الآيتان 5 - 6
﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَباً أَءِنَّا لَفِى خَلْق جَدِيد أُوْلَئِك الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاَْغْلَلُ فِى أَعْنَاقِهِم وَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ 5 وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ6﴾
التّفسير
تعجّب الكفّار من المعاد:
بعد ما إنتهينا من البحث السابق عن عظمة الله ودلائله، تتطرّق الآية الأُولى من هذه المجموعة إلى مسألة المعاد التي لها علاقة خاصّة بمسألة المبدأ، ويؤكّد القرآن الكريم هذا المعنى حيث يقول: (وإن تعجب فعجب قوله أءِذا كنّا تراباً أَءِنّا لفي خلق جديد)(1) أي إذا أردت أن تتعجّب من قولهم هذا فتعجب لقولهم في المعاد.
هذا التعجّب من المعاد كان موجوداً عند جميع الأقوام الجاهلة، فهم يظنّون أنّ الحياة بعد الموت أمرٌ محال، ولكنّنا نرى أنّ الآيات السابقة وآيات أُخرى من القرآن الكريم تجيب على هذا التساؤل، فما هو الفرق بين بدء الخلق والبعث من جديد؟ فالقادر الذي خلقهم أوّل مرّة بإستطاعته أن يبعث الروح فيهم مرّة ثانية، وهل نسي هؤلاء بداية خلقهم حتّى يجادلوا في بعثهم!؟
ثمّ يبيّن حالهم الحاضر ومصيرهم في ثلاث جمل:
يقول أوّلا: (أُولئك الذين كفروا بربّهم) لأنّهم لو كانوا يعتقدون بربوبيّة الله لما كانوا يتردّدون في قدرة الله على بعث الإنسان من جديد، وعلى هذا فسوء ظنّهم بالمعاد هو نتيجة لسوء ظنّهم بالتوحيد وربوبية الله.
والأمر الآخر انّه بكفرهم وعدم إيمانهم وخروجهم من ساحة التوحيد قيّدوا أنفسهم بالأغلال، أغلال عبادة الأصنام والأهواء والمادة والجهل والخرافة، وجعلوها في أعناقهم (وأُولئك الأغلال في أعناقهم).
ومثل هؤلاء الأشخاص ليس لهم عاقبة سوى دخول النّار (وأُولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون).
وفي الآية الثانية يشير إلى دعوى أُخرى للمشركين حيث يقول: (ويستعجلونك بالسيّئة قبل الحسنة) بدلا من طلب الرحمة ببركة وجودك بينهم.
لماذا يصرّ هؤلاء القوم على الجهل والعناد؟ لماذا لم يقولوا: لو كنت صادقاً لأنزلت علينا رحمة الله، أو لرفعت العذاب عنّا!؟
وهل يعتقدون بكذب العقوبات الإلهيّة؟ (وقد خلت من قبلهم المثلات)(2).
ثمّ تضيف الآية (وإنّ ربّك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإنّ ربّك لشديد العقاب).
إنّ العذاب الشديد غير مخالف لرحمته الواسعة، كما لا يتوهّم أحداً أنّ رحمته العامّة هي إعطاء الفرصة للظالمين أن يفعلوا ما يريدون.
لأنّه في هذه الموارد يكون شديد العقاب، والحصول على نتائج هذه الصفتين للربّ يعني (ذو مغفرة) و (شديد العقاب) مرهونٌ بسلوك الإنسان نفسه.
ملاحظتان
1 - لماذا التعجّب في الخلق الجديد؟
يستفاد من خلال آيات متعدّدة في القرآن الكريم أنّ من جملة مشاكل الأنبياء مع المشركين إثبات "المعاد الجسماني" لأنّهم كانوا يتعجّبون دائماً من هذا الموضوع وهو: كيف يبعث الإنسان من جديد بعد أن صار تُراباً؟ كما أشارت إليه الآية السابقة (أءِذا كنّا تراباً أءِنّا لفي خلق جديد) وهناك سبع آيات أُخرى تشير إلى هذا الموضوع (الآية 35 و 82 من سورة المؤمنون - 27 النمل - 16 و53 الصافات - 3ق - 47 الواقعة).
ومن هنا يتّضح أنّ هذا التساؤل كان مهمّاً بالنسبة إليهم حيث كانوا يكرّرونه في كلّ فرصة، ولكن القرآن الكريم يجيبهم بعبارات قصيرة وقاطعة، فمثلا الآية (29) من سورة الأعراف: (كما بدأكم تعودون) تتكوّن من كلمات قليلة ولكنّها مفحمة لهم، وفي مكان آخر يقول تعالى: (وهو أهون عليه) لأنّكم في الخلق الأوّل لم تكونوا شيئاً أمّا الآن فتوجد على الأقل عظام نخرة مع التراب المتبّقي منكم.
وفي بعض الأحيان يأخذ بأيدي الناس ويدعوهم إلى التفكّر والإمعان في عظمة وقدرة الخالق (أو ليس الذي خلق السّماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم).
2 - هل إنّ الله يعفو عن الظالمين؟
قرأنا في الآيات المتقدّمة أنّ الله يعفو ويغفر للذين ظلموا، وهذا الغفران غير لازم لمن يصرّ على ظلمه، ولكنّه من باب إعطاء الفرصة لهم لأن يصلحوا أنفسهم، وإلاّ فهو تعالى شديد العقاب.
ويمكن أن نستفيد من هذه الآية أنّ الذنوب الكبيرة - ومن جملتها الظلم - قابلة للغفران (ولكن بتحقّق شروطها)، وهو ردّ على قول المعتزلة بأنّ الذنوب الكبيرة لا يغفرها الله أبداً.
وعلى أيّة حال فـ"المغفرة الواسعة" و "العقاب الشديد" في الواقع تجعل كل المعترفين بوجود الله بين "الخوف" و "الرجاء" الذي يعتبر من العوامل المهمّة لتربية الإنسان، فلا ييأس من رحمة الله لكثرة الذنوب، ولا يأمن من العذاب لقلّتها.
ولهذا جاء في الحديث عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) "لولا عفو الله وتجاوزه ما هنىء أحد العيش، ولولا وعيد الله وعقابه لأتّكل كلّ واحد"(3).
ومن هنا يتّضح أنّ الذين يقولون - أثناء إرتكابهم المعاصي - إنّ الله كريم، يكذبون في إتّكالهم على كرم الله، فهم في الواقع يستهزؤون بعقاب الله.
1- سفينة البحار، المجلّد الأوّل، صفحة 697.
2- في ظلال القرآن، المجلّد الخامس، صفحة 53.
3- نور الثقلين، ج2، صفحة 275 - اُصول الكافي، المجلّد الثّاني، صفحة 292.