الآيات 8 - 10
﴿وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ 8 أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوح وَعَاد وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيب 9قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَل مُّسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيُدونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَن مُّبِين 10﴾
التّفسير
أفي الله شكّ؟
الآية الأُولى من هذه المجموعة تؤيّد وتُكمل البحث السابق في الشكر والكفران، وذلك ضمن الكلام الذي نقل عن لسان موسى (عليه السلام) (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإنّ الله لغني حميد)(1).
إنّ الشكر والإيمان بالله - في الواقع - سبب في زيادة النعم والتكامل الإنساني، وإلاّ فالله عزّوجلّ ليس بحاجة إلى أي شيء، ولو كفرت جميع الكائنات ولم تحمده لا تَمسُّ كبرياءه بأدنى ضرر، لأنّه حميد في ذاته.
ولو كان محتاجاً لم يكن واجب الوجود، وعلى هذا فمفهوم الغني هو إشتماله لجميع الكمالات، وإذا كان كذلك فهو محمود في ذاته، لأنّ "الحميد" من إستحقّ الحمد.
ثمّ يشرح مصير الفئات من الأقوام السابقة ضمن عدّة آيات، الفئات التي كفرت بأنعم الله وخالفت الدعوة الإلهيّة، وهي تأكيد للآية السابقة يقول تعالى: (ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم).
يمكن أن تكون هذه الجملة تعقيباً على كلام موسى، أو بيان مستقلّ يخاطب به المسلمين، لكن النتيجة غير متفاوتة كثيراً، ثمّ يضيف تعالى: (قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم) فهؤلاء لم يطّلع على أخبارهم إلاّ الله (لا يعلمهم إلاّ الله)(2).
ممّا لا شكّ فيه أنّ قسماً من أخبار قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم قد وصلتنا، ولكن لم يصلنا القسم الأكبر منها ولا يعلمها إلاّ الله، فتاريخ الأقوام الماضية مليءٌ بالأسرار والخصوصيّات بحيث لم يصل إلينا منها إلاّ القليل.
ولكي يوضّح القرآن الكريم مصيرهم يقول: (جاءتهم رسلهم بالبيّنات فردّوا أيديهم في أفواههم) أي وضعوا أيديهم على أفواههم من التعجّب والإنكار (وقالوا إنّا كفرنا بما اُرسلتم به).
لماذا؟ بسبب (وإنّا لفي شكٍّ ممّا تدعوننا إليه مريب).
ومعه كيف يمكننا أن نؤمن بما تدعونا إليه؟
ويرد هنا سؤال، وهو أنّهم أظهروا الكفر وعدم الإيمان بالرّسول في البداية، ولكن بعد ذلك أظهروا الشكّ والريب، فكيف ينطبق الإثنان؟
الجواب: إنّ بيان الشكّ والترديد - في الحقيقة - علّة لعدم الإيمان، لأنّ الإيمان بحاجة إلى اليقين، والشكّ مانع لذلك.
وبما أنّ الآية السابقة بيّنت قول المشركين والكفّار في عدم إيمانهم بسبب شكّهم وترديدهم، فالآية بعدها تنفي هذا الشكّ من خلال دليل واضح وعبارة قصيرة حيث يقول تعالى: (قالت رسلهم أفي الله شكّ فاطر السّماوات والأرض).
مع أنّ "فاطر" من "فَطَر" وهي في الأصل بمعنى "شقّ" إلاّ أنّه هنا كناية عن "الخلق" فالخالق هو الموجد للأشياء على أساس نظام دقيق ثمّ يحفظها ويحميها، كأنّ ظلمة العدم شقّت بنور الوجود، وكما يطلع الفجر من عتمة الليل، وكما يتشقّق التمر من غلافه.
ولعلّ "فاطر" تشير إلى تشقّق المادّة الأوّلية للعالم.
كما نقرأ في العلوم الحديثة إنّ مجموع مادّة العالم كانت واحدة مترابطة ثمّ إنشقّت إلى كُراة مختلفة.
وعلى أيّة حال، فالقرآن الكريم هنا - كما في أغلب الموارد الأُخرى - يستند لإثبات وجود الخالق وصفاته إلى نظام الوجود وخلق السّماوات والأرض، ونحن نعلم أنّه ليس هناك أوضح من هذا الدليل لمعرفة الله، لأنّ هذا النظام العجيب مليء بالأسرار في كلّ زواياه، وينادي بلسان حاله: ليس هناك من له القدرة على هذه الهندسة إلاّ القادر الحكيم والعالم المطلق، ولهذا السبب فكلّما تقدّمت العلوم ظهرت أسرار تدلّ على الخالق أكثر من السابق وتقرّبنا من الله في كلّ لحظة.
وما أكثر العجائب في القرآن؟ فكلّ بحوث معرفة الله والتوحيد - والتي وردت بصيغة الإستفهام الإنكاري - أشارت إليها هذه العبارة: (أفي الله شكّ فاطر السّماوات والأرض) وهذه العبارة إذا أردنا تجزئتها وتحليلها بشكل موسّع لا تكفيها آلاف الكتب.
إنّ مطالعتنا لأسرار الوجود ونظام الخلقة لا تهدينا إلى وجود الله فحسب، بل إلى صفاته الكمالية أيضاً كعلمه وقدرته وحكمته.
ثمّ يجيب القرآن الكريم على ثاني إعتراض للمخالفين، وهو إعتراضهم على مسألة الرسالة (لأنّ شكّهم كان في الله وفي دعوة الرّسول) ويقول إنّ من المسلّم أنّ الله القادر والحكيم لا يترك عباده بدون قائد، بل أنّه بإرسال الرسل: (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم)(3).
وزيادة على ذلك فإنّه (ويؤخّركم إلى أجل مسمّى) كيما تسلكوا سبيل التكامل وتستفيدوا من موهبة الحياة بأقصى ما يمكنكم.
إنّ غاية دعوة الأنبياء أمران: أحدهما غفران الذنوب، بمعنى تطهير الروح والجسم والمحيط الإنساني، والثّاني إستمرار الحياة إلى الوقت المعلوم، والإثنان علّة ومعلول، فالمجتمع الذي يستمرّ في وجوده هو المجتمع النقي من الظلم والذنوب.
ففي طول التاريخ اُبيدت مجتمعات كثيرة بسبب الظلم والذنوب واتّباع الهوى، وبتعبير القرآن لم يصلوا إلى (أجل مسمّىً).
روي في حديث جامع عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممّن يعيش بالأعمال"(4).
وعن الإمام الصادق أيضاً: "إنّ الرجل يذنب فيحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيء أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم"(5).
ونستفيد من هذه الآية - ضمنياً - أنّ الإيمان بدعوة الأنبياء والعمل بأحكامها يأخذ طابع الأجل المعلّق، وتستمرّ حياة الإنسان إلى "أجل مسمّىً" (لأنّنا نعلم أنّ للإنسان نوعين من الآجال، أجل محتوم ويكون بإنتهاء الحياة في جسم الإنسان، وأجل معلّق ويكون بفناء الإنسان على أثر عوامل وموانع في وسط العمر، وهذا غالباً ما يكون بسبب اللامبالاة وإرتكاب الذنوب، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (رقم 2) من سورة الأنعام).
ومع كلّ ذلك لم يقبل الكفّار المعاندون دعوة الحقّ المصحوبة بوضوح منطق التوحيد، ومن خلال بيانهم المشوب بالعناد وعدم التسليم كانوا يجيبون الأنبياء بهذا القول: (قالوا إن أنتم إلاّ بشرٌ مثلنا) علاوة على ذلك (تريدون أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا) وأكثر من ذلك (فأتونا بسلطان مبين).
وقد ذكرنا مراراً (كما صرّح القرآن بذلك) أنّ كون الأنبياء بشراً ليس مانعاً لنبوّتهم، بل هو مكمّل لها، ولكن أُولئك الأقوام يوردون هذه الحجّة دليلا لإنكار الرسالة، والهدف - غالباً - هو التبرير والعناد.
وكذلك الحال في الإستنان بسنّة الأجداد، فإنّها وبالنظر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ معرفة الأجيال القادمة أكثر من الماضين، لا تعدو سوى خرافة وجهل.
ويتّضح من هنا أنّ طلبهم لم يكن لإقامة البرهان الواضح، بل لهروبهم من الحقيقة، لأنّ القرآن الكريم - كما قرأنا مراراً - أنّ هؤلاء المعاندين أنكروا الآيات الواضحة والدلائل البيّنة، وكانوا يقترحون في كلّ مرّة معجزة ودليلا للتهرّب من الأمر الواقع.
وعلى كلّ حال نقرأ في الآيات القادمة كيف أجابهم الأنبياء.
1- الحديد، 12.
2- البقرة، 257.
3- الأعراف، 157.
4- التوبة، 32.
5- النّور، 35.