الآيات 102 - 107
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَلَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَة فِى السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) ﴾
التّفسير
الأدعياء مشركون غالباً!
بعد ما إنتهت قصّة يوسف (عليه السلام) بكلّ دروسها التربوية ونتائجها الغزيرة والقيّمة والخالية من جزاف القول والخرافات التاريخيّة... إنتقل الكلام إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول القرآن الكريم: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم...).
إنّ هذه المعلومات الدقيقة لا يعلمها إلاّ الله، أو واحدٌ من الذين كانوا حاضرين هناك، وبما أنّك لم تكن حاضراً لديهم فالوحي الإلهي فقط هو الذي جاءك بهذه الأخبار.
ومن هنا يتّضح أنّ قصّة يوسف بما أنّها وردت في التوراة فأهل الحجاز عندهم معلومات تقريبيّة عنها، ولكن كلّ هذه الحوادث لم تطرح بهذه الدقّة في جزئياتها أبداً، وحتّى في المحافل الخاصّة السابقة لم تكن تُعرف بدون إضافة وخرافة.
وعلى أي حال كان لزاماً على الناس أن يؤمنوا بعد مشاهدتهم لعلائم الوحي وسماعهم لهذه النصائح الإلهيّة، وأن يتراجعوا عن طريق الغيّ، ولكن ياأيّها النّبي: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين).
إنّ الوصف بـ(الحرص) هنا دليل على شوق ولهفة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ يؤمن الناس، ولكن ما الفائدة، فإصراره وشوقه لم يكونا كافيين، فمن شرط الإيمان الإستعداد والقابلية في نفس الشخص.
إنّ أبناء يعقوب (عليه السلام) كانوا يعيشون في بيت الوحي والنبوّة، ومع ذلك نرى كيف عصفت بهم الأهواء حتّى كادوا أن يقتلوا أخاهم، فكيف نتوقّع من جميع الناس أن يتغلّبوا على أهوائهم وشهواتهم مرّةً واحدة وبشكل جماعي ويؤمنوا بالله؟
وهذه الآية بالإضافة إلى ما ذكرنا هي تسليةً لقلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى لا ييأس أبداً من إصرارهم على الكفر والذنوب ولا يستوحش الطريق لقلّة أصحابه، كما نقرأ في آيات أُخرى من القرآن الكريم الكهف (1): (لعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) وقوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر)فهؤلاء في الواقع ليس لهم أي عذر أو مبرّر لعدم قبول الدعوة بالإضافة إلى ما اتّضح من علامات الحقّ أنّك لم تسألهم أجراً حتّى يكون مبرّراً لمخالفتك: (إن هو إلاّ ذكر للعالمين).
وهذه الدعوة عامّة للجميع، ومائدة واسعة للعام والخاص وكلّ البشرية.
(وكأين من آية في السّماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون).
فهذه الدلائل يرونها بأعينهم كلّ يوم! تشرق الشمس عند الصباح لتنشر أشعتها الذهبية على الجبال والوديان والصحاري والبحار، وتغرب عند المساء ويعمّ الليل بستاره المظلم كلّ مكان.
إنّ أسرار هذا النظام العجيب وهذا الشروق والغروب وحياة النباتات والحشرات والإنسان، وهدير المياه، وحركة النسيم، وكلّ هذا الفن العجيب للوجود هو من الوضوح بحيث إن لم يتدبّر أحد فيه وفي خالقه سيكون كالخشبة المسنّدة.
كثيرة هي الدلائل التي نعتبرها صغيرة وغير مهمّة، فنحن نمرّ عليها كلّ يوم ولا نعير لها أهميّة، وفجأةً يظهر عالم ذو بصيرة فيكتشف بعد دراسة أشهر وسنين أسرار هذه الدلائل ويُذِهَل العالم بها.
المهمّ أن نعلم أنّ كلّ ما في العالم ليس زخرفاً وبدون فائدة، لأنّها من مخلوقات الله الذي لا نهاية لعلمه ولا حدّ لحكمته.
وإنّما الساذج والزخرف فهم أُولئك الذين يعتقدون بأنّ العالم وجود عبث وليس له غاية وفائدة.
ولهذا فلا تعجب لعدم إيمانهم بالآيات المنزلة عليك، لأنّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كلّ مكان (وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون).
قد يتصوّر هؤلاء أنّهم من المؤمنين المخلصين ولكن غالباً ما توجد جذور الشرك في أفكارهم وأقوالهم وضمائرهم.
ليس الإيمان هو الإعتقاد بوجود الله فقط، فالمؤمن المخلص هو الذي لا يعتقد بأيّ معبود سوى الله، فتكون أقواله وأعماله وكلّ أفعاله خاضعة له.
ولا يعترف بغير قانون الله، ولا يضع طوق العبوديّة في رقبته لغيره، ويمتثل بقلبه وروحه لكلّ الأوامر الإلهيّة ولو كانت مخالفة لهواه، ويُقدّم دائماً الإله على الهوى، هذا هو الإيمان الخالص من الشرك في العقيدة والقول والعمل، فلو حسبنا حساباً دقيقاً في هذا المجال لوجدنا أنّ الموحّدين الصادقين والمخلصين قليلون جدّاً.
ولهذا السبب نقرأ في الرّوايات الإسلامية ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) "الشرك أخفى من دبيب النحل"(2).
أو نقرأ: "إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يارسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم: "اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء"(3).
ونُقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية أعلاه حيث يقول "شرك طاعة وليس شرك عبادة، والمعاصي التي يرتكبون وهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره"(4).
وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ المقصود من (شرك النعمة) بهذا المعنى أنّ الله يهب الإنسان شيئاً فيقول: إنّ فلاناً قد جاءني به فلو لم يكن فلان لكنتُ من الهالكين! وكانت حياتي هباءاً منثوراً، فهنا قد إعتبر الشريك مع الله الشخص الذي جرت على يده نعمة الله!
الخلاصة: إنّ ما يُفهم من الشرك ليس الكفر وإنكار الإله وعبادة الأصنام فقط، كما جاء في حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) "شرك لا يبلغُ به الكفر" ولكن الشرك بمعناه الواسع يشمل جميع هذه الأُمور.
وفي آخر آية يحذّر القرآن الكريم أُولئك الذين لم يؤمنوا بعد ويمرّوا على الآيات الواضحة مرّ الكرام ويشركون في أعمالهم حيث يقول: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتةً وهم لا يشعرون).
"الغاشية": الغطاء أو الستار، ويقال للثوب الكبير الذي يغطّي سرج الجواد.
ومعناه هنا البلاء والجزاء الذي يعمّ المفسدين(5).
"والساعة": القيامة، وقد وردت بهذا المعنى في كثير من الآيات.
ويحتمل أن تكون كناية عن الوقائع العظيمة التي تحدث قبل يوم القيامة مثل الزلازل والعواصف والصواعق، أو إشارة إلى ساعة الموت، ولكن التّفسير الأوّل أقرب إلى المعنى كما نرى.
1- مجمع البيان، ذيل الآية الشريفة.
2- مجمع البيان في ذيل الآية الشريفة.
3- (آثرك) أصله من (الإيثار) وفي الأصل بمعنى البحث عن أثر الشيء، وبما أنّه يقال للفضل والخير: أثر، فقد إستعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو، فبناء على هذا يكون معنى قوله (آثرك الله علينا) أي أنّ الله سبحانه وتعالى قد أكرمك وفضّلك علينا لما قمت به من الأعمال الخيّرة.
4- يرى الفخر الرازي في تفسيره أنّ الفرق بين الخاطئ والمخطئ هو أنّ الخاطىء يقال لمن تعمّد الخطأ، والمخطئ لمن أخطأ عن سهو.
5- "تثريب" أصله من مادّة (ثرب) وهو شحمة رقيقة تغطّي المعدة والأمعاء، والتثريب بمعنى رفع هذا الغطاء، ثمّ بمعنى العتاب والملامة فكان المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب (راجع القاموس ومفردات الراغب وتفسير الرازي وروح المعاني).