الآيات 108 - 111
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُواْ إلى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَنَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَْخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْاْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الُْمجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِّوْلِى الاَْلْبَبِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ (111) ﴾
التّفسير
أصدق الدروس والعبر:
في الآية الأُولى من هذه المجموعة يتلقّى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأوامر لتحديد الطريق والمنهج الذي يتّبعه، فيقول القرآن الكريم: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله) ثمّ يضيف: (على بصيرة أنا ومن اتّبعني).
وهذه الجملة توضّح أنّ كلّ فرد مسلم مقتد بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له نفس الدور في الدعوة إلى الحقّ، ولابدّ من دعوة الآخرين إلى الله، من خلال أفعالهم وأقوالهم، وكذلك تؤكّد هذه الجملة على أنّ القائد يجب أن تكون له بصيرة ومعرفة كافية، وإلاّ فإنّ دعوته ليست إلى الحقّ، وللتأكيد على ذلك يضيف القرآن الكريم: (وسبحان الله وما أنا من المشركين).
فهو يؤكّد على نزاهة الخالق الذي يدعو إليه وكماله المطلق الخالي من النقصان وأنّه لا يتّخذ معه شريكاً.
هذه في الواقع من خصائص القائد الصادق، أن يعلن بصراحة عن أهدافه وخُططه، وأن يسير هو والتابعين له على منهج واضح وسليم، لا أن تسودهم هالة من الإبهام في الهدف والطريقة.
أو أن يسير كلّ واحد منهم في جهة معيّنة.
فواحدة من الطرق التي نتعرّف بها على القيادات الصادقة من الكاذبة هو أنّ القيادة الصادقة تتميّز بصراحة القول ووضوح الطريق أمّا الأُخرى فهي لكي تحاول التغطية على سلوكها وتلتجىء إلى الحديث المبهم والمتعدّد الجوانب.
إنّ وقوع هذه الآية بعد الآيات المتعلّقة بيوسف تشير إلى أنّ طريقة ومنهج النّبي لا يختلفان عن طريقة ومنهج يوسف النّبي.
فهو كان يدعو إلى "الله الواحد القهّار" حتّى في زوايا السجن، أمّا غيره فكان يدعو إلى أسماء انتقلت إليه بسبب التقليد من جاهل إلى جاهل آخر.
أمّا سيرة الأنبياء والرسل كلّها واحدة.
وبما أنّ الأقوام الضالّة والجاهلة كانت دائماً تثير هذا الإعتراض على الأنبياء وهو أنّكم بَشر؟!
ولماذا لا تُكلّف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما أنّ الناس في الجاهلية كانوا يثيرون نفس الإعتراض بالنسبة إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته العامّة، فإنّ القرآن الكريم يجيب مرّة ثانية على هذا الإعتراض فيقول: (وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالا نوحي إليهم من أهل القرى).
هؤلاء الرّسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى، ويتجوّلون بين الناس ويشعرون بآلامهم وإحتياجاتهم ومشاكلهم.
فالوصف هنا بـ(من أهل القرى) بالإضافة إلى ما تشمله القرية في اللغة من معنى المدينة أو الريف في مقابل "البدو" التي تطلق على أهل الصحراء، فإنّها قد تشير إلى أنّ أنبياء الله لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء - كما صرّح بذلك بعض المفسّرين - لأنّ سكّان البادية يتّصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم قاسية ويمتازون بقلّة معلوماتهم عن الحياة ومتطلّباتها.
صحيح أنّ أكثر سكّان أرض الحجاز كانوا من البدو، ولكن الرّسول من أهل مكّة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيّاً، وصحيح أيضاً أنّ مدينة كنعان لو قِيست بأرض مصر التي كان يوسف يحكم فيها لكانت صغيرة وغير مهمّة ولذلك كان يعبّر عنها بالبدو.
ولكن نحن نعلم أنّ يعقوب وأبناءه لم يكونوا من أهل البادية أبداً، فهم كانوا يعيشون في هذه المدينة الصغيرة كنعان.
ثمّ يبيّن القرآن الكريم: إذا ما أراد هؤلاء أن يعلموا عاقبة مخالفتهم لدعوتك التي هي الدعوة إلى الله فإنّ عليهم أن يسيروا ليروا آثار السابقين: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم).
إنّ السير والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار الماضين وخراب دورهم ومدنهم بسبب العذاب الإلهي، أفضل درس لهم، درس حي وملموس للجميع.
(ولدار الآخرة خيرٌ للذين اتّقوا أفلا تعقلون).
لماذا؟ لأنّ الدنيا دار مليئةً بالمصائب والآلام وغير باقية، أمّا الآخرة فدار خالدة وخالية من الآلام والعذاب.
(حتّى إذا استيئس الرّسل وظنّوا أنّهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء).
تشير هذه الآية إلى أدقّ وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فنقول: إنّ الأنبياء يواجهون دائماً مقاومة عنيفة من قبل أقوامهم وطواغيت زمانهم حتّى يصل الحال بالأنبياء إلى اليأس إلى حدّ يظنّون أنّ أتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة إلى الحقّ، وفي هذه الأثناء حيث إنقطع أملهم في كلّ شيء أتاهم نصرنا.
وفي نهايتها تشير إلى عاقبة المجرمين (ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين).
فهذه سنّة الله في الذين أصرّوا على أعمالهم وأغلقوا باب الهداية على أنفسهم، فهم وبعد إتمام الحجّة عليهم ينالهم العذاب الإلهي فلا تستطيع أي قوّة أن تردّه.
في تفسير هذه الجملة من الآية: (ظنّوا أنّهم قد كذبوا) ومن المقصود بها، هناك عدّة آراء للمفسرين:
1 - إنّ كثيراً من علماء التّفسير يرون ما قلناه سابقاً، وخلاصته: إنّ عمل الأنبياء يصل إلى درجة يعتقدون فيها أنّ كلّ الناس سوف يكذبوهم، حتّى تلك المجموعة التي تظهر إيمانها ولكنّها غير راسخة في عقيدتها.
2 - ويحتمل في تفسير الآية أنّ فاعل "ظنّوا" هم المؤمنون، وإنّ المشاكل والإضطرابات تصل إلى حدٍّ بأن يسوء ظنّهم بما وعدهم الأنبياء من النصر ويخيل إليهم أنّه خلاف الواقع؟ وليس بعيداً سوء الظنّ هذا من الأفراد الذين آمنوا حديثاً.
3 - وبعض آخر أعطى تفسيراً ثالثاً للآية، وخلاصته: إنّ الأنبياء - بدون شكّ - كانوا بشراً، فحين يُزلزلوا زلزالا شديداً وتبدوا جميع الأبواب أمامهم موصدة ظاهراً، ولا يُرى في الاُفق فرج، والحوادث المتتالية تعصف بهم، وصرخات المؤمنين الذين نفذ صبرهم تصل إلى أسماعهم، نعم في هذه الحالة وبمقتضى الطبع البشري قد يتبادر إلى أذهانهم أنّ الوعد بالنصر بعيد عن الصحّة! أو أنّ النصر الموعود له شروطه التي لم تتحقّق بعد، ولكن سرعان ما يتغلّبون على هذه الأفكار ويبعدونها عن أذهانهم ويشع في قلوبهم بصيص الأمل، ومن ثمّ تتّضح لهم بشائر النصر.
وشاهدهم على هذا التّفسير الآية (214) سورة البقرة: (... حتّى يقول الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر الله...).
ولكن مجموعة أُخرى من المفسّرين أمثال العلاّمة "الطبرسي" في مجمع البيان و "الرازي" في تفسيره الكبير، بعد ما ذكروا هذا الإحتمال قالوا ببطلانه لأنّه حتّى هذا المقدار من التوهّم ليس من مقام الأنبياء، وعلى أيّة حال فالأصحّ هو التّفسير الأوّل.
وآخر آية من هذه السورة ذات محتوىً شامل وجامع لكلّ الأبحاث التي ذكرناها في هذه السورة، وهي: (لقد كان في قصصهم عبرةً لاُولي الألباب).
فهي مرآة يستطيعون من خلالها أن يروا عوامل النصر والهزيمة، الهناء والحرمان، السعادة والشقاء، العزّ والذلّة، والخلاصة كلّ ما له قيمة في حياة الإنسان وما ليس له قيمة.
وهي مرآة لكلّ تجارب المجتمعات السابقة والرجال العظام.
ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كلّ البشر.
ولكن أُولي الألباب وذوي البصائر فقط بإستطاعتهم أن يشاهدوا العبر في صفحة المرآة العجيبة هذه: (ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه).
فهذه الآيات التي أنزلناها عليك والتي أزاحت الستار عن التأريخ الصحيح للاُمم السابقة ليست من العلم البشري الذي يمكن معرفته عن العلماء، بل إنّ الكتب السّماوية السابقة تشهد على ذلك وتصدّقه وتؤيّده وبالإضافة إلى ذلك ففي هذه الآيات كلّ ما يحتاجه الإنسان في تأمين سعادته وتكامله: (وتفصيل كلّ شيء).
ولهذا السبب فهي (وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون) فالظاهر من الآية أعلاه أنّها تُريد أن تشير إلى هذه النقطة المهمّة وهي: إنّ للقصص المصنوعة ذات الإثارة كثيرة في أوساط الاُمم وهي من الأساطير الخيالية، ولكن لا يتوهّم أحد بأنّ سيرة يوسف أو سير بقيّة الأنبياء التي ذكرها القرآن الكريم من ذلك القبيل.
المهمّ أنّ هذه القصص المثيرة وذات العِبَر هي عين الواقع ولا تحتوي على أدنى إنحراف عن الواقع الموضوعي، ولهذا السبب يكون تأثيرها كبيراً جدّاً، لأنّنا نعلم أنّ الأساطير مهما تكن شيّقة ومثيرة فإنّ تأثيرها قليل إذا ما قُورنت مع سيرة واقعيّة لأنّ:
1 - عندما يصل القاريء أو المستمع للقصّة إلى أقصى لحظات الإثارة يتبادر إلى ذهنه فجأة أنّ هذا وهم وخيال ليس أكثر!
2 - إنّ هذه القصص في الواقع هي من هندسة الإنسان، فهو يحاول أن يُجسّم أفكاره في سلوك بطل القصّة، ولذلك فهي ليست أكثر من فكر الإنسان، وهذه القصّة بالمقارنة مع السير الواقعيّة بينهما فرق شاسع ولا تستطيع القصّة البشرية أن تكون أكثر من موعظة لصاحب المقالة.
ولكن التاريخ الواقعي للبشر ليس كذلك، فهو أكثر ثمراً ونفعاً وأكثر بركة.
اللهمّ! امنحنا البصر في أعيننا والسمع في آذاننا والعلم في قلوبنا، حتّى نستطيع أن نحصل من سيرة السابقين على طرقاً للنجاة من المشاكل التي نغوص الآن فيها.
ربّنا! ألهمنا بصراً حادّاً حتّى نرى عاقبة الذين إختلفوا وتشتّتوا فيما بينهم فكان عاقبتهم الهزيمة والخسران، وحتّى لا نسير في نفس الطريق الذي سلكوه.
اللهمّ! ارزقنا تلك النيّة الخالصة لكي نتغلّب بها على نفوسنا، وتلك المعرفة حتّى لا يصيبنا الغرور بالنصر، وتلك السّماحة ونكران الذات بحيث إذا رأينا من هو أفضل منّا على إنجاز المسؤولية تركناها وتنازلنا عنها إليه.
فإن منحتنا هذا فسوف نستطيع أن نتغلّب على جميع المشاكل، وأن نحفظ نور الإسلام والقرآن في هذه الدنيا.
نهاية سورة يوسف