الآيات 80 - 82
﴿فَلَمَّا اسْتَيْئَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الاَْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ 80 ارْجِعُواْ إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَفِظِينَ81 وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَدِقُونَ 82﴾
التّفسير
رجوع الإخوة إلى أبيهم خائبين:
حاول الإخوة أن يستنقذوا أخاهم بنيامين بشتّى الطرق، إلاّ أنّهم فشلوا في ذلك، ورأوا أنّ جميع سبل النجاة قد سدّت في وجوههم، فبعد أن فشلوا في تبرئة أخيهم وبعد أن رفض العزيز إستعباد أحدهم بدل بنيامين، إستولى عليهم اليأس وصمّموا على الرجوع والعودة إلى كنعان لكي يخبروا أباهم، يقول القرآن واصفاً إيّاهم (فلمّا استيئسوا منه خلصوا نجيّاً) أي إنّهم بعد أن يئسوا من عزيز مصر أو من إنقاذ أخيهم، إبتعدوا عن الآخرين وإجتمعوا في جانب وبدأوا بالتشاور والنجوى فيما بينهم.
قوله تعالى (خلصوا) بمعنى الخلوص، وهو كناية عن الإبتعاد عن الآخرين والإجتماع في جلسة خاصّة، أمّا قوله تعالى «نجيّاً» فهو من مادّة (المناجاة) وأصله من (نجوة) بمعنى الربوة والأرض المرتفعة، فباعتبار أنّ الربوات منعزلة عن أراضيها المجاورة، سمّيت الجلسات الخاصّة البعيدة عن عيون الغرباء والحديث في السرّ قياساً عليها بـ(النجوى) فإذاً كلمة (النجوى) تطلق على الحديث السرّي والخاص سواء كانت في جلسة خصوصية أو في محاورة خاصّة بين إثنين لا يتعدّى سمعهما.
ذهب كثير من المفسّرين إلى أنّ جملة (خلصوا نجيّاً) تعدّ من أفصح العبارات في القرآن وأجملها حيث أنّ الله سبحانه وتعالى قد بيّن في كلمتين اُموراً كثيرة يحتاج بيانها إلى عدّة جمل.
وفي ذلك الإجتماع الخاص خاطبهم الأخ الكبير قائلا: (قال كبيرهم ألم تعلموا أنّ أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله) بأن تردّوا إليه بنيامين سالماً، فالآن بماذا تجيبونه؟ وقد سوّدنا صفحتنا في المرّة السابقة بما عاملنا به أخانا يوسف (ومن قبل ما فرّطتم في يوسف)(1) فالآن والحالة هكذا - فإنّني لا اُغادر أرض مصر وسوف أعتصم فيها (فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي أو يحكم الله وهو خير الحاكمين) والظاهر أنّ قصده بحكم الله، أمّا الموت الذي هو حكم إلهي، أي لا أبرح من هذه الأرض حتّى أموت فيها، وأمّا أن يفتح الله سبحانه وتعالى له سبيلا للنجاة، أو عذراً مقبولا عند أبيه.
ثمّ أمرهم الأخ الأكبر أن يرجعوا إلى أبيهم ويخبروه بما جرى عليهم (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إنّ ابنك سرق) وهذه شهادة نشهدها بمقدار علمنا عن الواقعة حيث سمعنا بفقد صواع الملك، ثمّ عثر عليه عند أخينا، وظهر للجميع إنّه قد سرقها (وما شهدنا إلاّ بما علمنا) ولكن نحن لا نعلم إلاّ ما شهدناه بأعيننا وهذا غاية معرفتنا (وما كنّا للغيب حافظين).
وقد يرد إحتمال في تفسير هذه الآية، فلعلّهم بقولهم: (وما كنّا للغيب...)أرادوا أن يخاطبوا أباهم بأنّنا وإن قطعنا عند الأيمان والعهود المغلّظة على أن نرجع أخانا سالماً، لكنّنا لا نعرف من الأُمور إلاّ ظواهرها ومن الحقائق إلاّ بعضها، فغيب الأُمور عند الله سبحانه ولم نكن نتصوّر أن يسرق أخونا.
ثمّ أرادوا أن يزيلوا الشكّ والريبة عن قلب أبيهم فقالوا يمكنك أن تتحقّق وتسأل من المدينة التي كنّا فيها (وسأل القرية التي كنّا فيها)(2) ومن القافلة التي سافرنا معها إلى مصر ورجعنا معها، حيث أنّ فيها اُناساً يعرفونك وتعرفهم، وبمقدورك أن تسألهم عن حقيقة الحال وواقعها (والعير التي أقبلنا فيها)(3) وفي كلّ الأحوال كن على ثقة بأنّنا صادقون ولم نقص عليك سوى الحقيقة والواقع (وإنّا لصادقون).
يستفاد من مجموع هذه الكلمات والحوار الذي دار بين الأولاد والأب أنّ قضيّة سرقة بنيامين كانت قد شاعت في مصر، وأنّ جميع الناس علموا بأنّ أحد أفراد العير والقافلة القادمة من كنعان حاول سرقة صواع الملك، لكن موظفي الملك تمكّنوا بيقظتهم من العثور عليها والقبض على سارقها، ولعلّ قول الاُخوة لأبيهم (وسأل القرية...) أي إسأل أرض مصر، كناية عن أنّ القضيّة شاعت بحيث علم بها حتّى أراضي مصر وحيطانها.
بحوث
1 - من هو أكبر الإخوة؟
ذهب بعض المفسّرين إلى أنّه كان روبين (روبيل) وقال آخرون: إنّه (شمعون) واحتمل البعض أن يكون أكبرهم هو (يهودا).
وحصل نقاش آخر بين المفسّرين في أنّه ما المقصود من الكبر، هل هو في العمر أم في العقل؟ لكن المستفاد من ظاهر الآية أنّ المقصود به هو أكبر الإخوة في العمر.
2 - الحكم وفق الدلائل الظاهرة:
ويستفاد من مدلول الآية الشريفة أنّه يحقّ للقاضي والحاكم أن يحكم في الواقعة المرفوعة إليه على ما يستفيده من القرائن والشواهد القطعيّة، وأن يقرّ المتّهم أو يشهد الشهود عنده، لأنّنا لاحظنا في قضيّة إخوة يوسف أنّه بمجرّد أن عثر على الصاع في متاع بنيامين عُدّ مذنباً وحكم عليه بالسرقة من دون شهادة أو إقرار، لأنّنا حينما نتحرّى عن القضيّة نرى أنّ كلّ شخص كان مسؤولا عن حمل متاعه من الحبوب بنفسه، أو انّه كان حاضراً على الأقل عند تحميل العمال لمتاعه، ومن جهة أُخرى لم يكن يتصوّر أحد أنّ هناك خطّة في البين، وهؤلاء الإخوة لم يعاديهم أحد في مصر، فجميع القرائن والشواهد تورث اليقين بأنّ هذا الفعل (السرقة) قد صدر عمّن وجد عنده الصاع.
وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة عميقة في الفقه الإسلامي لتأثيره المهمّ في قضايانا المعاصرة لأنّ عالم اليوم يعتمد عليه كثيراً في محاكماته، لكنّنا تركنا هذا المبحث لأنّ مجاله كتاب (القضاء).
3 - يستفاد من الآيات السابقة أنّ إخوة يوسف كانت طبائعهم مختلفة، أمّا الأخ الأكبر فإنّه كان وفيّاً بميثاقه وحافظاً لوعده الذي واعد به أباه، أمّا بقيّة الإخوة فإنّهم بعد أن شاهدوا فشل جميع محاولاتهم في إقناع العزيز، تراجعوا عن موقفهم وعدّوا أنفسهم معذورين، ومن الطبيعي إنّ ما قام به الأخ الأكبر كان هو الاُسلوب المجدي والصحيح، لأنّه ببقائه في مصر والإعتصام بها وعلى مقربة من بلاط العزيز وقصره كان باعثاً للأمل في أن يترحّم العزيز على الإخوة وعلى أبيهم الشّيخ الكبير، ويعفو عن هذا الغريب ولا يجازيه من أجل صاع سرقه ثمّ عثر عليه العمّال، فعلى هذا وأملا في استجداء عطف العزيز، بقي في مصر وبعث بإخوته إلى أبيهم في كنعان ليبلغوه الخبر ويطلبوا منه أن يدلّهم على الطريق الصحيح لإنقاذ أخيهم.
1- تفسير نور الثقلين، ج12، ص422.
2- تفسير (روح المعاني) ج12 ص203.
3- "المتّكأ" ما يتكأ عليه كالكراسي والأسرة، وما يوضع خلف الظهر كما هو معروف في القصور، ولكن البعض قال: إنّ المتّكأ هو نوع من الفواكه المعروفة "بالاُترنج" والذين فسّروا المتّكأ بالمعنى المتقدّم قالوا أيضاً: إنّها فاكهة "الأترنج" وهي فاكهة من فصائل الحمضيات لها قشر ضخم يستعمل في المربيات، وهذه الفاكهة في مصر خفيفة الحموضة وتؤكل!