الآيات 8 - 10
﴿اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاَْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىء عِندَهُ بِمِقْدَار 8 علِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ9 سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْف بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ10﴾
التّفسير
عِلمِ الله المطلق:
نقرأ في هذه الآيات قسماً من صفات الخالق، والتي تكمل بحث التوحيد والمعاد، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكلّ شيء، هو ذاك العلم الذي يقوم عليه نظام التكوين وعجائب الخلقة وآيات التوحيد، وهو العلم الذي يكون أساساً للمعاد والعدالة الإلهيّة يوم القيامة وهذه الآيات إستندت إلى هذين القسمين: (العلم بنظام التكوين، والعلم بأعمال العباد).
تقول الآية أوّلا: (الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى) في رحمها، سواء من اُنثى الإنسان أو الحيوان (وما تغيض الأرحام) أي تنقص قبل موعدها المقرّر (وما تزداد)(1) أي يعلم بما تزيد عن موعدها المقرّر.
في تفسير هذه الجمل الثلاث هناك آراء مختلفة بين المفسّرين:
يعتقد البعض - أنّها تشير - كما ذكرنا آنفاً - إلى وقت الولادة، وهي على ثلاثة أنواع: فمرّة يولد المولود قبل موعده.
ومرّة في موعده، وأُخرى بعد الموعد المقرّر.
فالله يعلم كلّ ذلك ويعلم لحظة الولادة بالتحديد، وهذه من الأُمور التي لا يستطيع أي أحد أو جهاز أن يحدّد موعده، وهذا العلم خاص بذات الله المنزّهة، وسببه واضح لأنّ إستعدادات الأرحام والأجنّة مختلفة، ولا أحد يعلم بهذا التفاوت.
وقال بعض آخر: إنّها تشير إلى ثلاث حالات مختلفة للرحم أيّام الحمل، فالجملة الأُولى تشير إلى نفس الجنين الذي تحفظه، والجملة الثانية تشير إلى دم الحيض الذي يُنصب في الرحم ويمصّه الجنين، والجملة الثالثة إشارة إلى الدم الإضافي الذي يخرج أثناء الحمل أحياناً، أو دم النفاس أثناء الولادة(2).
وهناك عدّة إحتمالات أُخرى في تفسير هذه الآية دون أن تكون متناقضة فيما بينها، ويمكن أن يكون مراد الآية إشارةً إلى مجموع هذه التفاسير، ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل أقرب، بدليل جملة (تحمل) المقصود منها الجنين والجمل (تغيض) و (تزداد) بقرينة الجملة السابقة تشير إلى الزيادة والنقصان في فترات الحمل.
روى الشيخ الكليني في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أو الإمام الباقر (عليه السلام)
في تفسير الآية أنّ "الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر، وما تزداد كلّ شيء حمل على تسعة أشهر".
وفي تكملة الحديث يقول: "كلّما رأت المرأة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد وبعدد الأيّام التي زاد فيها في حملها من الدم"(3).
(وكلّ شيء عنده بمقدار) ولكي لا يتصوّر أحد أنّ هذه الزيادة والنقصان بدون حساب ودليل، بل انّ كلّ ساعة وثانية ولحظة لا تمرّ دون حساب، كما أنّ للجنين ودم الرحم حساب وكتاب أيضاً.
فالآية التي بعدها تؤكّد ما قلناه في الآية السابقة حيث تقول: (عالم الغيب والشهادة) فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب (الكبير المتعال) فهو يحيط بكلّ شيء، ولا يخفى عنه شيء.
ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم: (سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار)(4)وهذا هو الحقّ فالذي يوجد في كلّ مكان لا معنى للغيب والشهادة أو الليل والنهار عنده، فهو محيط بها وعالم بأخبارها بشكل متساو.
بحوث
1 - القرآن وعلم الأجنّة
أشار القرآن المجيد مراراً إلى مسألة الجنين وعجائب تكوينه ليكون أحد الأدلّة على التوحيد ومعرفة الله وعلمه المطلق، وبالطبع فإنّ علم الأجنّة واحد من العلوم الحديثة وكان سابقاً عبارة عن معلومات أوّليّة محدودة ثمّ توسعت في هذا العصر.
ولكن بتقدّم العلم والمعرفة حدثت قفزة في هذا المجال كشفت عن كثير من أسرار هذا العالم الساكن والهادىء وعن كثير من عجائبه بحيث نستطيع أن نقول: إنّ أكبر درس للتوحيد ومعرفة الله كامنٌ في تكوين الجنين ومراحل تكامله.
فمن هذا الذي يرعى هذا الكائن المخفي وبتعبير القرآن واقع "في ظلمات ثلاث" الذي يمتاز بالظرافة ودقّة التكوين وأن يوصل له المقدار اللازم من الغذاء ويرشده مراحل حياته؟
وعندما تقول الآية السابقة: (الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى) فليس المقصود من علمه بالذكر والاُنثى فقط، بل بكلّ خصائصه والطاقة الكامنة فيه، هذه الأشياء لا يستطيع أحد وبأي وسيلة أن يتعرّف عليها، وعلى هذا فإنّ وجود هذا النظام الدقيق والمعقّد للجنين ومراحل تكامله لا يمكن أن يكون بدون صانع عالم وقدير.
2 - كلّ شيء له مقدار
نحن نقرأ في آيات مختلفة من القرآن الكريم أنّ كلّ شيء له حدّ محدود ولا يتجاوزه، ففي الآية (3 رقم) من سورة الطلاق يقول تعالى: (قد جعل الله لكلّ شيء قدراً)وفي الآية 21 سورة الحجر يقول تعالى: (وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم) والآية التي نحن بصددها (وكلّ شيء عنده بمقدار).
كلّ هذه تشير إلى أنّه ليس هناك شيء في العالم بدون حساب، حتّى الموجودات في الطبيعة التي نعتبرها في بعض الأحيان غير مهمّة، فإنّ وجودها على أساس حساب دقيق، علمنا بذلك أم لم نعلم، وأساساً فإنّ معنى حكمة الله هو أن يجعل لكلّ ما في الكون حدّاً ومقداراً ونظاماً.
وكلّ ما حصلناه اليوم من أسرار الكون بواسطة العلوم يؤكّد هذه الحقيقة، فمثلا نرى أنّ دم الإنسان - الذي هو المادّة الحياتية لوجود الإنسان والذي يقوم بنقل المواد الضروريّة اللازمة لخلايا الجسم - يتركّب من عشرين مادّة أو أكثر، وبنسب ثابتة دقيقة بحيث لو تمّ أي تغيير فيها لتعرّضت سلامة الإنسان للخطر، ولهذا السبب ولمعرفة النقص الحاصل في الجسم يقومون بتحليل الدم وقياس نسبة السكر والدهن وسائر مركّبات الدم الأُخرى، ويتمّ تشخيص العلّة بواسطة معرفة زيادة أو نقصان هذه النسب، وليس دم الإنسان وحده له هذه الميزة، بل كلّ ما في الوجود له نفس هذه الدقّة في النظام.
ولابدّ هنا من التنبيه على أنّ ما يظهر لنا في بعض الأحيان من عدم النظام في عالم الوجود هو في الواقع ناتج من قصور في علومنا ومعرفتنا، فالإنسان الذي يؤمن بالله لا يمكن أن يتصوّر ذلك، وبتطوّر العلوم تتأكّد لنا هذه الحقيقة.
وكي نستطيع أن نتعلّم هذا الدرس وهو أنّ المجتمع الإنساني الذي هو جزء من عالم الوجود إذا أراد له العيش بسلام، فعليه أن يجعل شعار (كلّ شيء عنده بمقدار) يسود جميع جوانبه، ويجتنب الإفراط والتفريط في أعماله وتخضع جميع مؤسساته الإجتماعية للحساب والموازين.
3 - الغيب والشهادة سواء عند الله
إستندت هذه الآيات إلى أنّ الغيب والشهادة معلومان عند الله، فهما مفهومان نسبيان وتستخدمان للكائن الذي علمه ووجوده محدود، وعلى سبيل المثال نحن نمتلك حواساً ذات مدى نسبي، فمتى ما كان الشيء داخلا في هذا المدى فهو شاهد بالنسبة لنا، وما كان خارجاً عنه فهو غيب، فلو فرضنا أنّ أبصارنا لها قدرة غير محدودة ويمكنها النفوذ في باطن الأشياء وإدراكها، فإنّ كلّ شيء يعتبر شاهد عندنا.
وبما أنّ كلّ شيء له حدّ محدود غير الذات الإلهيّة، فإنّ لغير الله تعالى غيب وشهادة، ولأنّ ذات الله غير محدودة ووجوده عام ومطلق فإنّ كلّ شيء بالنسبة
إليه شهادة، ولا معنى للغيب بالنسبة إليه، وإذا ما قلنا - إنّ الله عالم الغيب والشهادة فهو ما نعتبره نحن غيب وشهادة، أمّا هو فهما عنده سواء.
لنفترض أنّنا ننظر ما في أيدينا في النهار، فهل نجهل ما فيها؟!
جميع الكون في مقابل علم الله أوضح من هذا وأظهر.
4 - الآثار التربوية في إدراكنا لعلم الله
أثناء قراءتنا للآيات الماضية التي تقول: إنّ الله يعلم السرّ والجهر من القول وحركاتكم في الليل والنهار وكلّها مشهودة عنده، هل نجد في أنفسنا إيماناً بهذه الحقيقة؟... لو كنّا مؤمنين بذلك حقّاً ونشعر بأنّ الله تعالى مطّلع علينا فانّ هذا الإيمان والإحساس الباطني يبعث على تغيير عميق في روحنا وفكرنا وقولنا وضمائرنا؟.
نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جوابه لمن سأله عن طريقتهم في الحياة قال: "علمت إنّ الله مطلع عليّ فاستحييت".
كما نشاهد كثيراً من المواقف من تأريخ المسلمين وحياتهم تتجلّى فيها هذه الحقيقة، يقال: دخل أب وإبنه في بستان، فتسلّق الأب شجرةً ليقطف ثمارها دون إذن صاحبها، بينما بقي الإبن أسفل الشجرة لمراقبة الأوضاع.
وفجأة صاح الابن الذي كان مؤمناً ومتعلّماً ونادى أباه بأن ينزل بسرعة، عندها خاف الأب ونزل فوراً وسأل من الذي رآني؟ قال: الذي هو فوقنا، فنظر الأب إلى الأعلى فلم يجد أحداً، وسأل من الذي رآني؟ قال: الذي هو فوقنا، فنظر الأب إلى الأعلى فلم يجد أحداً، فقال الابن: كان قصدي هو الله المحيط بنا جميعاً، كيف يمكن أن تخاف أن يراك الإنسان، ولا تخاف أن يراك الله؟!
أين الإيمان؟!
1- إستخدام تلك للبعيد - وكما قلنا سابقاً - كناية عن عظمة القرآن وإعجازه.
2- (عَمد) على وزن (صَمد) "وعُمد" على وزن (زُحل) والإثنان جمع عمود، فالأوّل جمع، والثّاني اسم الجمع (مجمع البيان ذيل الآية).
3- الحديث في تفسير البرهان، عن علي بن إبراهيم عن العياشي (البرهان، المجلّد الثّاني، ص278).
4- سفينة البحار، المجلّد الثّاني، ص574 نقلا من تفسير علي بن إبراهيم القمّي.