الآيات 94 - 98

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لاََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ 94 قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَلِكَ الْقَدِيمِ 95 فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 96 قَالُواْ يَأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَطِئِينَ97 قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ98﴾

التّفسير

وأخيراً شملتهم رعاية الله ولطفه:

أمّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد أن واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل القادمة من مصر، وفيما كان الإخوة يقضون أسعد لحظات حياتهم، كان هناك بيت في بلاد الشام وأرض كنعان - ألا وهو بيت يعقوب الطاعن في السنّ حيث كان يقضي هو وعائلته أحرج اللحظات وأشدّها حزناً وبؤساً.

لكن - مقارناً مع حركة القافلة من مصر - حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث أذهل الجميع وصار مثاراً للعجب والحيرة، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال: لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي إلى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم: (إنّي لأجد ريح يوسف) فإنّي أحسّ بأنّ أيّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل، وأنّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب، وأرى أنّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور - لكن لا تصدّقون كلامي (ولمّا فصلت العير قال أبوهم إنّي لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون)(1).

والمستفاد من قوله تعالى (فصلت) أنّه بمجرّد أن تحرّكت القافلة من مصر أحسّ يعقوب بالأمر وتغيّرت أحواله.

أمّا الذين كانوا مع يعقوب - وهم عادةً أحفاده وأزواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة - فقد إستولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين: (قالوا تالله إنّك لفي ضلالك القديم) أليس هذا برهاناً واضحاً على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم أنّه حي، وأخيراً تقول: إنّك تشمّ رائحته من مصر؟!

أين مصر وأين الشام وكنعان؟!

وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وإنغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة، ألم تقل لأولادك قبل فترة اذهبوا إلى مصر وتحسّسوا عن أحوال يوسف!

يظهر من هذه الآية الشريفة أنّ المقصود بـ(الضلال) ليس الإنحراف في العقيدة، بل الإنحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به، لكن يستفاد من هذه التعابير أنّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ

الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة: (إنّ أبانا في ضلال مبين) وهنا قالوا له: (إنّك لفي ضلالك القديم) لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه، ويتصوّرون أنّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وأنّه لا يطّلع على حقائق الأُمور ماضيها ومستقبلها.

وتمضي الليالي والأيّام ويعقوب في حالة الإنتظار... الإنتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والإطمئنان، إلاّ أنّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأُمور لإعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة وإلى الأبد.

وبعد عدّة أيّام من الإنتظار - والتي لا يعلم إلاّ الله كيف قضاها يعقوب - إرتفع صوت المنادي معلناً عن وصول قافلة كنعان من مصر، لكن في هذه المرّة - وخلافاً للمرّات السابقة - دخل أولاد يعقوب إلى المدينة فرحين مستبشرين، وتوجّهوا مسرعين إلى بيت أبيهم، وقد سبقهم الـ(بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف وألقى قميص يوسف على وجهه.

أمّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادراً على رؤية القميص فبمجرّد أن أحسّ بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأنّ نوراً قد شعّ في جميع ذرّات وجوده وأنّ السّماء والأرض مسروران ونسيم الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم، شاهد الجدران وكأنّها تضحك معه، وأحسّ يعقوب بتغيّر حالته، وفجأةً رأى النّور في عينيه وأحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة أُخرى رأى جمال العالم، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله: (فلمّا أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتدّ بصيراً).

هذه الحالة التي حصلت ليعقوب أسالت دموع الفرح من عيون الإخوة والأهل، وعند ذاك خاطبهم بقوله: (ألم أقل لكم إنّي أعلم من الله ما لا تعلمون).

هذه المعجزة الغريبة، جعلت الأولاد يعودون إلى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالأخطاء والذنوب، وما اعتورهم من الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الإنسانية، لكن ما أجمل التوبة والعودة إلى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها... وما أحلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب أن يطلب العفو ممّن جنى عليه، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادّة الخطأ والإنحراف، وهذا ما قام به الإخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والإستغفار (قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين).

أمّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات، فقد أجابهم دون أن يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم... أجابهم بقوله: (سوف استغفر لكم ربّي) وأملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم (إنّه هو الغفور الرحيم).

ملاحظات

1 - كيف أحسّ يعقوب برائحة قميص يوسف؟!

هذا سؤال أثاره كثير من المفسّرين، واعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل يعقوب أو يوسف.

إلاّ أنّه - مع الأخذ بنظر الإعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر - ولم يتناوله على أنّه أمر إعجازي أو غير إعجازي فمن الهيّن أن نجد له توجيهاً علميّاً أيضاً.

إذ أنّ حقيقة "التليبائي" أو إنتقال الفكر من النقاط أو الأماكن البعيدة تُعدّ مسألة علميّة قطعيّة مسلّماً بها... وأنّها تحدث عند من تكون لديهم علاقة قريبة تربط بعضهم ببعض، أو تكون لديهم قدرة روحيّة عالية.

ولعلّ كثيراً منّا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليوميّة، وذلك أن يشعر شخص "من أب، أو اُمّ، أو أخ" مثلا بالكآبة وإنقباض النفس دون سبب، ثمّ لا يمضي وقت - أو فترة - حتّى يبلغه خبر بأنّ أخاه أو ولده قد حدث له حادث ما في نقطة بعيدة عنه.

فالعلماء يوجّهون هذا الإحساس على أنّه جرى عن طريق إنتقال الفكر.

وما ورد في قصّة يعقوب لعلّه من هذا القبيل أيضاً، فعلاقته الشديدة بيوسف وعظمة روحه، كلّ ذلك كان سبباً لأنّ يشعر بالحالة الحاصلة للاُخوة نتيجة حمل قميص يوسف من مسافة بعيدة.

ومن الممكن أن يتعلّق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء أيضاً.

وقد وردت إشارة طريفة - في بعض الرّوايات - إلى مسألة إنتقال الفكر، وهي أنّ بعضهم سأل الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام): فقال: جُعلت فداك، ربّما حزنت من دون مصيبة تُصيبني أو أمر ينزل بي، حتّى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي.

فقال (عليه السلام): "نعم ياجابر، إنّ الله خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه واُمّه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حُزنٌ حزنت هذه لأنّها منها"(2).

ويستفاد من بعض الرّوايات أيضاً أنّ هذا القميص لم يكن قميصاً مألوفاً، بل كان ثوباً من ثياب الجنّة، وقد خلّفه إبراهيم الخليل (عليه السلام) في آل يعقوب وأُسرته ليكون ذكرى له، وأنّ رجلا كيعقوب (عليه السلام) الذي كانت لديه شامّة من "الجنّة" أحسّ برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنّة من بعيد(3).

2 - إختلاف حالات الأنبياء:

الإشكال المعروف الآخر هنا هو ما أثاره بعضهم في شأن يعقوب من سؤال وهو:

كيف يمكن أن يكون هذا النّبي العظيم قد أحسّ بريح قميص يوسف من مسافة قدّرها بعضهم بثمانين فرسخاً، وقال بعضهم: من مسافة عشرة أيّام، مع أنّه لم يطّلع على الحوادث القريبة منه التي مرّت على يوسف عندما اُلقي في الجبّ في أرض كنعان؟

والجواب على هذا السؤال - مع الإلتفات إلى ما ذكرناه آنفاً في شأن علم الغيب، وحدود علم الأنبياء والأئمّة - يسير لا غبار عليه، لأنّ علمهم بالأُمور الغيبيّة يستند إلى علم الله وإرادته، وما يشاؤه الله لهم من العلم "أو عدمه" حتّى ولو كان ذلك في أقرب نقطة من نقاط العالم.

فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء تغشيها الغيوم وبينا هي على هذه الحال وإذا السّماء تومض بالبرق اللامع فتضيء الصحراء إلى منتهى أطرافها، فترى القافلة باُمّ أعينها كلّ شيء أمامها، إلاّ أنّ البرق ينطفىء ثانيةً ويستوعب الظلام كلّ مكان فلا يرى أحد شيئاً.

ولعلّ الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في شأن علم الإمام (عليه السلام) إشارة إلى هذا المعنى، إذ جاء عنه (عليه السلام) أنّه قال: "جعل الله بينه وبين الإمام عموداً من نور، ينظر الله به إلى الإمام، وينظر الإمام به إليه، فإذا أراد علم شيء نظر في ذلك النّور فعرفه"(4).

ومع الإلتفات إلى هذه الحقيقة، فلا مجال للتعجّب بأن تقتضي مشيئة الله سبحانه - لإبتلاء يعقوب وتمحيصه أن لا يعرف يوماً شيئاً عن الحوادث في كنعان وهي تجري قريباً منه، وأن يحسّ برائحة قميص ولده يوسف وهو في مصر في يوم آخر عندما قُدّر له أن تنتهي محنته وبلواه.

3 - كيف رُدّ على يعقوب بصره؟!

احتمل بعض المفسّرين أنّ يعقوب (عليه السلام) لم يفقد بصره بصورة كليّة، وإنّما ضعف بصره، وعند حصول مقدّمات الوصال تبدّل تبدّلا بحيث عاد ذلك البصر إلى حالته الطبيعيّة الأُولى، إلاّ أنّ ظاهر آيات القرآن يدلّ على أنّه فقد بصره تماماً وابيضّت عيناه من الحزن، وعلى ذلك فإنّ بصره عاد إليه عن طريق الإعجاز، حيث يقول القرآن الكريم: (فارتدّ بصيراً).

4 - الوعد بالإستغفار:

نقرأ في الآيات - محل البحث - أنّ يوسف (عليه السلام) قال لإخوته عندما أظهروا له ندامتهم: (يغفر الله لكم) إلاّ أنّ يعقوب (عليه السلام) قال لهم عندما اعترفوا عنده بالذنب وأظهروا الندامة: (سوف استغفر لكم) وكان هدفه - كما تقول الرّوايات - أن يؤخّر إستجابة طلبهم الاستغفار إلى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لإستجابة الدعاء وقبول التوبة(5).

والآن ينقدح هذا السؤال وهو: كيف أجابهم يوسف بصورة قطعيّة، وأوكل أبوهم ذلك إلى المستقبل؟!

ولعلّ هذا الإختلاف ناشىء عن أنّ يوسف (عليه السلام) كان يتحدّث عن "إمكان المغفرة" وأنّ هذا الذنب من الممكن أن يعفو الله عنه، ويعقوب كان يتحدّث عن "فعليّة المغفرة" وأنّه ما الذي ينبغي أن يفعل حتّى تتحقّق التوبة والمغفرة "فلاحظوا بدقّة".

5 - التوسّل جائز:

يستفاد من الآيات - آنفة الذكر - أنّ طلب الإستغفار من الآخرين غير مناف للتوحيد، بل هو سبيل إلى الوصول إلى لطف الله سبحانه، وإلاّ فكيف كان يمكن ليعقوب أن يستجيب لطلب أبنائه في أن يستغفر لهم وأن يجيبهم بالإيجاب على توسّلهم به.

وهذا الأمر يدلّ على أن التوسّل بأولياء الله جائز على الإجمال، والأشخاص الذين يرون ذلك مخالفاً لأصل التوحيد غافلون عن نصوص القرآن، أو أنّ التعصّب المقيت يحجب أبصارهم عن تلك النصوص.

6 - نهاية الليلة السوداء

إنّ الدرس الكبير الذي نستلهمه من الآيات المتقدّمة هو أنّه مهما كانت المشاكل والحوادث صعبة وعسيرة، ومهما كانت الأسباب والعلل الظاهرية غير تامّة ومحدودة، ومهما كان النصر أو الفرج بطيئاً (أو غير متحقّق فعلا) فإنّ أيّاً من أُولئك لا يمنع من الرجاء والأمل بلطف الله، فالله الذي أعاد البصر برائحة القميص ونقل رائحة ذلك القميص من مسافة بعيدة، وردّ العزيز المفتقد بعد سنين طويلة، قادر على أن يضمّد القلوب المجروحة من الفراق، وأن يشفي آلام النفوس.

أجل إنّنا نجد الدرس التوحيدي الكبير ينطوي في هذا القصص والتاريخ، وهو أنّه لا شيء على الله بعزيز ولا عسير، بل يهون كلّ شيء بأمره وإرادته.

(إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).


1- سورة ن والقلم، 25.

2- مجمع البيان، ج5، ص253 ذيل الآية.

3- يقول الطبرسي في مجمع البيان - ذيل الآية - إنّ السنّة المتّبعة لدى بعض المجتمعات في ذلك الزمان هو أن يصير

السارق عبداً لمدّة سنة كاملة، وذكر أيضاً أنّ اُسرة يعقوب كانت ترى عبودية السارق بمقدار ما سرق (أي يعمل عندهم بذلك

المقدار).

4- (فرّطتم) من مادّة تفريط وأصله من (فروط) على وزن شروط، ومعناه التقدّم، ولكن حينما يكون من باب التفعيل يأخذ

معنى القصور في التقدّم، وحينما يكون من باب الأفعال (إفراط) يأخذ معنى الإسراف في التقدّم والتجاوز عنه.

5- (القرية) لا تطلق عند العرب على القرى والأرياف خاصّة، بل يشمل جميع الأرياف والمدن والقرى، الصغيرة منها والكبيرة - والمقصود منها في الآية هي مصر.