الآيات 87 - 93

﴿يَبَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَاْيْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَاْيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ 87 فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَعَة مُّزْجَة فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ 88 قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَهِلُونَ89 قَالُواْ أَءِنَّكَ لاََنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ 90 قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَطِئِينَ91 قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ92 اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ93﴾

التّفسير

اليأس علامة الكفر!

كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوماً بعد آخر في مصر وما حولها ومنها كنعان، ومرّة أُخرى أمر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا صوب مصر للحصول على الطعام، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الأُولى أن يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين، حيث قال لهم: (يابني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه).

لكن بما أنّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين إلى هلاك يوسف وعدم بقاءه، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالإعتماد على الله سبحانه والإتّكال عليه بقوله: (ولا تيأسوا من روح الله) فإنّه القادر على حلّ الصعاب و (إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون).

(تحسّس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشيء المفقود بأحد الحواس، وهنا بحث بين اللغويين والمفسّرين في الفرق بينه وبين (تجسّس) وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ التحسّس هو البحث عن الخير، والتجسّس هو البحث عن الشرّ، لكن ذهب آخرون إلى أنّ التحسّس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.

وهنا رأي ثالث في أنّهما متّحدان في المعنى، إلاّ أنّ ملاحظة الحديث الوارد بقوله: "لا تجسّسوا ولا تحسّسوا" يثبت لنا أنّهما مختلفان وأنّ ما ذهب إليه ابن عبّاس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة، ولعلّ المقصود منهما في هذا الحديث الشريف: لا تبحثوا عن اُمور الناس وقضاياهم سواء كانت شرّاً أم خيراً.

قوله تعالى "روح" بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدّة.

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته (الرَّوْحُ والرُّوحُ في الأصل واحد وجعل الروح إسماً للنّفس... والرَّوح التنفّس وقد أراح الإنسان إذا تنفّس...).

وأخيراً جمع الاُخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر، وهذه هي المرّة الثّالثة التي يدخلون فيها أرض مصر، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات.

لكن في هذه السفرة - خلافاً للسفرتين السابقتين - كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند أهل مصر أو العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرّة السابقة، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة.

ومن جهة أُخرى لم يحملوا معهم هذه المرّة من المتاع ما يستحقّ أن يعاوضوه بالطعام والحبوب، إضافةً إلى هذه الأُمور فإنّ فقد أخيهم بنيامين والآلام التي ألمّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإنّ السكين قد وصلت إلى العظم، كما يقول المثل إلاّ أنّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم (لا تيأسوا من روح الله).

وأخيراً استطاعوا أن يقابلوا يوسف، فخاطبوه - وهم في غاية الشدّة والألم - بقولهم: (فلمّا دخلوا عليه قالوا ياأيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ) أي أنّ القحط والغلاء والشدّة قد ألمّت بنا وبعائلتنا ولم نحمل معنا من كنعان إلاّ متاعاً رخيصاً (وجئنا ببضاعة مزجاة)(1) لا قيمة لها ولكن - في كلّ الأحوال - نعتمد على ما تبذل لنا من كرمك ونأمل في معروفك (فاوف لنا الكيل) بمنّك الكريم وصدقاتك الوافرة (وتصدّق علينا) ولا تطلب منّا الأجر، بل اُطلبه من الله سبحانه وتعالى حيث (إنّ الله يجزي المتصدّقين).

والطريف أنّ إخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم أوّلا، بل حاولوا الحصول على الطعام، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن والحبوب، ولعلّ السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف، أو لعلّهم أرادوا أن يظهروا أنفسهم أمام العزيز والمصريين وكأنّهم اُناس جاؤوا لشراء الطعام والحبوب فقط، فمن ثمّ يطرحوا مشكلتهم أمام العزيز ويطلبوا منه المساعدة، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى وإحتمال تنفيذه أكثر.

قال بعض المفسّرين: إنّ مقصود الإخوة من قولهم: (تصدّق علينا) كان طلب الإفراج عن أخيهم لأنّهم لم يطلبوا من العزيز الطعام والحبوب مجّاناً دون عوض حتّى يطلبوا منه التصدّق عليهم، فإنّهم يدفعون ثمنه.

ونقرأ في روايات وردت في هذا المقام، أنّ الإخوة كانوا يحملون معهم رسالة من أبيهم إلى عزيز مصر، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر وأكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب، ثمّ عرّف نفسه والأنبياء من أهل بيته وأخبره برزاياه وما تحمله من المصائب والمصاعب من فقده أعزّ أولاده وأحبّهم إلى نفسه يوسف وأخيه بنيامين، وما أصابهم من القحط والغلاء، وفي ختام الرسالة طلب من العزيز أن يمنّ عليه ويطلق سراح ولده بنيامين، وذكّره أنّ بنيامين سليل بيت النبوّة والرسالة وأنّه لا يتلوّث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.

وحينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم إلى العزيز شاهدوا أنّه فضّ الرسالة بإحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدأ يبكي بحيث أنّ الدموع بلّت ثيابه(2) (وهذا ما حيّر الإخوة، وبدأوا يفكّرون بعلاقة العزيز مع أبيهم بحيث جعله يبكي شوقاً وشغفاً حينما فتحها، ولعلّ فعل العزيز أثار عندهم إحتمال أن يكون يوسف هو العزيز، ولعلّ هذه الرسالة أثارت عواطف العزيز وشعوره بحيث لم يطق صبراً وعجز عن أن يخفي نفسه بغطاء السلطة وأجبره على كشف نفسه لإخوته).

وفي تلك اللحظة، وبعد أن مضت أيّام الإمتحان الصعب - وكان قد إشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ، أراد أن يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون).

لاحظوا عظمة يوسف وعلوّ نفسه حيث يسألهم أوّلا عن ذنبهم لكن بهذه الكناية اللطيفة يقول: (ما فعلتم) وثانياً يبيّن لهم طريقة الإعتذار وأنّ ما ارتكبوه في حقّ إخوتهم إنّما صدر عن جهلهم وغرورهم، وأنّه قد مضى أيّام الصبى والطفولة وهم الآن في دور الكمال والعقل!

كما أنّه يفهم من الآية الشريفة أنّ يوسف لم يكن وحده الذي ابتلي بإخوته ومعاملتهم السيّئة، بل إنّ بنيامين أيضاً كان يقاسي منهم ألوان العذاب، ولعلّه قد شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر، جانباً ممّا عاناه تحت أيديهم، ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم إستفساره بإبتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم إحتمال أنّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف(3).

أمّا هم، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الأُمور مجتمعة، وشاهدوا أنّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها أحد غيرهم إلاّ يوسف.

ومن جهة أُخرى أدهشهم يوسف وما أصابه من الوجد والهياج حينما إستلم كتاب يعقوب، وأحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.

وثالثاً كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف... لكنّهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم يتصوّروا أنّه يمكن أن يكون أخوهم يوسف قد إرتقى منصب الوزارة وصار عزيزاً لمصر، أين يوسف وأين الوزارة والعزّة؟!

لكنّهم تجرّأوا أخيراً وسألوه مستفسرين منه (قالوا أءنّك لأنت يوسف).

كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الإخوة، حيث لم يكونوا يعرفون محتوى إجابة العزيز! وأنّه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته، أم أنّه سوف يعتقد بأنّهم مجانين حيث ظنّوا هذا الظنّ.

كانت اللحظات تمرّ بسرعة والإنتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في قلقهم، لكن يوسف لم يدع اُخوته يطول بهم الإنتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم وأظهر لهم حقيقة نفسه و (قال أنا يوسف وهذا أخي) لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم، ولكي يعلّم إخوته درساً آخر من دروس المعرفة قال: إنّه (قدّ منّ الله علينا إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين).

لا يعرف أحد كيف مرّت هذه اللحظات الحسّاسة على الإخوة كما لا يعرف أحد مدى إنفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق، لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقّه، فترقّبوا إجابة يوسف وأنّه هل يغفر لهم إساءتهم إليه ويعفو عن جريمتهم أم لا؟ فابتدأوا مستفسرين بقولهم: (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا)(4) أي أنّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة (وإن كنّا لخاطئين)(5).

أمّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى أن يرى إخوته في حال الخجل والندامة - خاصّة في هذه اللحظات الحسّاسة وبعد إنتصاره عليهم - أو لعلّه أراد أن يدفع عن أذهانهم ما قد يتبادر إليها من إحتمال أن ينتقم منهم، فخاطبهم بقوله: (قال لا تثريب عليكم اليوم)(6) أي أنّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذاً إلى نفوسكم، ثمّ لكي يبيّن لهم أنّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم، بل إنّ الله سبحانه وتعالى أيضاً عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم: (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) أي إنّ الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لأنّه أرحم الراحمين.

وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث إنّه لم يعف عن سيّئات إخوته فحسب، بل رفض حتّى أن يوبّخ ويعاتب إخوته - فضلا عن أن يجازيهم ويعاقبهم - إضافةً إلى هذا فإنّه طمأنهم على أنّ الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وأنّه تعالى سوف يعفو عن سيّئاتهم، وإستدلّ لهم على ذلك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين.

وهنا تذكر الإخوة مصيبة أُخرى قد ألمّت بعائلتهم والشاهد الحي على ما إقترفوه في حقّ أخيهم ألا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزناً وفراقاً على يوسف، أمّا يوسف فإنّه قد وجد لهذه المشكلة حلا حيث خاطبهم بقوله: (إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً) ثمّ طلب منهم أن يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعاً (وأتوني بأهلكم أجمعين).

بحوث

1 - من الذي حمل قميص يوسف؟

ورد في بعض الرّوايات أنّ يوسف قال: إنّ الذي يحمل قميصي المشافي إلى أبي لابدّ وأن يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطّخ بالدماء إليه، لكي يدخل السرور على قلبه بعد أن ملأ قلبه حزناً وألماً من قبل! فأعطى لـ(يهودا) قميصه بعد أن اعترف له أنّه هو الذي حمل قميصه الملطّخ بالدماء إلى أبيه وأخبره بأنّ الذئب قد أكل يوسف، وهذا التصرّف من يوسف إن لم يدلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّه برغم أعماله الكثيرة ومتاعبه اليوميّة، فإنّه لم يغفل عن صغائر الأُمور المتعلّقة بالسلوك الأخلاقي(7).

2 - يوسف وجلالة شأنه:

ورد في بعض الرّوايات أنّ إخوة يوسف - بعد هذه القضايا - كانوا يحسّون بالخجل الشديد فأرسلوا إليه من يقول له: يايوسف إنّك تستضيفنا كلّ يوم صباحاً ومساءً - على مائدتك فنأكل من زادك وهذا ما يزيد في خجلنا حيث لا نطيق النظر إلى وجهك بعد أن نتذكّر إساءتنا إليك، فأجابهم بكلمة لطيفة ليبعد عنهم الخجل بأنّ الفضل يعود إليهم، وأنّ جلوسهم على مائدته لهو مكرمة منهم وإنّ الشعب المصري كانوا ينظرون إليّ نظرة الحرّ إلى العبد ويقولون فيما بينهم (سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ!!) أي انظروا إلى فعل الله سبحانه وتعالى بهذا العبد فإنّه قد بيع في السوق بعشرين درهماً وهو الآن وصل إلى هذه المرتبة السامية، لكنّهم الآن ينظرون إلى مائدتي وأنتم جلوس حولها، فيعرفون قدري وتثبت لهم منزلتي وإنّني لست بعبد ذليل بيع بعشرين درهماً، وإنّما أنا سليل بيت النبوّة والرسالة ومن أولاد نبي الله إبراهيم الخليل، وهذا ما اُباهي وأفتخر به أمام الآخرين(8).

3 - الشكر على الإنتصار:

إنّ الآيات السابقة تعلّمنا بجلاء ووضوح درساً من دروس الأخلاق الإسلامية، وهو أنّه بعد الإنتصار على العدو وكسر شوكته لابدّ أن لا ننسى العفو والرحمة، وأن لا نعامله بقساوة، فإنّ إخوة يوسف قد عاملوه أشدّ المعاملة أشرفت به على نهايته وأوصلته إلى أبواب الموت، ولو لم تشمله عناية الله سبحانه وتعالى، لعجز عن الخلاص ممّا أوقعوه فيه، هذا إضافة إلى المصائب والآلام التي تحملها أبوه، لكنّهم الآن جميعاً واقفون أمّام يوسف وهو السيّد المطاع وبيده القوّة والقدرة، لكنّه عاملهم بلطف وإحسان.

كما أنّه يفهم من خلال حديثه معهم أنّه لم يحقد عليهم قطّ، بل الذي يقلقه هو تذكّر الإخوة ماضيهم الأسود ويحسّوا بالخجل! ولذا حاول جاهداً أن يريحهم من هذا القلق ويزيح هذا الكابوس عن صدورهم، بل أكثر من هذا فإنّه حاول أن يفهمهم أنّ لهم عليه فضلا في مجيئهم إلى مصر والتعرّف عليهم، فإنّهم كانوا السبب في كشف حقيقته أمام الشعب في هذا البلد، حيث عرف أهل مصر أنّ عزيزهم هو سليل بيت النبوّة والرسالة وليس عبداً بيع في السوق بدراهم معدودات، ومن هنا فإنّ يوسف كان يرى لهم في ذلك فضلا ومنّة!

ومن حسن الصدف أنّنا نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمتحن بمثل هذه المواقف الحرجة، فمثلا حينما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة وأذلّ المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم، جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما رواه ابن عبّاس) إلى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد التجوا إليها هم ينتظرون حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم، وقال كلمته المشهورة: "الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثمّ توجّه إلى قريش وخاطبهم بقوله: "ماذا تظنّون يامعشر قريش؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت! قال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم".

أي أنّ اليوم ليس يوم ملامة وإنتقام وإظهار الحقد والضغينة "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

فقال عمر بن الخطاب: ففضت عرقاً من الحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك إنّي قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكّة: اليوم ننتقم منكم ونفعل(9).

كما أنّه وردت في كثير من الرّوايات الإسلامية أنّ "زكاة النصر هو العفو".

يقول علي (عليه السلام): "إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه"(10).


1- مجمع البيان في تفسير الآية، الجزء 3، ص235.

2- لزيادة الإيضاح في سنوات سجن يوسف يراجع تفسير المنار، والقرطبي، والميزان، والفخر الرازي.

3- كلمة "دأب" على وزن "أدب" تعني في الأصل إدامة الحركة، كما أنّها بمعنى العادة المستمرة، فيكون معنى الكلام: عليكم أن تزرعوا تبعاً لعادتكم المستمرة في مصر ولكن ينبغي أن تقتصدوا في مصرفه.. ويحتمل أن يكون المراد منه أن تزرعوا بجد وجهد أكثر فأكثر لأنّ دأباً ودؤوباً بمعنى الجدّ والتعب أيضاً، أي اعملوا حتّى تتعبوا.

4- سفينة البحار ج1 ص554.

5- وسائل الشيعة، ج12، 139.

6- نطالع في روايات عديدة عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إنّ بعض الجاهلين بالمعايير الإسلامية كانوا يعترضون على الإمام أحياناً، بأنّه لماذا قبلت ولاية عهد المأمون مع كلّ زهدك في الدنيا وإعراضك عنها؟ فكان الإمام (عليه السلام) يجيبهم: "ياهذا أيّما أفضل النّبي أم الوصي"؟ فقالوا: لا بل النّبي، فقال: أيّهما أفضل مسلم أم مشرك"؟ فقالوا: لا بل مسلم فقال: "فإنّ العزيز عزيز مصر كان مشركاً، وكان يوسف (عليه السلام) نبيّاً، وإنّ المأمون مسلم" وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يولّيه حين قال: (اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم)، وأنا اُجبرت على ذلك" وسائل الشيعة، ج12، ص146.

7- مجمع البيان، المجلّد الثّالث، صفحة 244، تفسير نور الثقلين، ج2، ص435.

8- تفسير نور الثّقلين، ج2، ص433.

9- نور الثقلين، ج2، ص432.

10- نور الثقلين، ج2، ص432.