الآيات 41 - 43

﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الاَْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 41 وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْس وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ 42 وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسلا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ43﴾

التّفسير

البشرية فانية ووجه الله باق:

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث مع منكري رسالة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد تابعت هذه الآيات كذلك نفس البحث.

والهدف هو دعوتهم إلى التفكّر، ثمّ الإصلاح عن طريق الإنذار والإستدلال وغيرها.

يقول تعالى أوّلا: (أو لم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) من الواضح أنّ المقصود من الأرض هنا هم أهل الأرض، يعني أنّ هؤلاء لا ينظرون إلى هذا الواقع من أنّ الأقوام والحضارات والحكومات في حال الزوال والإبادة، الأقوام الذين كانوا أكثر منهم قوّة وآثاراً قد اُلحدوا تحت الثرى حتّى العلماء والعظماء - الذين هم قوام الأرض - التحقوا بالرفيق الأعلى.

فهل أنّ هذا القانون العامّ للحياة الذي يسري على جميع الأفراد وكلّ المجتمع البشري صغيره وكبيره، غير كاف لإيقاظهم وتفهيمهم أنّ هذه الأيّام القلائل للحياة ليست أبدية؟!

ثمّ يضيف: (والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب) ولذلك فإنّ قانون الفناء مكتوب على جبين كلّ الأفراد والاُمم من جهة، ومن جهة أُخرى لا يستطيع أحد أن يغيّر هذا الحكم ولا الأحكام الأُخرى، ومن جهة ثالثة أنّ حساب العباد سريع جدّاً، وبهذا الترتيب يكون جزاؤه قاطعاً.

وقد جاءت في روايات متعدّدة في تفسير "البرهان" و "نور الثقلين" وسائر منابع الحديث، إنّ تفسير الآية أعلاه هو "فقدان العلماء" لأنّ فقدهم نقصان الأرض ونقص المجتمع الإنساني.

ونقل المفسّر الكبير الطبرسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال: "ننقصها بذهاب علمائها، وفقهائها وخيارها"(1).

ونقرأ في حديث آخر أنّ "عبدالله بن عمر" تلا هذه الآية حين إستشهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (إنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها).

ثمّ قال: "ياأمير المؤمنين، لقد كنت الطرف الأكبر في العلم، اليوم نقص علم الإسلام ومضى ركن الإيمان".

إنّ للآية - بدون شكّ - معنىً واسعاً كما قلنا، وهي تشمل كلّ نقص في ذهاب الأفراد والمجتمع وأهل الأرض، وإنذار لكلّ الناس، الصالح منهم والطالح، حتّى العلماء الذين يشكّلون أركان المجتمع البشري يكون موت أحدهم أحياناً نقصاناً للدنيا، فهذا إنذار بليغ وساطع.

وأمّا ما إحتمله بعض المفسّرين من أنّ المقصود بالنقصان هو نقض أرض الكفّار وإضافتها إلى أرض المسلمين، فلا نراه صحيحاً إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أنّ السورة مكّية، لأنّ الفتوحات في ذلك الوقت لم تكن موجودة حتّى يراها الكفّار أو يشير إليها القرآن الكريم.

وأمّا ما قاله بعض المفسّرين الذين غرقوا في العلوم الطبيعيّة، من أنّ الآية أعلاه تشير إلى نقص الأرض من ناحية القطبين واستواؤها في خطّ الإستواء، فهذا كذلك نراه بعيداً عن الواقع، لأنّ القرآن الكريم ليس في مقام الإشارة إلى ذلك.

ثمّ يستمرّ البحث في الآية الثانية ويقول: ليست هذه الفئة فقط نهضت بمكرها ومحاربتها لك، بل (وقد مكر الذين من قبلهم).

لكن خططهم كُشفت، واُجهضت مؤامرتهم بأمر من الله، لأنّه أعلم الموجودات بهذه المسائل (فللَّه المكر جميعاً)ذاك هو العالم بكلّ شيء و (يعلم ما تكسب كلّ نفس).

ثمّ يحذرهم بصيغة التهديد من عاقبة عملهم ويقول: (وسيعلم الكفّار لمن عقبى الدار).

الآية الأخيرة من هذا البحث (كما بدأت هذه السورة بكتاب الله والقرآن) تُنهي سورة الرعد في التأكيد أكثر على معجزة القرآن يقول تعالى: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا).

فهم يصطنعون كلّ يوم عذراً، ويطلبون في كلّ وقت المعاجز، ثمّ آخر الأمر يقولون: لست بنبي! قل في جوابهم (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) فالله سبحانه وتعالى يعلم بأنّي رسوله، وكذلك هؤلاء لهم المعرفة الكافية بأنّ القرآن هو كتاب سماوي، فهم يعلمون جيّداً أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر، ولا يمكن نزوله إلاّ من قبل الله.

وهذا تأكيد جديد على إعجاز القرآن بمختلف جوانبه وقد ذكرنا ذلك في أماكن أُخرى.

وبناءاً على ما قلناه أعلاه فإنّ المقصود بـ(من عنده علم الكتاب) هم العالمون بمحتوى القرآن الكريم.

وإحتمل بعض المفسّرين أنّها تشير إلى علماء أهل الكتاب الذين قرأوا علائم نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتبهم السّماوية، ومن جهة حبّهم ومعرفتهم آمنوا به.

لكن التّفسير الأوّل نراه أقرب إلى الصحّة.

وقد ذكرت كثير من الرّوايات أنّ المقصود بـ(من عنده علم الكتاب) هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأئمّة الهدى، وهذه الرّوايات جُمعت في تفسير نور الثقلين والبرهان.

وهذه الرّوايات غير دالّة على الحصر، وكما قلنا مراراً فإنّها تشير إلى مصداق أو مصاديق تامّة وكاملة، وعلى أيّة حال فالتّفسير الأوّل الذي ذكرناه يؤيّد ذلك.

ومن المناسب أن ننهي حديثنا هنا بهذه الرّواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله جلّ ثناؤه: (قال الذي عنده علم من الكتاب) قال: "ذاك وصي أخي سليمان بن داود" فقلت له: يارسول الله: (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) قال: "ذاك علي بن أبي طالب"(2).

اللهمّ افتح لنا أبواب رحمتك وألهمنا من علم الكتاب.

ربّنا أنِر قلوبنا بمعرفة القرآن واحبس أفكارنا على الحاجة إليك حتى لا نتوجّه لغيرك في مسائلنا، إنّك موضع الحاجات.

نهاية سورة الرعد


1- للإستفادة أكثر راجع كتاب (طرق التغلّب على الإضطراب والقلق).

2- وقد أشرنا إلى هذه المسألة من تفسير الأمثل ذيل الآية (2) من سورة الأنفال.