الآيات 1 - 3

﴿الر كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ 1 اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَفِرِينَ مِنْ عَذَاب شَدِيد2 الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الاَْخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلَل بَعِيد3﴾

التّفسير

الخروج من الظّلمات إلى النّور!

شرعت هذه السورة - كبعض السور القرآنية الأُخرى - بالحروف المقطّعة، التي ذكرنا تفسيرها في بداية سورة البقرة وآل عمران، والنقطة التي يجب ملاحظتها هنا أنّ من بين 29 مورداً لسور القرآن التي إبتدأت بالحروف المقطّعة هناك 24 مورد ذكر بعدها مباشرةً القرآن الكريم، والتي تُبيّن أنّ هناك علاقة بين الإثنين، أي بين الحروف المقطّعة والقرآن، ولعلّ هذه العلاقة هي نفسها التي ذكرناها في بداية سورة البقرة، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوضّح من خلال هذا البيان أنّ هذا الكتاب السّماوي العظيم المتعّهد لقيادة الإنسانيّة يتكوّن من مواد بسيطة تسمّى بحروف الألفباء، وهذه تشير إلى أهميّة هذا الإعجاز، حيث يوجد أصدق بيان من أبسط بيان.

وعلى أيّة حال فبعد ذكر الحروف (ألف لام راء) يقول تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظّلمات إلى النّور).

في الواقع إنّ جميع الأهداف التربوية والإنسانية، المعنوية والمادية من نزول القرآن قد جُمعت في هذه الجملة (الخروج من الظّلمات إلى النّور) أي الخروج من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، ومن ظلام الكفر إلى نور الإيمان، من ظلم الظالمين إلى نور العدالة، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الذنوب إلى الطهارة والتقوى، ومن التفرقة والنفاق إلى نور الوحدة.

ومن الطريف أنّ "الظّلمات" هنا (كما في بعض السور الأُخرى) جاءت بصيغة الجمع و "النّور" بصيغة المفرد، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ الحسنات والطيّبات والإيمان والتقوى لها حالة واحدة في ظلّ التوحيد ونوره، فهي مترابطة ومتّحدة فيما بينها، فتصنع مجتمعاً واحداً متّحداً وطاهراً من كلّ جهة.

بينما الظّلمات تعني التشتّت وتفرقة الصفوف، وحتى الطواغيت والمذنبين والمفسدين والمنحرفين في مسيرتهم الإنحرافية نراهم غير متوحّدين غالباً، وفي حالة حرب فيما بينهم.

ومن هنا لمّا كان مصدر كلّ الخير هي الذات الإلهيّة المقدّسة، والشرط الأساس لدرك التوحيد هو الإلتفات إلى هذه الحقيقة، فإنّه يضيف بلا فاصلة (بإذن ربّهم).

ولكي يبيّن أكثر ما هو النّور يقول تعالى: (إلى صراط العزيز الحميد)(1)فعزّته دالّة على قدرته، لأنّه لا يستطيع أحد أن يغلبه، والحميد دالّة على نعمه ومواهبه غير المتناهية، لأنّ الحمد والثناء دائماً تكون في مقابل النعم والمواهب.

الآية الثانية ولكي تعرّف الله بصفاته، تبيّن درساً من دروس التوحيد حيث تقول: (الله الذي له ما في السّماوات والأرض)(2) فله كلّ شيء، لأنّه خالق جميع الموجودات، ولهذا السبب هو القادر والعزيز وواهب النعم والحميد.

ثمّ يتطرّق في نهاية الآية إلى مسألة المعاد (بعد أن ذكر المبدأ) فتقول الآية: (وويل للكافرين من عذاب شديد).

ثمّ يُعرّف القرآن الكريم الكفّار في الآية الأُخرى، ويذكر لهم ثلاث صفات كيما نستطيع أن نعرّفهم من أوّل وهلة، يقول تعالى أوّلا: (الذين يستحبّون الحياة الدنيا على الآخرة)(3) فهم يضحّون بالإيمان والحقّ والعدالة والشرف التي هي من خصائص محبّي الآخرة، من أجل منافعهم الشخصيّة وشهواتهم.

ثمّ يبيّن تعالى أنّ هؤلاء غير قانعين بهذا المقدار من الضلال، بل يسعون في أن يضلّوا الآخرين (ويصدّون عن سبيل الله) فهم في الواقع يوجدون الموانع المختلفة في طريق الفطرة الإلهيّة فيزيّنون الهوى، ويدعون الناس إلى الذنوب، ويخوّفونهم من الصدق والإخلاص.

ولا يقتصر عملهم على ذلك فحسب، بل (ويبغونها عوجاً) ثمّ يحاولون أن يصبغوا الآخرين بصبغتهم، ويسعون في أن يحرفوا السبيل للوصول إلى هدفهم من خلال نشر الخرافات وإبتداع السنن الخبيثة (أُولئك في ضلال بعيد).

وهذا الضلال قد أوجد بُعد المسافة بينهم وبين الحقّ فكان من العسير جدّاً عودتهم إلى طريق الحقّ، ولكن ذلك كان نتيجة لأعمالهم.

ملاحظات

1 - مثل الإيمان وطريق الله مثل النّور

بالنظر إلى أنّ النّور ألطف الموجودات الماديّة في العالم، وسرعة مسيره أعلى سرعة، وبركته من أكبر البركات، ويمكن أن يقال أنّه أصل لكلّ المواهب والبركات، فإنّه يتّضح إلى أي مدى يشتمل النّور على معنىً كبير بحيث أنّ القرآن شبّه الإيمان والسير في طريق الله بالنّور.

والنّور أصل التجمّع بينما الظلمة عامل للتفرّق، النّور علامة الحياة والظلمة علامة الموت.

ولهذا السبب شبّه القرآن الكريم كثيراً من الأُمور القيّمة بالنّور، ومن جملتها العمل الصالح (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم)(4).

وكذلك الإيمان والتوحيد، قال تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور)(5).

وقد شبّه القرآن الكريم بالنّور في قوله تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتّبعوا النّور الذي اُنزل معه أُولئك هم المفلحون)(6).

وكذلك الدين (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم).(7)

بل أكثر من ذلك عبّر عن ذاته المقدّسة التي هي أفضل وأسمى ما في الوجود بالنّور (الله نور السّماوات والأرض).(8)

ومع أنّ كلّ هذه الأُمور تعود إلى تلك الحقيقة، لأنّها من الله، ومن الإيمان به، فإنّها وردت بصيغة المفرد، وعلى عكس الظّلمات التي هي عامل التشتّت لذلك وردت بصيغة الجمع التي تبيّن الكثرة والتعدّد.

وبما أنّ الإيمان بالله والسير في طريقه باعث على الحركة وموجباً لليقظة، وعامل للإجتماع والوحدة، ووسيلة للتقدّم والكمال، فإنّ هذا التشبيه على كلّ حال أكثر محتوىً ودلالة تربوية.

2 - التعبير بـ"لتخرج" في الآية الأُولى تشير إلى نقطتين:

الأُولى: بما أنّ القرآن الكريم كتاب هداية ونجاة للبشر، لكنّه بحاجة إلى من يطبقه ويجريه، فيجب أن يكون هناك قائد كالرّسول لكي يستطيع أن يخرج الضالّين عن الحقيقة من ظلمات الشقاء وهدايتهم إلى نور السعادة، ولهذا فالقرآن الكريم بعظمته لا يمكن له أن يحلّ جميع المشاكل بدون وجود القائد والمنفّذ لهذه الأحكام.

الثانية: إنّ صيغة الإخراج في الواقع دليل على التحرّك المشفوع بالتغيّر والتحوّل، وكأنّ غير المؤمنين موجودون في محيط مغلق ومظلم، والرّسول - أو القائد - يأخذ بأيديهم ويدخلهم إلى جوٍّ واسع ومنير.

3 - الملفت للنظر أنّ بداية هذه السورة شرعت بمسألة هداية الناس من الظّلمات إلى النّور، ونهايتها خُتِمت بمسألة إبلاغ وإنذار الناس، وهذه توضّح أنّ الهدف الأصلي في كلّ الأحوال هو الناس ومصيرهم وهدايتهم، فإنزال الكتب السّماوية وبعث الأنبياء في الواقع هو للوصول إلى هذا الهدف.


1- المصدر السّابق.

2- المصدر السّابق.

3- "ييأس" مأخوذة من مادّة اليأس، ولكن يقول جمهور من المفسّرين: إنّها جاءت هنا بمعنى العلم، وأمّا ما يقوله البعضطبقاً لما نقله الفخر الرازيإن "يئست" لا تأتي بمعنى "علمت" إطلاقاً، ويرى الراغب في مفرداته أنّ اليأس هنا هو نفس معناه، ولكن يحتاج لتحقّقه إلى العلم بعدم تحقّق الموضوع، وعلى هذا يكون ثبوت يأسهم يتوقّف على علمهم وتكون نتيجته أنّ اليأس هنا ليس العلم بالوجود، بل العلم بالعدم، وهو مخالف لمفهوم الآية، وعلى ذلك فالحقّ ما قاله جمهور المفسّرين، وما ذكروه من شواهد في قول العرب على ذلك، وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره أمثلة من هذه الشواهددقّقوا النظر.

4- الجملة أعلاه مبتدأ لخبر محذوف تقديره (أمّن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت كمن ليس كذلك).

5- هناك نقاش بين المفسّرين حول تركيب هذه الجملة فقال البعض: إنّ "مثل" مبتدأ و "تجري" خبرها، وقال بعض آخر: إنّ "مثل" مبتدأ وخبره محذوف تقديره "فيما نقص عليكم مثل الجنّة".

6- إبراهيم، 48.

7- لأنّه يلازم هذا الحديث أن يكون (ما اُنزل إليك) هو نفس "الكتاب" فالإثنان يشيران إلى القرآن، في الوقت الذي نرى فيه من قرينة المقابلة أنّ المقصود من "الكتاب" غير (ما أُنزل إليك).

8- يقول بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية: إنّها جواب لما كان يورده البعض من تعدّد أزواج الرّسول، في الوقت الذي نرى أنّ سورة الرعد مكّية وتعدّد الزوجات لم يكن حينذاك.