الآيتان 25 - 26
﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ أُوْلئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ 25 اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فِي الاَْخِرَةِ إِلاَّ مَتَعٌ26﴾
التّفسير
المفسدون في الأرض!
بعد ما ذكرت الآيات السابقة صفات اُولي الألباب ودعاة الحقّ، أشارت هذه الآيات إلى قسم من الصفات الأصليّة للمفسدين الذين فقدوا حظّهم من العلم والمعرفة حيث يقول جلّ وعلا: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أُولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار).
في الحقيقة يتلخّص فساد عقيدتهم في الجمل الثلاث الآتية:
1 - نقض العهود الإلهيّة: وتشمل المواثيق الفطرية والعقليّة والتشريعيّة.
2 - قطع الصلات: وتشمل الصلة مع الله والرسل والناس ومع أنفسهم.
3 - الإفساد في الأرض: وهو نتيجة حتمية لنقض العهود وقطع الصلات.
أو ليس المفسد هو الذي ينقض عهد الله ويقطع الصلات؟!
فهذا السعي من قبل هذه المجموعة من الأفراد بهدف الوصول إلى الأغراض المادّية، وعوضاً أن تصل بهم هذه الجهود المبذولة إلى الأهداف النّبيلة تُبعدهم عنها، لأنّ اللعن هو عبارة عن الإبتعاد من رحمة الله(1).
ومن الظريف أنّ الدار هنا وفي الآية السابقة جاءت بصيغة مطلقة، وهذه إشارة إلى أنّ الدار الحقيقيّة هي الدار الآخرة، وأي دار ما عداها فانية وزائلة.
قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) وهذه إشارة لاُولئك الذين يسعون للحصول على دخل أكثر فهم يفسدون في الأرض وينقضون عهد الله ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل لكي يزيدوا من دخلهم المادّي، وهم غافلون عن هذه الحقيقة وهي أنّ الرزق - في زيادته ونقصه - بيد الله سبحانه وتعالى.
وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن تكون هذه الجملة جواباً على سؤال مقدّر، وهو: كيف أنّ الله سبحانه وتعالى يرزق كلّ هؤلاء الناس الصالح منهم والطالح من فيض كرمه.
والآية تجيب على هذا السؤال وتقول: (الله يبسط الرزق لمن يشاء) ومع ذلك فهو متاع قليل وزائل، وما ينبغي السعي إليه هو الآخرة والسعادة الأبديّة.
وعلى أيّة حال فإنّ المشيئة الإلهيّة في مجال الرزق هي أنّ الله سبحانه وتعالى لا يبسط الرزق لأحد بدون الإستفادة من الأسباب الطبيعيّة له "أبى الله أن يجري الأُمور إلاّ بأسبابها".
ثمّ تضيف الآية (وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ متاع).
وقد ذكر "متاع" بصيغة النكرة لبيان تفاهة الدنيا بالمقارنة مع الآخرة.
بحثان
1 - من هو المفسد في الأرض؟
الفساد يقابله الإصلاح، ويطلق على كلّ عمل تخريبي، ويقول الراغب في مفرداته: "الفساد خروج الشيء عن الإعتدال قليلا كان أو كثيراً، ويضادّه الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الإستقامة" وعلى ذلك فكلّ عمل فيه نقص، وكلّ إفراط وتفريط في المسائل الفردية والإجتماعية هو مصداق للفساد!
وفي كثير من موارد القرآن الكريم ذكر الفساد في مقابل الإصلاح (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)(2)، وقوله تعالى: (والله يعلم المفسد من المصلح)، (3) وقوله تعالى: (واصلح ولا تتبّع سبيل المفسدين)(4).
كما ذكر الإيمان والعمل الصالح في مقابل الفساد، وحيث يقول جلّ وعلا (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض).(5)
ومن جانب آخر ذكر الفساد، مع كلمة "في الأرض" في كثير من آيات القرآن الكريم نحو عشرين آية ونيّف، وهي توضّح الجوانب الإجتماعية للمسألة.
ومن جانب ثالث ذكر الفساد والإفساد مع ذنوب أُخرى، ويحتمل أن يكون مصداقاً لها، وبعض هذه الذنوب كبيرة وبعضها الآخر أصغر فمثلا قوله تعالى: (إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً)، (6) وقوله تعالى (وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و(7)النسل)، وقوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض)، (8) وقوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً).(9)
ومرّةً يعتبر فرعون من المفسدين، وأثناء توبته عند غرقه في النيل يقول: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).(10)
وقد إستعمل "الفساد في الأرض" تعبيراً عن السرقة كما في قصّة يوسف (عليه السلام) (تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنّا سارقين).(11)
ومرّة أُخرى كناية عن قلّة البيع، كما في قصّة شعيب حيث نقرأ قوله تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).(12)
وأخيراً إستخدم القرآن الكريم الفساد في التعبير عن إضطراب النظام الكوني (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا).(13)
نستفيد من مجموع هذه الآيات أنّ الفساد - بشكل عامّ - أو الفساد في الأرض، له معنىً واسع جدّاً، بحيث يشمل أكبر الجرائم مثل جرائم فرعون وسائر الطواغيت، كما يشمل الأعمال الأقل إجراماً منها مثل بخس الناس أشياءهم، ويشمل كذلك أي خروج عن حالة الإعتدال كما أشرنا إليه سابقاً.
وبالنظر إلى أنّ العقوبة يجب أن تكون مطابقة للجريمة يتّضح لنا أنّ كلّ مجموعة من هؤلاء المفسدين لها عقوبة معيّنة وجزاء خاص.
ونرى في الآية (33) من سورة المائدة التي ذكرت "الفساد في الأرض مع محاربة الله ورسوله" أنّ هناك أربع عقوبات ويجب على الحاكم الشرعي أن يختار العقوبة المناسبة على مقدار الجريمة (القتل - الصلب - قطع الأيدي والأرجل - النفي) كما بيّن فقهاؤنا في كتبهم شروط وحدود المفسد في الأرض وعقوباته(14).
ولأجل أن نجتثّ هذه المفاسد، يجب أن نستخدم الوسائل الكافية في كلّ مرحلة من مراحلها، ففي المرحلة الأُولى نستخدم اُسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق النصائح والتذكير، ولكن إذا ما إستوجب الأمر نستعمل الشدّة حتّى لو أدّى ذلك إلى القتال.
وبالإضافة إلى ما أشرنا إليه، فإنّ الجملة (ويفسدون في الأرض) ترشدنا إلى هذه الحقيقة في حياة المجتمع الإنساني، وهي أنّ الفساد الإجتماعي لا يبقى في مكان معيّن ولا يمكن حصره في منطقة معيّنة، بل ينتشر بين أوساط المجتمع وفي كافّة بقاع الأرض ويسري من مجموعة إلى أُخرى.
ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ واحدةً من أهداف بعثة الأنبياء هو إنهاء حالة الفساد في الأرض (في معناه الواسع) كما نقرأ في سورة هود الآية (88) قول النّبي شعيب (عليه السلام) (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت).
2 - الرزق بيد الله سبحانه وتعالى ولكن...!
لا نستفيد من الآية أعلاه فقط أنّ الرزق في زيادته ونقصانه بيد الله، بل نستفيد من آيات اُخر أنّ الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء وينقصه لمن يشاء، ولكن ليس كما يعتقده بعض الجهلاء من عدم الكسب والجلوس في زاوية البيت حتّى يبعث الله لهم الرزق، إن هؤلاء الأفراد - الذين يُعتبر تفكيرهم السلبي ذريعة لمن يقول بأنّ الدين أفيون الشعوب - قد غفلوا عن نقطتين أساسيتين هما:
أوّلا: إنّ الإرادة والمشيئة الإلهيّة التي أشارت إليها الآيات القرآنية ليست مسألة إعتباطية وغير محسوبة، بل - وكما قلنا سابقاً - إنّ المشيئة الإلهيّة غير منفصلة عن حكمته جلّ وعلا وتدخل فيها الإستعدادات والتوفيقات.
ثانياً: إنّ هذه المسألة لا تعني نفي الأسباب، لأنّ عالم الأسباب هو عالم الوجود، وهذه العوالم وجدت بإرادة الله وهي غير منفصلة عن المشيئة التشريعيّة.
وبعبارة أُخرى: إنّ إرادة الله في مجال بسط الرزق نقصه مشروطة بشرائط تتحكّم في حياة الناس، فالسعي والإخلاص والإيثار، وبعكس ذلك الكسل والبخل وسوء النيّة، لها دور فعّال وكبير، ولهذا السبب نرى القرآن الكريم يشير مراراً إلى أنّ الإنسان رهين بسعيه وإرادته وعمله، وما يستفيده من حياته إنّما هو بمقدار هذا السعي والإجتهاد (ليس للإنسان إلاّ ما سعى).
ولهذا فإنّ هناك باباً في السعي لتحصيل الرزق يذكره المحدّثون في موسوعاتهم الحديثة "كوسائل الشيعة" في باب التجارة، ويوردون أحاديث كثيرة في هذا المجال، كما أنّ هناك أبواباً أُخرى تذمّ البطالة والكسل، ومن جملتها الحديث المرويّ عن الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: "إنّ الأشياء لمّا إزدوجت إزدوج الكسل والعجز فنتجا بينهما الفقر"(15).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) "لا تكسلوا في طلب معايشكم فإنّ آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها"(16).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: "إنّي لأبغض الرجل أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل"(17).
وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) "إنّ الله تعالى ليبغض العبد النوّام، إنّ الله ليبغض العبد الفارغ"(18).
1- نهج البلاغة، الخطبة 50.
2- آل عمران، 59.
3- البقرة، 20.
4- البقرة، 261.
5- البقرة، 264.
6- الإحتجاج، ص354.
7- تفسير البرهان، المجلّد الثّاني، صفحة 288.
8- الإنشقاق، 8.
9- الطلاق، 8.
10- نور الثقلين، ج2، صفحة 494.
11- المصدر السابق، صفحة 495.
12- ليس الصبر على الطاعة والمعصية والمصيبة فقط بل الصبر على النعم كذلك حتّى لا يصيب الإنسان الغرور.
13- مجمع البيان ذيل الآية أعلاه.
14- الكلمات القصار في نهج البلاغة، الكلمة 158.
15- "العقبى" بمعنى العاقبة أو نهاية العمل خيراً كان أو شرّاً، ولكن بالنظر إلى قرينة الحال في الآية أعلاه تشير إلى العاقبة الحسنة.
16- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، المجلّد الثّالث، ص995.
17- الخصال للصدوق، الباب الثاني.
18- الحجر، 44.