ في هاتين الآيتين جواب الرسل على حجج المخالفين المعاندين، وإعتراضهم على بشرية الرسل، فكان جوابهم: (قالت لهم رسلهم إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكنّ الله يمنّ على من يشاء من عباده) يعني لو إفترضنا أنّ الله تعالى أرسل لكم ملائكة بدل البشر، فهي لا تمتلك شيئاً لذاتها، فكلّ المواهب ومن جملتها موهبة الرسالة والقيادة هي من عند الله، فالذي يستطيع أن يهب الملائكة هذا المقام قادر أن يعطيها للإنسان.
وبديهي أنّ هذه المنح من قبل الله ليست بدون حساب، وقد قلنا مراراً: إنّ المشيئة الإلهيّة تُساير حكمته تعالى، فعندما نسمع قول القائل: "إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً..." يكون المراد العبد المستعدّ لهذه الموهبة.
ومن المعلوم أنّ مقام الرسالة موهبة إلهيّة، ونحن نرى أنّ الأنبياء بالإضافة إلى الرسالة الإلهيّة لهم إستعداد وأهلية لتحمّلها.
ثمّ يجيب على السؤال الثّالث دون أن يجيب على الثاني، وكأنّ الإعتراض الثّاني الذي هو الإستنان بسنّة الأجداد ليس له أي أهميّة وفارغ من المحتوى بحيث أنّ أيّ إنسان عاقل - بأقلّ تأمّل - يفهم جوابه، بالإضافة إلى أنّ القرآن الكريم قد أجاب عنه في آيات اُخر.
وجواب السؤال الثّالث هو أنّ عملنا ليس الإتيان بالمعاجز، فنحن لا نجلس في مكان ونلبّي لكم المعاجز الإقتراحية وكلّ ما سوّلت لكم أنفسكم، بل (ما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلاّ بإذن الله).
ومع ذلك فانّ كلّ نبي كان يظهر لقومه المعاجز بمقدار كاف بدون أن يطلبها الناس منه، وذلك لكي يثبت الأنبياء أحقّيتهم ولتكون المعاجز سنداً لصدقهم، مع أنّ مطالعة دعوتهم وحدها أكبر إعجاز لهم، ولكن المعترضين غالباً لم يصغوا لذلك، وهم يقترحون كلّ يوم شيئاً جديداً، فإن لم يستجب لهم الرّسول، يقيموا الدنيا ويقعدوها.
ولكي يردّ الرسل على تهديداتهم المختلفة يقولون: (وعلى الله فليتوكّل المؤمنون).
وبعد ذلك إستدلّ الأنبياء على مسألة التوكّل حيث قالوا: (وما لنا ألاّ نتوكّل على الله وقد هدانا سبلنا) فالذي منحنا أفضل المواهب، يعني موهبة الهداية إلى طرق السعادة، سوف يقوم بحمايتنا في مقابل أي هجوم أو مشكلة تعترضنا.
ثمّ أضافوا: إنّ ملاذنا هو الله، ملاذ لا يُقهر وهو فوق كلّ شيء: (ولنصبرنّ على ما آذيتمونا) وأخيراً أنهوا كلامهم بهذه الجملة: (وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون).
ملاحظات
1 - ما هو معنى التوكّل؟
قرأنا في الآية الأُولى (فليتوكّل المؤمنون) وفي الآية الثانية (فليتوكّل المتوكّلون) وكأنّ الجملة الثانية تشير إلى مرحلة أوسع وأعمّ من الجملة الأُولى، يعني أنّ توكّل المؤمنون ممّا لا شكّ فيه - لأنّ الإيمان بالله غير منفصل عن الإيمان بقدرته وحمايته والتوكّل عليه - بل حتّى غير المؤمنين ملجأهم إلى الله ولا يجدون سبيلا غيره، لأنّ غيره فاقد للأشياء، وكلّ ما في الوجود ملك لذاته المقدّسة، ولذلك يجب أن يجعلوه وليّاً لهم، ويطلبوا منه أن يهديهم توكّلهم هذا للإيمان بالله.
2 - المعاجز بيد اللّه تعالى
أجابت الآيات أعلاه - بشكل واضح - الأشخاص الذين كانوا ينكرون إعجاز الرسل.
أو ينكرون معاجز رسول الإسلام غير القرآن، وتُعلّمنا هذه الآيات أنّ الرسل لم يقولوا أبداً: نحن لا نأتي بالمعاجز، بل إنّ الأوامر الإلهيّة كانت تمنعهم من ذلك، لأنّ الإعجاز بيده وفي إختياره، وكلّ ما يراه مصلحة يأمرنا به.
3 - ما هي حقيقة وفلسفة التوكّل؟
"التوكّل" في الأصل من "الوكالة" وكما قال الراغب: التوكيل أن تعتمد على غيرك وتجعله نائباً عنك.
ونحن نعلم أنّ الوكيل الصالح له أربع خصال رئيسيّة: العلم الكافي، والأمانة، والقدرة، والمبالغة في رعاية مصلحة موكّله.
فإنتخاب الوكيل المحامي يتمّ في الأعمال التي لا يستطيع الإنسان نفسه أن يدافع عنها، فيستفيد من مساعدة قوّة الآخرين في حلّ مشاكله.
وعلى ذلك فالتوكّل على الله يتمّ في حالة عدم إستطاعة الإنسان من حلّ المشاكل الحياتية وفي مقابل الأعداء وإصرار المخالفين، وأحياناً في الطرق المسدودة التي تواجهه في مسيرة أهدافه.
ولذلك فهو يستند إلى الله جلّ وعلا ويستمر في سعيه، بل حتّى لو كان مستطيعاً في أداء أعماله، فيجب أن يعلم أنّ الله هو المؤثّر الأصلي، لأنّ الله تعالى في نظر المؤمن هو منبع لكلّ القدرات.
والنقطة التي تقابل التوكّل على الله هي التوكّل على غيره، يعني الإتّكالية في الحياة والتبعية للآخرين، وعدم الإستقلاليّة، يقول علماء الأخلاق: التوكّل الثمرة المباشرة لتوحيد أفعال الله، لأنّه - وكما قلنا - من وجهة نظر المؤمن يرتبط كلّ ما في الكون بالنهاية بذات الله المقدّسة، ولذلك فالموحّد يرى أنّ جميع أسباب القدرة والنصر من عند الله.
فلسفة التوكّل نستفيد ممّا ذكرناه أنّه:
أوّلا: إنّ الإنسان سوف تزداد مقاومته للمشاكل الصعبة لتوكّله على الله الذي هو منبع جميع القدرات والإستطاعات.
ولهذا السبب فعندما إنهزم المسلمون في "اُحد" يقول تعالى: (الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).(1)
وهناك نماذج أُخرى للمقاومة والثبات في ظلّ التوكّل، ومن جملتها الآية 122 من آل عمران يقول تعالى: (إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما وعلى الله فليتوكّل المؤمنون).
وفي الآية (12) من سورة إبراهيم يقول تعالى: (ولنصبرنّ على ما آذيتمونا).
وفي الآية (159) آل عمران (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله إنّ الله يحبّ المتوكّلين).
وكذلك يقول القرآن الكريم: (إنّه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون).(2)
نستفيد من مجموع هذه الآيات أنّ القصد من التوكّل أن لا يحسّ الإنسان بالضعف في مقابل المشكلات العظيمة، بل بتوكّله على قدرة الله المطلقة يرى نفسه فاتحاً ومنتصراً، وبهذا الترتيب فالتوكّل عامل من عوامل القوّة وإستمداد الطاقة وسبب في زيادة المقاومة والثبات.
وإذا كان التوكّل يعني الجلوس في زاوية ووضع إحدى اليدين على الأُخرى، فلا معنى لأنّ يذكره القرآن بالنسبة للمجاهدين وأمثالهم.
وإذا إعتقد البعض أنّ التوكّل لا ينسجم مع التوجه إلى العلل والأسباب والعوامل الطبيعيّة، فهو في خطأ كبير، لأنّ فصل العوامل الطبيعيّة عن الإرادة الإلهيّة يعتبر شركاً بالله، أو ليست هذه العوامل تسير بأوامر ومشيئة الله؟
نعم إذا إعتقدنا أنّ العوامل مستقلّة عن إرادته فهي لا تتناسب مع روح التوكّل.
فهل من الصحيح أن نفسّر التوكّل بهذا التّفسير، مع أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو رأس المتوكّلين لم يغفل من إستخدام الخطط الصحيحة والإستفادة من الفرص المتاحة وأنواع الوسائل والأسباب الظاهرية لتحقيق أهدافه، إنّ هذا يثبت أنّ التوكّل ليس له مفهوم سلبي.
ثانياً: إنّ التوكّل ينجّي الإنسان من التبعية التي هي أصل الذلّ والعبودية، ويمنحه الحرية والإعتماد على النفس.
"التوكّل" و "القناعة" لهما جذور مشتركة، وفلسفتهما متشابهة، وفي نفس الوقت متفاوتة، ولا بأس هنا أن نذكر عدّة روايات في مجال التوكّل وأصله وجذوره:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "إنّ الغنا والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا"(3) وقد عرّف الإمام التوكّل بأنّه موطن العزّة وعدم الحاجة للآخرين.
وعن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سألت جبرئيل: ما هو التوكّل؟ قال: (العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، وإستعمال اليأس من الخلق فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكّل)(4).
وسئل الإمام الرضا (عليه السلام): ما حدّ التوكّل؟ فقال: "أن لا تخاف مع الله أحداً"(5).
1- غافر، 34.
2- البقرة، 26.
3- إبراهيم، 27.
4- المعجزات التي ظهرت من موسى بن عمران أشارت إليها الآية أعلاه بلفظ الآيات، وهي 9 معاجز مهمّة طبقاً للآية (101) من سورة الإسراء، والتي سوف تأتي إن شاء الله في تفسير تلك الآية.
5- راجع المفردات للراغب، وتفسير المنار،المجلّد الأوّل، ص308وتفسير الرازيالمجلّد السابع، ص7.