الآيات 4 - 7
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُول إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 4 وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَتِ إلى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بَأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَت لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور5 وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِى ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ6 وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ 7﴾
التّفسير
الأيّام الحسّاسة في الحياة:
كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن الكريم وآثاره الروحية، وتتابع الآية الأُولى من هذه المجموعة نفس الموضوع، لكن في بُعد خاص وهو أنّ دعوة الأنبياء وكتبهم السّماوية نزلت بلسان أوّل قوم بُعِثوا إليهم.
يقول تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه).
لأنّ الأنبياء يرتبطون في الدرجة الأُولى مع قومهم، وأوّل نور الوحي يشعّ من بينهم، وأوّل الصحابة والأنصار يُنتخبون منهم، لذلك فإنّ الرّسول يجب أن يحدّثهم بلغتهم وبلسانهم (ليُبيّن لهم).
وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ دعوة الأنبياء لا تنعكس في قلوب أتباعهم باُسلوب مرموز وغير معروف، بل كانت توضّح لهم من خلال التبيين والتعليم والتربية وبلسانهم الرائج.
ثمّ يضيف القرآن الكريم بعد أن بيّن لهم الدعوة الإلهيّة (فيضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء) فليست الهداية والضلال من عمل الأنبياء، بل عملهم الإبلاغ والتبيين، الله سبحانه وتعالى هو الموجّه والهادي الحقيقي لعباده.
ولكي لا يتصوّر أحد أنّ هذا القول بمعنى الجبر وسلب الحريّات، فيضيف القرآن مباشرة (وهو العزيز الحكيم) وبمقتضى عزّته وقدرته فانّه قادر على كلّ شيء، ولا أحد له قدرة على المقاومة في مقابل إرادته تعالى، ولكن بمقتضى حكمته لا يهدي ولا يضلّ أحداً بدون سبب ودليل، بل الخطوة الأُولى تبدأ من قبل العباد وبكامل الحرية في السير إلى الله، ثمّ يشعّ نور الهداية وفيض الحقّ في قلوبهم، كما في سورة العنكبوت الآية (69) (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا).
وكذلك حال الذين تاهوا في وادي الضلالة وحُرِموا من فيض الهداية، فهو نتيجة لتعصّبهم الأعمى ومحاربتهم للحقّ، وغرقهم في الشّهوات، وتلوّثهم بالظلم والجور.
كما يقول تعالى: (كذلك يضلّ الله من هو مسرف مرتاب)، (1) ويقول أيضاً: (وما يضلّ به إلاّ الفاسقين)، (2) وقوله تعالى: (ويضلّ الله الظالمين)(3).
وعلى هذا النحو فإنّ محور الهداية والضلال في أيدي الناس أنفسهم.
تشير الآية الأُخرى إلى واحدة من نماذج إرسال الأنبياء في مقابل طواغيت عصرهم، ليخرجوهم من الظّلمات إلى النّور: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظّلمات إلى النّور)(4).
وكما قرأنا في الآية الأُولى من هذه السورة فإنّ خلاصة دعوة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إخراج الناس من الظّلمات إلى النّور، فهذه دعوة كلّ الأنبياء، بل جميع القادة الروحيين للبشر، فهل الظلم غير الضلال والإنحراف والذلّ والعبوديّة والفساد والظلم؟!
وهل النّور غير الإيمان والتقوى والحرية والإستقلال والعزّة والشرف؟!
لذلك فإنّها تمثّل الخطّ المشترك والجامع بين كلّ دعوات القادة الإلهيين.
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى واحدة من أكبر مسؤوليات موسى (عليه السلام) حيث يقول تعالى: (وذكّرهم بأيّام الله).
من المتيقّن أنّ كلّ الأيّام هي أيّام الله، كما أنّ كلّ الأماكن متعلّقة بالله جلّ وعلا، وإذا كانت هناك نقطة خاصّة تسمّى (بيت الله) فذلك بدليل ميزاتها، كذلك أيّام الله تشير إلى أيّام مميّزة لها خصائص منقطعة النظير.
ولهذا السبب إختلف المفسّرون في تفسيرها:
قال البعض: إنّها تشير إلى أيّام النصر للأنبياء السابقين واُممهم والأيّام التي شملتهم النعم الإلهيّة فيها على أثر إستحقاقهم لها.
وقال البعض الآخر: إنّها تشير إلى العذاب الإلهي الذي شمل الأقوام الطاغين والعاصين لأمر الله.
وقال آخرون: إنّها تشير إلى المعنيين السابقين معاً.
لكنّنا - حقّاً - لا نستطيع أن نجعل هذه العبارة البليغة والواضحة محدودة، فأيّام الله هي جميع الأيّام العظيمة في تاريخ الإنسانيّة.
فكلّ يوم سطعت فيه الأوامر الإلهيّة وجعلت بقيّة الأُمور تابعة لها، هي من أيّام الله، وكلّ يوم يُفتح فيه فصل جديد من حياة الناس فيه درس وعبرة، أو ظهور نبي فيه، أو سقوط جبّار وفرعون - أو كلّ طاغ - ومحوه من الوجود.
خلاصة القول: كلّ يوم يُعمل فيه بالحقّ والعدالة ويقع في الظلم وتطغا فيه بدعة، هو من أيّام الله.
وكما سوف نرى أنّ روايات الأئمّة (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية تشير إلى هذه الأيّام الحسّاسة.
وفي آخر الآية يقول تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار شكور).
"صبّار" و "شكور" صيغة مبالغة فأحدهما تشير إلى شدّة الصبر، والأُخرى إلى زيادة الشكر، وتعني أنّ المؤمنين كما لا يستسلمون للحوادث والمشاكل التي تصيبهم في حياتهم، كذلك لا يغترّون ولا يغفلون في أيّام النصر والنعم، وذكر هاتين الصفتين بعد الإشارة إلى أيّام الله دليل على ما قلناه.
تشير الآية الأُخرى إلى أحد هذه الأيّام التي كانت ساطعة ومثمرة في تاريخ بني إسرائيل، وذكرها تذكرةً للمسلمين حيث يقول تعالى: (وإذ قال موسى لقومه اُذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون) هؤلاء الفراعنة الذين كانوا (يسومونكم سوء العذاب ويذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيم).
أي يوم أكثر بركة من ذلك اليوم حيث أزال الله عنكم فيه شرّ المتكبّرين والمستعمرين، الذين كانوا يرتكبون أفظع الجرائم بحقّكم، وأي جريمة أعظم من ذبح أبنائكم كالحيوانات (إنتبه إلى أنّ القرآن عبّر بالذبح لا بالقتل) وأهمّ من ذلك فإنّ نوامسيكم كانت خدماً في أيدي الطامعين.
وليس هذا المورد خاصّ ببني إسرائيل، بل في جميع الاُمم والأقوام.
فإنّ يوم الوصول إلى الإستقلال والحرية وقطع أيدي الطواغيت يوم من أيّام الله الذي يجب أن نتذكّره دوماً حتّى لا نعود إلى ما كنّا عليه في الأيّام الماضية.
"يسومونكم" من مادّة (سَوْمَ) على وزن (صوم) بمعنى البحث عن الشيء، وتأتي بمعنى فرض عمل على الآخرين(5)، ولهذا فإنّ معنى جملة يسومونكم سوء العذاب: إنّ أُولئك كانوا يفرضون عليكم أسوأ الأعمال وأكثرها تعذيباً.
وهل أنّ تجميد وإبادة الكتلة الفعّالة في المجتمع وإستخدام نسائهم وإذلالهنّ على يد فئة ظالمة وطاغية يعتبر أمراً هيّناً؟!
ثمّ إنّ التعبير بفعل المضارع "يسومون" إشارة إلى أنّ هذا العمل كان مستمرّاً لمدّة طويلة.
وجملة (يذبّحون أبناءكم...) معطوفة على "سوء العذاب" وفي عين الوقت هي من مصاديق سوء العذاب، وذلك بسبب أهميّة هذين العذابين، وهذا توضيح أنّ فرعون وقومه الظالمين فرضوا على بني إسرائيل أحكاماً جائرة أُخرى، إلاّ أنّ هذين العذابين كانا أشدّ وأصعب.
ثمّ يضيف القرآن الكريم (وإذ تأذّن ربّكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد)(6) يمكن أن تكون هذه الآية من كلام موسى لبني إسرائيل التي دعاهم فيها إلى الشكر في مقابل ذلك النجاة والنصر والنعم الكثيرة، ووعدهم بزيادة النعم، وفي حالة كفرهم هدّدهم بالعذاب، ويمكن أن تكون جملة مستقلّة وخطاباً للمسلمين، ولكن على أيّة حال فالنتيجة واحدة، لأنّه حتّى إذا كان الخطاب موجّهاً لبني إسرائيل وروده في القرآن الكريم ليكون درساً بنّاءاً لنا.
ومن الطريف أنّه في حالة الشكر يقول بصراحة (لأزيدنّكم) أمّا في حالة كفران النعم فلا يقول (اُعذّبكم) بل يقول: (إنّ عذابي لشديد) وهذا التفاوت دليل على سموّ اللطف الإلهي.
بحوث
1 - التذكّر لأيام الله
كما قلنا في تفسير الآية أعلاه، فإنّ إضافة "أيّام" إلى "الله" إشارة إلى الأيّام المصيرية والمهمّة في حياة الناس، فإنّها بسبب عظمتها اُضيفت إليها كلمة "الله"، وكذلك لأنّ واحدة من النعم الإلهيّة الكبيرة شملت حال قوم أو اُمّة، أو إحدى العقوبات الكبرى أصابت قوماً طاغين بالعذاب الإلهي، وقد أراد الله تعالى أن يجعل هذه الأيّام تذكرة باقية للناس.
الرّوايات الواردة من أهل البيت (عليهم السلام) تشير أنّهم فسّروا "أيّام الله" بأيّام مختلفة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال "أيّام الله، يومٌ يقوم القائم (عليه السلام) ويوم الكرّة(7)، ويوم القيامة"(8).
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم "أيّام الله ثلاثة أيّام، يوم قيام المهدي (عليه السلام) ويوم الموت، ويوم القيامة".
وعن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال "أيّام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه سبحانه"(9).
وكما قلنا سابقاً فإنّ مثل هذه الأحاديث غير دالّة على الحصر إطلاقاً، بل هي بيان لقسم من مصاديقها.
وعلى أيّة حال فتذكر الأيّام العظيمة (من أيّام النصر أو من أيّام الشدّة) له دور مؤثّر في يقظة الشعوب، وبالإلهام من هذا النداء السّماوي سوف نحيي الأيّام العظيمة في التاريخ الإسلامي، ونخصّص لها أيّاماً معيّنة في السنة لتجديد ذكراها، لكي نتعلّم منها الدروس التي لها أثر مهمّ في يومنا هذا.
وفي تاريخنا المعاصر - خصوصاً في تأريخ الثورة الإسلامية في إيران - توجد أيّام مثيرة جدّاً والتي هي بحقّ مصداق لـ"أيّام الله" ويجب أن نذكرها في كلّ سنة، وهي التي إمتزجت بذكرى الشهداء، المقاتلين، المجاهدين الكبار، ومن ثمّ نستلهم منها ونحفظ ميراثهم الكبير.
وعلى هذا الأساس يجب أن نُدخل هذه الأيّام العظام ضمن برامج الكتب الدراسيّة في مدارسنا، وضمن التعليم والتربية لأبنائنا، ولكي نعلم مسؤوليتنا "وذكّرهم" في مقابل الأجيال القادمة.
لقد أشار القرآن الكريم مراراً إلى "أيّام الله" فنسبها لبني إسرائيل مرّة، وأُخرى للمسلمين، وذكّرهم بأيّام النعم والعذاب.
2 - طريقة الجبّارين في التعامل
نقرأ مراراً في آيات القرآن الكريم أنّ الفراعنة كانوا يذبحون أبناء بني إسرائيل ويحتفظون بنسائهم، وهذا العمل لا يقتصر على فرعون، بل كان على طول التاريخ طريقة كلّ المستعمرين حيث كانوا يبيدون قسماً من القوى الفاعلة والمقاومة، ويضعفون قسماً آخر منها ويستخدمونها في منافعهم الخاصّة، وبدون هذا العمل لا يمكنهم الإستمرار في إستعمارهم.
والمهمّ يجب أن نعلم أنّهم كانوا يذبحون الأبناء مباشرةً مرّةً (كالفراعنة) وأحياناً يبيدوهم بالإدمان على المخدّرات والمشروبات الكحولية، وإغراقهم في دوّاهة الفحشاء لذلك يجب أن ينتبه المسلمون إلى هذه المسألة، فإذا سلك جيل الشباب هذه المسالك المهلكة وفقد سلاح الإيمان ومقدرته الجسدية، فيجب أن يعلم عبوديته للأجانب حتمية.
3 - الحرية من أفضل النعم
من الطريف أنّ الآية أعلاه بعد أن ذكرت "أيّام الله" أشارت بصراحة إلى يوم واحد منها، وهو يوم نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة (إذ أنجاكم من آل فرعون) إنّ تاريخ بني إسرائيل مليء بالأيّام العظيمة التي وهبهم الله فيها النعم الكبيرة تحت ظلّ هداية موسى، ولكن ذكر (يوم النجاة) في الآية أعلاه دليل على أهميّة الحرية والإستقلال في مصير الاُمم.
نعم لا تستطيع أي اُمّة أن تُظهر نبوغها وإستعدادها إلاّ من خلال قطع التبعية للأجنبي والتحرّر من قبضة الإستعمار وأسره.
ولا يمكن أن ترفع قدماً في سبيل الله إلاّ من خلال محاربة الشرك والظلم.
ولهذا السبب كان العمل الأوّل للقادة الإلهيين هو تحرير الشعوب من التبعيّة الفكرية والثقافية والسياسيّة والإقتصادية، ثمّ العمل في إيجاد البرامج التوحيديّة والإنسانيّة لهم.
4 - الشكر سبب لزيادة النعم والكفر سبب للفناء
ممّا لا شكّ فيه أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى شكرنا في مقابل نعمه علينا، وإذا أمرنا بالشكر فذاك لنستوجب نعمة أُخرى وهي واحدة من المبادىء السامية في التربية.
المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة الشكر؟ لكي يتّضح علاقته في زيادة النعمة من أين؟ وكيف تستطيع أن تكون عاملا مهمّاً للتربية؟
إنّ حقيقة الشكر ليس فقط ما يقوله الإنسان (الحمد لله) أو الشكر اللفظي، بل هناك ثلاث مراحل للشكر:
الأُولى: يجب أن نعلم مَن هو الواهب للنعم؟ هذا العلم والإيمان الركن الأوّل للشكر.
والثّانية: الشكر باللسان.
والثّالثة: وهي الأهمّ الشكر العملي، أي أن نعلم الهدف من منحنا للنعمة، وفي أيّ مورد نصرفها، وإلاّ كفرنا بها، كما قال العظماء: (الشكر صرف العبد جميع ما أنعمه الله تعالى فيما خلق لأجله).
لماذا أعطانا الله تعالى العين؟ ولماذا وهبنا السمع والنطق؟ فهل كان السبب غير أن نرى عظمته في هذا العالم، ونتعرّف على الحياة؟
وبهذه الوسائل نخطو إلى التكامل، ندرك الحقّ وندافع عنه ونحارب الباطل، فإذا صرفنا النعم الإلهيّة في هذا المسير كان ذلك هو الشكر العملي له، وإذا أصبحت هذه الأدوات وسيلة للطغيان والغرور والغفلة والإبتعاد عن الله فهذا هو عين الكفران!
يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "أدنى الشكر رؤية النعمة من الله من غير علّة يتعلّق القلب بها دون الله، والرضا بما أعطاه، وأنّ لا تعصيه بنعمة وتخالفه بشيء من أمره ونهيه بسبب من نعمته"(10).
وهنا يتّضح أنّ شكر العلم والمعرفة والفكر والمال والسلامة، كلّ واحد منها من أي طريق يتمّ؟ وكيف يكون كفرانها؟
الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) دليل واضح على هذه التّفسيرات حيث يقول: "شكر النعمة إجتناب المحارم"(11).
وتتضّح أيضاً هذه العلاقة بين الشكر وزيادة النعمة، لأنّ الناس لو صرفوا النعم الإلهيّة في هدفها الحقيقي، فسوف يثبتون عمليّاً إستحقاقهم لها وتكون سبباً في زيادة الفيوضات الإلهيّة عليهم.
من الثابت أنّ هناك نوعين من الشكر، (شكر تكويني) و (شكر تشريعي).
"الشكر التكويني" هو أن يستفيد الكائن الحي من مواهبه في نموّه ورشده، فمثلا يرى المزارع أنّ القسم الفلاني من مزرعته تنمو فيه الأشجار بشكل جيد، وكلّما يخدمها أكثر تنتج أكثر، فهذا الأمر سوف يؤدّي إلى أن يقوم المزارع على خدمة وتربية ذلك القسم بشكل أكبر، ويوصي مساعديه بها، لأنّ الأشجار تناديه بلسان حالها: أيّها المزارع، نحن لائقون مناسبون، أفض علينا من النعم، وهو يجيبهم بالإثبات.
أمّا إذا رأى في قسم آخر أشجاراً ذابلة ويابسة وليس لها ثمر، فكفران النعمة من قبلها بهذه الصورة يسبّب عدم إعتناء المزارع بها، وإذا استمرّ الوضع بهذا الحال سوف يقوم بقلعها.
وهذه الحالة موجودة في عالم الإنسانيّة بهذا التفاوت، وهو أنّ الأشجار ليس لها الإختيار، بل هي خاضعة للقوانين التكوينيّة، أمّا الإنسان فباستفادته في إرادته وإختياره وتربيته التشريعيّة يستطيع أن يخطو في هذا المجال خطوات واثقة.
ولذلك فمن يستخدم نعمة القوّة في الظلم، ينادي بلسان حاله: إلهي، أنا غير لائق لهذه النعمة، ومن يستخدمها لإقامة الحقّ والعدالة يقول بلسان حاله: إلهي، أنا مناسب ولائق فزد نعمتك عليّ!
وهناك حقيقة غير قابلة - أيضاً - للترديد، وهي أنّنا في كلّ مرحلة من مراحل الشكر الإلهي - إن كان باللسان أو العمل - سوف نحتاج إلى شكر جديد لمواهب وعطايا جديدة، ولذلك فلسنا قادرين أن نؤدّي حقّ الشكر، كما نقرأ في مناجاة الشاكرين للإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام): "كيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد"!
ولهذا فإنّ أعلى مراحل الشكر أن يُظهر الإنسان عجزه أمام شكر نعمائه تعالى، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "فيما أوحى الله عزّوجلّ إلى موسى: اشكرني حقّ شكري، فقال: ياربّ، وكيف أشكرك حقّ شكرك، وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به عليّ؟ قال: ياموسى، الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي"(12).
هناك عدّة نقاط في مجال شكر النعمة:
1 - قال الإمام علي (عليه السلام) في إحدى حكمه: "إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر"(13).
2 - يجب الإلتفات إلى هذا الموضوع، وهو أنّ الشكر والحمد ليس كافياً في مقابل نعمائه تعالى، بل يجب أن نشكر - كذلك - الأشخاص الذين كانوا وسيلة لهذه المواهب ونؤدّي حقوقهم من هذا الطريق، ونشوّقهم أكثر بالخدمة في هذا السبيل، كما نقرأ في الحديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: "وإنّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتك ياربّ، فيقول: لِمَ تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشكركم لله أشكركم للناس"(14).
3 - إنّ الوعد في زيادة نعم الشاكرين لا ينحصر في النعم المادية فقط، بل الشكر نفسه مصحوباً بالتوجّه الخاص لله والحبّ لساحته المقدّسة هو واحد من النعم الإلهيّة الروحيّة الكبيرة، والتي لها تأثير كبير في تربية نفوس الناس، ودعوتهم لطاعة الأوامر الإلهيّة، بل الشكر ذاته طريق إلى معرفة الله، ولهذا السبب ورد عن علماء العقائد في علم الكلام أنّ وجوب شكر المنعم طريق إلى إثبات وجوب معرفة الله.
4 - إنّ إحياء روح الشكر في المجتمع وتقديمه إلى مستحقّيه وتقديرهم وحمدهم وثنائهم على خدمتهم في طريق تحقيق الأهداف الإجتماعية بعلمهم ومعرفتهم وإيثارهم وإستشهادهم، هو عامل مهمّ في حركة ورُقيّ المجتمع.
ففي المجتمع الفاقد للشكر والتقدير نجد القليل جدّاً ممّن يريد الخدمة، وعلى العكس فالمجتمع الذي يقيّم ويثني على خدمات الأشخاص، يكون أكثر نشاطاً وحيوية.
والإلتفات إلى هذه الحقيقة أدّى إلى أن تقام في عصرنا مراسيم إحتفال لتقدير وشكر الأساطين في الذكرى المئوية، أو الذكرى الألفية، وضمن هذا الشكر لخدماتهم يدعى الناس إلى الحركة والسعي بشكل أكبر.
إحياء هذه الذكريات يساعد على ترشيد الإيثار والتفاني لدى الآخرين، فيرتفع المستوى الثقافي والأخلاقي لدى الناس، وبتعبير القرآن فإنّ شكر هذه النعمة سوف يبعث على الزيادة، ومن دم شهيد واحد يُبعث آلاف المجاهدين، ويكون مصداقاً حيّاً لـ(لأزيدنّكم).
1- ولتطابق هذا المعنى يجب أن يكون هناك تقديم وتأخير في الجملة أعلاه، ويقال في تقديره "لكلّ كتاب أجل" كما قاله بعض المفسّرين.
2- تفسير الميزان، المجلّد 11، ص419.
3- المصدر السابق.
4- نور الثقلين، ج2، صفحة 512.
5- يونس، 98.
6- بحار الأنوار الطبعة القديمة المجلّد الثّاني صفحة 131 - عن أمالي الصدوق.
7- اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 114 - سفينة البحار، المجلّد الأوّل، صفحة 61.
8- سفينة البحار، المجلّد الأوّل، صفحة 61.
9- تفسير البرهان، المجلّد الثّاني، صفحة 301.
10- الميزان، المجلّد 11، الصفحة 427.
11- مجمع البيان، ونور الثقلين، في بداية السورة.
12- "إلى صراط الله" في الواقع بدل من "إلى النّور" فالمقصود من الهداية إلى النّور هو الهداية إلى صراط العزيز الحميد، و "كتاب أنزلناه" خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب أنزلناه.
13- (الله): بالكسر لأنّه بدل من (العزيز الحميد).
14- يقول الراغب في مفرداته: استحبّ الكفر على الإيمان، والإستحباب هو سعي الإنسان لأنّ يحبّ شيئاً، وإذا ما تعدّى بـ(على) فسوف يصرف عنه المعنى المتقدّم كما في (أمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى).