الآيات 1 - 4

﴿المر تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَبِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ 1 اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَوَتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَل مُّسَمّىً يُدَبِّرُ الاَْمْرَ يُفَصِّلُ الاَْيَتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ 2 وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاَْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَسِىَ وَأَنْهَراً وَمِن كُلِّ الَّثمَرَتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ 3وَفِى الاَْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَوِرَتٌ وَجَنَّتٌ مِّنْ أَعْنَب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِى الاُْكُلِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ 4﴾

التّفسير

آيات الله في السّماء والأرض وعالم النّبات:

مرّةً أُخرى نواجه الحروف المقطّعة في بداية هذه السورة، والتي وردت في(29) سورة أُخرى، ولكن الحروف المقطّعة المذكورة هنا تتكوّن من (الم) التي وردت في بداية عدّة سور، و (الر) والتي وردت في بداية سور أُخرى، وفي الواقع إنّ هذه السورة تنفرد عن غيرها من السور بـ(المر).

ومن المعتقد في تفسير الحروف المقطّعة أنّ لها إرتباطاً مباشراً بمعاني نفس السورة، فمن المحتمل أنّ هذا التركيب في بداية سورة الرعد يشير إلى جمعها لمحتوى مجموعتين من السور التي تبتدىء بـ(الم) و (الر).

وإذا ما أمعنا النظر في محتوى هذه السور نجدها مطابقة لما قلناه، وبخصوص تفسير الحروف المقطّعة كانت لنا شروح مفصّلة عنها في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف فلا ضرورة في التكرار.

وعلى أيّة حال فالآية الأُولى من هذه السورة تتحدّث عن عظمة القرآن (تلك آيات الكتاب والذي اُنزل إليك من ربّك الحقّ)(1).

ولا يوجد أي شك أو ترديد في هذه الآيات، لأنّها تبيّن عين الحقيقة للكون ونظامه المرتبط بالإنسان.

فهو حقّ لا يشوبه باطل، ولهذا السبب فإنّ علائم الحقّ واضحة فيه لا تحتاج إلى براهين (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون).

لأنّ الناس إذا ما تُركوا وشأنهم ولم يتّبعوا معلماً صادقاً يهديهم ويربيهم في حياتهم وكانوا أحراراً في أتباع أهوائهم فانّهم سوف يتيهون في الطريق ويضلّون عن الحقّ.

وأمّا إذا كان الرسل وهداة الحقّ همُ الأئمّة والقادة حيث يضع الفرد نفسه في تصرّفهم، فإنّ الأكثرية تسير في طريق الحقّ.

ثمّ تتطرّق السورة إلى شرح القسم المهمّ من أدلّة التوحيد وآيات الله في الكون، وتتجوّل بالإنسان في عرض السّماوات وتريه الكواكب العظيمة وأسرار هذا النظام وحركته، حتّى يؤمن بالقدرة المطلقة والحكمة اللامتناهية (الله الذي رفع السّماوات بغير عمد ترونها)(2).

الجملة (بغير عمد ترونها) لها تفسيران:

1 - فكما ترون أنّ السّماء مرفوعة بدون عمد (أي انّها في الأصل بلا عمد كما ترونها فعلا).

2 - والثانية إن (ترونها) صفة للعمد فيكون المعنى: إنّ السّماء مرفوعة بعمد ولكن لا ترونها لأنّها غير مرئية!

وهذا هو الذي يراه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ففي حديث رواه الحسين بن خالد قال: سألت الإمام أبا الحسن الرضا (عليه السلام): ما المقصود في قوله تعالى: (والسّماء ذات الحبك) قال: هذه السّماء لها طرق إلى الأرض، فقلت له: كيف تكون لها طرق إلى الأرض في الوقت الذي يقول سبحانه وتعالى: (رفع السّماوات بغير عمد) فأجابه الإمام: "سبحان الله، أليس الله يقول بغير عمد ترونها؟ قلت بلى، فقال: ثمّ عمد ولكن لا ترونها"(3).

إنّ هذه الآية بالرغم من وجود هذا الحديث الذي يفسّرها، فإنّها تكشف عن حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول الآيات الكريمة، لأنّه في ذاك الوقت كانت نظرية "بطليموس" في الهيئة تتحكّم بكلّ قواها في المحافل العلمية في العالم وعلى أفكار الناس، وطبقاً لهذه النظرية فإنّ السّماوات عبارة عن أجرام متداخلة تشبه قشور البصل، وإنّها لم تكن معلّقة وبدون عمد، بل كلّ واحدة منها تستند إلى الأُخرى.

ولكن بعد نزول هذه الآيات بألف سنة تقريباً توصل علم الإنسان إلى أنّ هذه الفكرة غير صحيحة، فالحقيقة إنّ الأجرام السّماوية لها مقرّ ومدار ثابت، ولا تستند إلى شيء، فالشيء الوحيد الذي يجعلها مستقرّة وثابتة في مكانها هو تعادل قوّة التجاذب والتنافر، فالأُولى تربط الأجرام فيما بينها، والأُخرى لها علاقة بحركتها.

هذا التعادل للقوّتين الذي يشكّل أعمدة غير مرئيّة يحفظ الأجرام السّماوية ويجعلها مستقرّة في مكانها.

وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بخصوص هذا الموضوع قال: "هذه النّجوم التي في السّماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور"(4).

وهل نجد أوضح من هذا الوصف "عمود غير مرئي" أو "عمود من نور" في أدب ذلك العصر لبيان أمواج الجاذبية وتعادل قوّتي الجذب والدفع.

وللإطلاع أكثر راجع كتابالقرآن وآخر الرسلصفحة 166 وما بعدها.

(ثمّ إستوى على العرش) في خصوص معنى العرش والإستواء عليه هناك شرح واف عنه في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.

وبعد أن بيّن خلق السّماوات وهيمنة الخالق عليها، تحدّث عن تسخير الشمس والقمر (وسخّر الشمس والقمر).

ما أعظم هذا التسخير الذي يقع تحت إرادة ومشيئة الخالق، وفي خدمة الوجود الإنساني والكائنات الحيّة حيث يشعّ نورهما وتضيئان العالم، وتحافظان على دفء الكائنات وتساعدانها على النمو، وتخلقان ظاهرة الجزر والمدّ في البحار، وخلاصة القول إنّهما منشأ لجميع البركات، ولكن هذا النظام المادّي ليس أبديّاً، بل (كلّ يجري لأجل مسمّىً).

ثمّ يضيف بعد ذلك: إنّ هذه الحركات والتغيّرات في الأحوال ليست بدون حساب وكتاب، وبدون فائدة ونتيجة، بل (يدبّر الأمر يفصل الآيات لعلّكم بلقاء ربّكم توقنون).

وتعقيباً للآيات السابقة التي نقلت الإنسان إلى السّماء لتريه الآيات الإلهيّة هناك، تنقله الآية الثانية من آيات التوحيد إلى كتاب الكون أي الأرض والجبال والأنهار وأنواع الثمار وشروق الشمس وغروبها، حتّى يتفكّر في محلّ إستقراره في البداية ماذا كان؟ وكيف أصبح الآن بهذه الصورة؟

قوله تعالى: (وهو الذي مدّ الأرض) وبسطها بالشكل الذي تتهيّأ فيه لحياة الإنسان ونمو النباتات والحيوانات، وملأ الأودية والمنحدرات الصعبة بالتراب من خلال تفتّت الصخور الجبليّة، وجعل الأرض مسطّحة وقابلة للسكن، بعد أن كانت التضاريس مانعة من سكن الإنسان عليها.

وقد يحتمل في تفسير هذه الجملة (مدّ الأرض) الإشارة إلى ما يقوله علماء الطبيعة من أنّ الأرض كانت مغطاة بالماء.

ثمّ إستقرّت المياه في الوديان ظهرت اليابسة، وبمرور الوقت اتّسعت حتّى أصبحت على ما نراه اليوم.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى ظهور الجبال (وجعل فيها رواسي) فهي تلك الجبال التي عبّرت عنها في آيات أُخرى بـ(الأوتاد) ولعلّ ذلك إشارة إلى أنّها متشابكة فيما بينها من الأسفل مثلها مثل الدرع الواقي وتغطّي سطح الأرض، فهي تبطل الضغوط الداخلية في الأسفل والضغط الخارجي المتمثّل بجاذبية القمر والمدّ والجزر.

وكذلك تقضي على الإضطرابات والزلازل، وتجعل الأرض مستقرّة وساكنة وصالحة لحياة الإنسان.

إنّ ذكر القرآن الكريم الجبال بعد مدّ الأرض يُحتمل أن يكون المراد منه أنّ الأرض ليست منبسطة بشكل تامّ بحيث تنعدم فيها المرتفعات، ففي هذه الصورة لا تستقرّ فيها الأمطار والمياه، أو تتحوّل إلى مستنقعات وتجري فيها السيول وتتعرّض للطوفانات الدائمة، فخلق الجبال لتأمن البشرية من هذين الأمرين.

وليست الأرض كلّها جبالا وودياناً فتكون غير قابلة للسكن، بل تحتوي على مناطق منبسطة ومناطق جبلية ووديان، وهذه أفضل صيغة لحياة الإنسان والكائنات الحيّة.

ثمّ تضيف الآية بعد ذلك الأنهار (وأنهاراً).

رائع جدّاً نظام سقي الأرض بواسطة الجبال، وعلاقة الأنهار بالجبال، لأنّ كثيراً من الجبال تختزن المياه بشكل ثلوج على قممها وفي شقوق الوديان، ثمّ تذوب تدريجيّاً، وطبقاً لقانون الجاذبية تأخذ طريقها من المناطق المرتفعة إلى المناطق المنخفضة بدون أن تحتاج إلى قوّة أُخرى لمساعدتها، فهي تقوم بسقي كثير من المناطق وبشكل طبيعي على مدار السنة.

فلو لم يكن للأرض إنحدار كاف ولم تختزن الجبال المياه بهذا الشكل، لكان سقي كثير من المناطق اليابسة صعباً، وفي حالة الإمكان كُنّا نحتاج إلى صرف مبالغ هائلة لإيصال الماء إليها.

ثمّ يذكر القرآن بعد ذلك النباتات والأشجار التي تتكوّن من الأرض والمياه وأشعّة الشمس، والتي هي أفضل وسيلة لإمرار الإنسان بالغذاء: (ومن كلّ الثمرات جعل فيها زوجين إثنين).

والآية تشير هنا إلى أنّ الفاكهة كائنات حيّة فيها الذكر والاُنثى، وبواسطة التلقيح تتكوّن الثمار.

فإذا كان العالم السويدي "لينه" المختص بعلم النبات هو الذي توصّل إلى هذه الحقيقة في حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وهي أنّ التزويج في عالم النباتات يعتبر قانوناً عامّاً تقريباً كالحيوانات ولها نُطَف ذكرية واُنثوية وأنّ الثمرة تتكوّن من التلقيح.

فالقرآن الكريم قبل ألف ومائة عام من ذلك كشف لنا عن هذه الحقيقة، وهذه واحدة من معاجز القرآن العلمية التي تبيّن عظمة هذا الكتاب السّماوي الكبير.

وليس من شكّ أنّ ما قبل "لينه" كان كثير من العلماء يعتقدون بوجود الذكور والإناث في بعض الأشجار، حتّى الناس العاديين كانوا يعلمون بذلك، ولكن لم يكن يعلم أي واحد أنّ هذا القانون عام، حتّى كشفه "لينه" ومن قبله القرآن الكريم.

وبما أنّ حياة الإنسان وكلّ الكائنات - وخصوصاً النباتات - لا يمكن لها الإستمرار إلاّ بوجود نظام دقيق للّيل والنهار، فإنّ القرآن يشير إلى ذلك في القسم الآخر من الآية (يغشي الليل النهار).

ولولا ظلمة الليل وهدوؤه، لأحرقت الشمس بنورها المستمر كلّ النباتات، ولم تبق فاكهةً ولا أي كائن حي على وجه الأرض، فسطح القمر ليس له نهار دائم ومع هذا نجد أن حتّى هذا المقدار من نهاره الذي يعادل خمسة عشر يوماً من أيّام الأرض.

نرى أنّ درجة فيها مرتفعة جدّاً بحيث لو وضعنا هناك ماءاً أو أي سائل آخر فسوف يغلي ويتبخّر، ولا يمكن لأي موجود حيّ في الأرض أن يتحمّل هذه الحرارة.

وتبيّن الآية في النهاية (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) أُولئك الذين يتفكّرون في هذا النظام الرائع، في نظام النّور والظلام، وحركة الأجرام السّماوية، وتسخير الشمس والقمر وجعلها في خدمة الإنسان، وفي نظام مدّ الأرض وأسرار خلق الجبال والأنهار والنباتات، نعم! فهم يرون بوضوح في هذه الآيات الحكمة المطلقة والقدرة اللامتناهية للخالق العلاّم.

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة يشير القرآن الكريم إلى عدّة نقاط حول علم الأرض وعلم النبات، والتي تعبّر عن النظام الدقيق للخلقة، يقول أوّلا (وفي الأرض قطع متجاورات)(5) فبالرغم من أنّ هذه القطع متصلة مع بعضها البعض، فإنّ لكلّ واحد منها بناءه وتركيبه الخاص به، فبعضها قوي والآخر ضعيف، وبعضها مالح والآخر حلو، وكلّ قطعة لها الإستعداد في تربية نوع خاص من النباتات وأشجار الفاكهة والزراعة، لأنّ إحتياجات الإنسان والحيوان كثيرة ومتفاوتة، وقد تكون لكلّ قطعة من الأرض المسؤولية في تلبية إحدى هذه الحاجات.

وأمّا إذا كانت في مستوىً واحد، أو لم تكن إستعداداتها مقسّمة بالشكل المطلوب، لكان الإنسان يمرّ بأزمة ونقص في مواده الغذائية والطبية وسائر الإحتياجات الأُخرى، ولكن هذا التقسيم المناسب للمسؤولية وتوزيعها على القطعات المختلفة للأرض سوف يسدّ الإحتياجات اللازمة للإنسان.

قوله تعالى: (وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان)(6).

"صنوان" جمع "صنو" بمعنى الغصن الخارج من أصل الشجرة، وعليه فالكلمة تعني الأغصان المختلفة الخارجة من أصل الشجرة.

والملفت للنظر أنّه يمكن أن يكون لكلّ واحد من هذه الأغصان نوع خاصّ من الثمر، وهذه قد تشير إلى قابلية الأشجار للتركيب.

ففي بعض الأحيان يتمّ تركيب عدّة أغصان مختلفة على ساق واحدة، وبعد نمو هذه التراكيب تعطي كلّ واحدة منها نوعاً خاصاً من الثمر، فالتربة واحدة والساق والجذر واحد ولكن الثمر مختلف.

والأعجب من ذلك أنّها تسقى بماء واحد (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل).

وقد نرى كثيراً أنّه في الشجرة الواحدة أو في غصن واحد توجد ثمار من نفس الصنف ولكن لها أطعمة وألوان مختلفة، وفي العالم نشاهد أوراداً كثيرة، وقد يحمل الغصن الواحد أوراداً مختلفة الألوان.

أي مختبر للأسرار هذا الذي يعمل في أغصان الأشجار، والذي ينتج من مواد قليلة متحدة، تركيبات مختلفة تؤمّن إحتياجات الإنسان.

أليست هذه الأسرار تدلّ على وجود من يقود هذا النظام بالعلم والحكمة.

وهنا في آخر الآية يقول تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون).

هناك عدّة نقاط

1 - ما هي وجه العلاقة بين التوحيد والمعاد؟

كان الحديث في بداية الآية عن التوحيد وأسرار الكون، ولكن نقرأ في نهايتها (يفصّل الآيات لعلّكم بلقاء ربّكم توقنون) فما هي وجه العلاقة بين التوحيد والمعاد حتّى تكون الواحدة نتيجة للاُخرى؟

للإجابة على هذا السؤال لابدّ من ملاحظة ما يلي:

أ - إنّ قدرة الله على إيجاد الكون دليل على قدرته في إعادته كما نقرأ في الآية (29) من سورة الأعراف (كما بدأكم تعودون) أو نقرأ في أواخر سورة "يس" قوله تعالى: (أو ليس الذي خلق السّماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم).

ب - وكما قلنا في بحثنا عن المعاد، فإنّه لا فائدة من خلق العالم إذا لم تكن الآخرة حقيقة، لأنّه لا يمكن أن تكون هذه الحياة هي الهدف من خلق هذا العالم الواسع.

يقول القرآن الكريم ضمن آياته المتعلّقة بالمعاد من سورة الواقعة آية (62): (ولقد علمتم النشأة الأُولى فلولا تذكرون)(7).

2 - الإعجاز العلمي للقرآن

هناك آيات كثيرة في القرآن المجيد أزاحت الستار عن مجموعة من الأسرار العلمية التي كانت خافية على العلماء في ذلك الوقت.

وهذه واحدة من دلائل إعجاز وعظمة القرآن، وغالباً ما كان يشير إليها كثير من المحقّقين في مسألة الإعجاز.

فمن جملة هذه الآيات ما ذكرناه آنفاً وهي الآية التي تذكر الزوجية في النباتات، فكما قلنا سابقاً: إنّ ظاهرة الزوجية في النباتات كانت معروفة للناس منذ القديم ولو بشكلها الجزئي، ولكن لم تكن تعرف بشكل قانون عام حتّى أواسط القرن الثامن عشر حين إستطاع العالم "لينه" والأوّل مرّة أن يكشف عن هذه الحقيقة، ولكن القرآن الكريم أخبر بذلك قبل أكثر من ألف عام.

كما أشار القرآن إلى هذا الموضوع في سورة لقمان الآية 10 قوله تعالى: (وأنزلنا من السّماء ماء فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريم).

كما أشارت إليها آيات أُخرى.

3 - تسخير الشمس والقمر

قرأنا في الآيات السابقة أنّ الله سخّر الشمس والقمر، كما نقرأ في آيات كثيرة أُخرى عن تسخير السّماء والأرض والليل والنهار للإنسان.

فنقرأ في آية (وسخّر لكم الأنهار)(8) وفي آية أُخرى (وسخّر لكم الفلك)(9)(سخّر لكم الليل والنهار)(10) (وسخّر لكم الشمس والقمر)(11) (وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً)(12) (ألم تر أنّ الله سخّر لكم ما في الأرض)(13) (وسخّر لكم ما في السّماوات وما في الأرض جميعاً منه)(14).

من مجموع هذه الآيات يمكن أن نستفيد ما يلي:

أوّلا: إنّ الإنسان أكمل من جميع الموجودات في هذا العالم، فمن وجهة إسلامية نرى أنّ الشريعة الإسلامية تعطي للإنسان القيمة الكبيرة بحيث تسخّر له كلّ ما في الكون، فهو خليفة الله، وقلبه مستودع نوره!

ثانياً: ويتّضح أنّ التسخير ليس المقصود منه أنّ جميع هذه الكائنات هي تحت إمرة الإنسان، بل هي بقدر معيّن تدخل ضمن منافعه وخدمته، وعلى سبيل المثال فإنّ تسخير الكواكب السّماوية من أجل أن يستفيد الإنسان من نورها أو لفوائد أُخرى.

فلا يوجد أي مبدأ يقيّم الإنسان بهذا الشكل، ولا يوجد في أيّة فلسفة هذا المقام لشخصيته، فهذه من خصائص المدرسة الإسلامية التي ترفع من قيمة الإنسان بهذا الشكل الكبير، فالمعرفة بها لها أثر عميق على تربيته، لأنّه حينما يفكر الإنسان بتعظيم الله له، وتسخير السحاب والهواء والشمس والقمر والنّجوم وجعلها في خدمته، فمثل هذا الإنسان لا تعتريه الغفلة ولا يكون عبداً للشهوات وأسيراً للمال والمقام، بل يحطّم القيود ويتطلّع إلى آفاق السّماء.

كيف يمكن القول: إنّ الشمس والقمر غير مسخّرين للإنسان في الوقت الذي نرى أنّ في أشعّتها نور يضيء حياة الإنسان ويحافظ على دفئه، ولولا أشعّة الشمس لما وجدت أي حركة أو نشاط على الكرة الأرضية، ومن جهة أُخرى فإنّ جاذبيتها تنظم حركة الأرض حول مدارها، وتوجد ظاهرة المدّ والجزر في البحار بمساعدة القمر وهي بالتالي منبع لكثير من الفوائد والبركات.

فالبحار والأنهار، والليل والنهار، والفلك; كلّ واحدة هي في خدمة الإنسان ومصالحه.

والدقّة في هذا التسخير والنظام دليل واضح على عظمة وقدرة وحكمة الخالق المتعال.


1- مجمع البيان ذيل الآية الشريفة.

2- تفسير فخر الرازي، ج18، ص206.

3- تفسير القرطبي، ج9، ص258.

4- نهج البلاغة - الكلمات القصار - جملة 11.

5- (تفنّدون) من مادّة (الفَند) على زنة (الرَمَد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة، ومضى بعض اللغويين إلى أنّ معناها الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناءً على ذلك فإنّ جملة (لولا أن تفنّدون) معناها إذا لم تتّهموني بالسفاهة وفساد العقل.

6- اُصول الكافي، ج2، ص123 "والسائل هو جابر الجعفي".

7- لمزيد الإطلاع على هذه الرّوايات يراجع المجلد الثّاني من تفسير نور الثقلين، ص464.

8- شرح نهج البلاغة، للخوئي، ج5، ص200.

9- نقرأ في تفسير القرطبي أنّ هدفه كان الإستغفار لهم في ليلة الجمعة الموافقة ليوم عاشوراء "لمزيد الإطلاع يراجع تفسير القرطبي، ج6، ص3491".

10- راجع تفسير الميزان، وتفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.

11- تفسير نور الثقلين، ج2، ص467.

12- تفسير نور الثقلين، ج2، ص468.

13- البقرة، 132.

14- مجمع البيان، ج5، ص265.