الآيات 43 - 49

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَت سِمَان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَت يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِي رُءْيَىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ 43 قَالُواْ أَضْغَثُ أَحْلَم وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاَْحْلَمِ بِعَلِمِينَ44 وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة أَنَاْ أُنْبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ45 يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَت سِمَان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَت لَّعَلِّى أَرْجِعُ إلى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ46قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلا مِّمَّا تَأْكُلُونَ47 ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلا مِّمَّا تُحْصِنُونَ48 ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِهىِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ49﴾

التّفسير

رؤيا ملك مصر وما جرى له:

بقي يوسف سنين في السجن المظلم كأي إنسان منسيّ، ولم يكن لديه من عمل إلاّ بناء شخصيته، وإرشاد السجناء وعيادة مرضاهم وتسلية الموجَعين منهم.

حتّى غيّرت (حظّه وطالعه) حادثة صغيرة بحسب الظاهر... ولم تغيّر هذه "الظاهرة" حظّه فحسب، بل حظّ اُمّة مصر وما حولها.

لقد رأى ملك مصر الذي يقال أنّ إسمه هو "الوليد بن الرّيان" وكان "عزيز مصر وزيره" رأى هذا الملك رؤيا مهولة، فأحضر عند الصباح المعبّرين للرؤيا ومن حوله فقصّ عليهم رؤياه (وقال الملك إنّي أرى سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واُخر يابسات) ثمّ إلتفت إليهم طالباً منهم تعبير رؤياه فقال: (ياأيّها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبّرون).

ولكن حاشية السلطان وجموا إزاء هذه الرؤيا و (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين).

"الأضغاث" جمع "ضِغْث" على وزن (حرص) ومعناه المجموعة من الحطب أو العشب اليابس أو الأخضر أو شيء آخر، و "الأحلام" جمع "حُلُم" على وزن "رُخم" معناه الطيف والرؤيا، فيكون معنى (أضغاث أحلام) هو الأطياف المختلطة، فكأنّها متشكّلة من مجموعة مختلفة ومتفاوتة من الأشياء، وجاءت كلمة الأحلام في جملة (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) مسبوقة بالألف واللام العهدية وهي إشارة إلى أنّ المعبّرين غير قادرين على تأويل مثل هذه الأحلام.

ومن اللازم ذكر هذه المسألة الدقيقة وهي: إنّ إظهار عجز أُولئك في الحقيقة كان من أجل أنّ المفهوم الواقعي لهذه الرؤيا عندهم غير واضح، ولذلك عدّوها ضمن الأحلام المختلطة و "الأضغاث" حيث قسّموا الأحلام إلى قسمين:

أحلام ذات معنى وهي قابلة للتعبير.

وأحلام مختلطة لا معنى لها حيث لم يجدوا لها تعبيراً وتأويلا... وكانوا يعدّون هذا النوع نتيجة قوّة الخيال، على العكس من النوع الأوّل الذي يعدّونه نتيجة إتّصال الروح بعالم الغيب.

كما أنّ هناك إحتمال آخر، وهو أنّهم توقّعوا أن تقع حوادث مزعجة في المستقبل، وما إعتاد عليه حاشية الملوك والطغاة هو ذكر المسائل المريحة لهم فحسب، وكما يُصطلح عليه ما فيه طيب الخاطر، ويمتنعون عن ذكر ما يزعجهم، وهذا أحد أسباب سقوط مثل هذه الحكومات المتجبّرة!

هنا يرد سؤال، وهو: كيف تجرّأ هؤلاء أمام السلطان، بقولهم جواباً لسؤاله عن رؤياه إنّها (أضغاث أحلام) في حين أنّ المعروف عند حاشية السلطان أنّ تفلسف كلّ حركة منه ولو كانت بغير معنى ويفسّرونها تفسيراً مقبولا.

من الممكن أنّهم رأوا الملك مهموماً من هذه الرؤيا، وكان من حقّه ذلك لأنّه رأى (سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واُخر يابسات).

ألا يدلّ ذلك على أنّ من الممكن أنّ أفراداً ضعافاً يتسلّمون السلطة من يده على حين غرّة!؟!

لذلك قالوا له: (أضغاث أحلام) ليرفعوا الكدورة عن خاطره، أي: لا تتأثّر فما هنالك أمر مهم، وهذه الأحلام لا يمكن أن تكون دليلا على أي شيء.

وهناك إحتمال آخر ذكره المفسّرون وهو أنّ مرادهم من (أضغاث أحلام)لم يكن أنّ هذه الأحلام لا تأويل لها، بل المراد أنّ مثل هذه الأحلام ملتوية ومجموعة من اُمور مختلفة، وهم غير قادرين على تأويل مثل هذه الأحلام، فهم لم ينكروا إمكان وجود اُستاذ ماهر وقادر على تأويل هذه الرؤيا، وإنّما أظهروا عجزهم عن التعبير والتأويل فحسب.

وهنا تذكّر ساقي الملك ما حدث له ولصاحبه في السجن مع يوسف، ونجا من السجن كما بشّره يوسف (وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد اُمّة أنا اُنبّئكم بتأويله فارسلون).

أجل في زاوية السجن يعيش رجل حيّ الضمير طاهر القلب مؤمن وقلبه مرآة للحوادث المستقبلية، إنّه الذي يستطيع أن يكشف الحجاب عن هذه الرؤيا المغلقة ويعبّرها.

جملة (فارسلون) تشير إلى أنّ من الممكن أن يكون يوسف ممنوع المواجهة، وكان الساقي يريد أن يأذن الملك ومن حوله بمواجهته لهذا الشأن.

وهكذا حرّك كلام الساقي المجلس وشخصت الأبصار نحوه، وطلبوا منه الإسراع بالذهاب إليه والإتيان بالخبر.

مضى الساقي إلى السجن ليرى صديقه القديم... ذلك الصديق الذي لم يفِ بوعده له، لكنّه ربّما كان يعرف أنّ شخصية يوسف الكريمة تمنعه من فتح "باب العتاب" فالتفت إليه وقال: (يوسفُ أيّها الصدّيق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبععجاف وسبع سنبلات خضر واُخر يابسات لعلّي أرجع إلى الناس لعلّهم يعلمون).

كلمة "الناس" تشير إلى إحتمال أنّ رؤيا الملك صيّرها أطرافه المتملّقون وحاشيته حادثة مهمّة لذلك اليوم، فنشروها بين الناس وعمّموا حالة "القلق" من القصر إلى الوسط الإجتماعي العام.

وعلى كلّ حال فإنّ يوسف دون أن يطلب شرطاً أو قيداً أو أجراً لتعبيره، عبّر الرؤيا فوراً تعبيراً دقيقاً لا غموض فيه ولا حجاب مقروناً بما ينبغي عمله في المستقبل و (قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلاّ قليلا ممّا تأكلون)(1).

ثمّ أنّه يحلّ بكم القحط لسبع سنين متوالية فلا أمطار ولا زراعة كافية، فعليكم بالإستفادة ممّا جمعتم في سنيّ الرخاء (ثمّ يأتي بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ).

ولكن عليكم أن تحذروا من إستهلاك الطعام (إلاّ قليلا ممّا تحصنون) وإذا واظبتم على هذه الخطّة فحينئذ لا خطر يهدّدكم لأنّه (ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس)... و (يغاث الناس) أي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا فحسب، بل (فيه يعصرون) المحاصيل لإستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها... الخ.

ملاحظات

1 - كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقاً ومحسوباً، حيث كانت البقرة في الأساطير القديمة مظهر "السنة"... وكون البقرات سماناً دليل على كثرة النعمة، وكونها عجافاً دليل على الجفاف والقحط، وهجوم السبع العجاف على السبع السّمان كان دليلا على أن يُستفاد من ذخائر السنوات السابقة.

وسبع سنبلات خضر وقد أحاطت بها سبع سنبلات يابسات تأكيد آخر على هاتين الفترتين فترة النعمة وفترة الشدّة.

إضافةً إلى انّه أكّد له على هذه المسألة الدقيقة، وهي خزن المحاصيل في سنابلها لئلاّ تفسد بسرعة وليكون حفظها إلى سبع سنوات ممكناً.

وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكلّ منهما دليل آخر على إنتهاء الجفاف والشدّة مع إنتهاء تلك السنوات السبع... وبالطبع فإنّ سنةً سيأتي بعد هذه السنوات سنة مليئة بالخيرات والأمطار، فلابدّ من التفكير للبذر في تلك السنة وأن يحتفظوا بشيء ممّا يخزن لها.

في الحقيقة لم يكن يوسف مفسّراً بسيطاً للأحلام، بل كان قائداً يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، وقد قدّم مقترحاً من عدّة مواد لخمسة عشر عاماً على الأقل، وكما سنرى فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته وكان سبباً لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وأن ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أُخرى.

2 - مرّة أُخرى تعلِّمنا هذه القصّة هذا الدرس الكبير وهو أنّ قدرة الله أكبر ممّا نتصوّر، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم أن ينقذ اُمّة كبيرة من فاجعة عظيمة، ويخلّص عبده الخالص بعد سنين من الشدائد والمصائب أيضاً.

فلابدّ أن يرى الملك هذه الرؤيا، ولابدّ أن يحضر الساقي عنده يتذكّر رؤياه في السجن، وترتبط أخيراً حوادث مهمّة بعضها ببعض، فالله تعالى هو الذي يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأُمور.

أجل، ينبغي لنا توكيد إرتباطنا القلبي مع هذا الربّ القادر...

3 - الأحلام المتعدّدة في هذه السورة، من رؤيا يوسف نفسه إلى رؤيا السجينين إلى رؤيا فرعون مصر، والإهتمام الكبير الذي كان يوليه أهل ذلك العصر بالنسبة لتعبير الرؤيا أساساً، يدلّ على أنّ تعبير الرؤيا في ذلك العصر كان من العلوم المتقدّمة، وربّما وجب - لهذا السبب - أن يكون نبي ذلك العصر - أي(يوسف) - مطّلعاً على مثل هذا العلم إلى درجة عالية بحيث يعدّ إعجازاً منه.

أليست معاجز الأنبياء يجب أن تكون من أبرز العلوم في زمانهم، ليحصل اليقين - عند العجز من قبل علماء العصر - بأنّ مصدر العلم الذي يحمله نبيّهم هو الله!.


1- المصدر السابق، ص124.