الآيات 35 - 38
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الاَْيَتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين35 وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَنِى أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَْخَرُ إِنِّى أَرَنِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ 36 قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مَمَّا عَلَّمَنِي رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْم لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالاَْخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ 37 وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِى إبْرَهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَىْء ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ 38﴾
التّفسير
السّجن بسبب البراءة:
إنتهى المجلس العجيب لنسوة مصر مع يوسف في قصر العزيز في تلك الغوغاء والهياج، ولكنّ خبره - بالطبع - وصلَ إلى سمع العزيز... ومن مجموع هذه المجريات إتّضح أنّ يوسف لم يكن شابّاً عادّياً، بل كان طاهراً لدرجة لا يمكن لأي قوّة أن تجرّه إلى الإنحراف والتلوّث، واتّضحت علامات هذه الظاهرة من جهات مختلفة، فتمزّق قميصه من دُبر، ومقاومته أمام وساوس نسوة مصر، وإستعداده لدخول السجن وعدم الإستسلام لتهديدات امرأة العزيز بالسجن والعذاب الأليم، كلّ هذه الأُمور أدلّة على طهارته لا يمكن لأحد أن يسدل عليها الستار أو ينكرها!.
ولازم هذه الأدلّة إثبات عدم طهارة امرأة العزيز وإنكشاف جريمتها، وعلى أثر ثبوت هذه الجريمة فإنّ الخوف من فضيحة جنسية في اُسرة العزيز كان يزداد يوماً بعد يوم.
فكان الرأي بعد تبادل المشورة بين العزيز ومستشاريه هو إبعاد يوسف عن الأنظار لينسى الناس إسمه وشخصه، وأحسن السبل لذلك إيداعه قعر السجن المظلم أوّلا، وليشيع بين الناس أنّ المذنب الأصلي هو يوسف ثانياً، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: (ثمّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنّنه حتّى حين).
التعبير بكلمة "بدا" التي معناها ظهور الرأي الجديد، يدلّ على أنّ مثل هذا التصميم في حقّ يوسف لم يكن من قبل.
ويحتمل أن تكون هذه الفكرة إقترحتها امرأة العزيز الأوّل مرّة... وبهذا دخل يوسف النزيه - بسبب طهارة ثوبه - السجن، وليست هذه أوّل مرّة ولا آخرها أن يدخل الإنسان النزيه "بجريرة نزاهته" السجن!!
أجل... في المحيط المنحرف تكون الحرية من نصيب المنحرفين الذين يسيرون مع التيار وليست الحرية وحدها من نصيبهم فحسب، ... بل أنّ الأفراد النجباء كيوسف الذي لا يتلاءم مع ذلك المحيط ولونه ويتحرّك على خلاف مجرى الماء! ينبغي أن يقبعوا في زاوية النسيان... ولكن إلى متى؟ هل تستمر هذه الحالة؟... قطعاً لا... ومن جملة السجناء الداخلين مع يوسف فتيان (ودخل معه السجن فتيان).
وحيث أنّ من الظروف لم تكن تسمح للإنسان أن يحصل فيها على الأخبار بطريق عادي، فإنّه يأنس لأحاسيس الآخرين ليبحث عن مسير الحوادث ويتوقّع ما سيكون، حتّى أنّ الرؤيا وتعبيرها عنده يكون مطلباً مهمّاً.
من هذا المنطلق جاء ليوسف يوماً هذان الفتيان اللذان يقال: إنّ أحدهما كان ساقياً في بيت الملك، والآخر كان مأموراً للطعام والمطبخ، وبسبب وشاية الأعداء وسعايتهم بهما دخلا السجن بتهمة التصميم لسمّ الملك، وتحدّث كلّ منهما عن رؤيا رآها الليلة الفائتة وكانت بالنسبة له أمراً عجيباً.
(قال أحدهما إنّي أراني أعصر خمراً وقال الآخر إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه) ثمّ أضافا (نبّئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين).
وحول معرفة الفتيين وإطلاعهما على أنّ يوسف له خبرة بتأويل الأحلام هناك أقوال بين المفسّرين:
قال بعضهم: إنّ يوسف نفسه أخبر السجناء بأنّ له إطلاعاً واسعاً في تفسير الأحلام، وقال بعضهم: إنّ سيماء يوسف الملكوتية كانت تدلّ على أنّه ليس فرداً عادياً... بل هو فرد عارف مطّلع وصاحب فكر ونظر، ولابدّ أن يكون مثل هذا الشخص قادراً على حلّ مشاكلهم في تعبير الرؤيا.
وقال البعض الآخر: إنّ يوسف من بداية دخول السجن برهن - بأخلاقه الحسنة والمعاشرة الطيّبة للسجناء وخدمتهم وعيادة مرضاهم - أنّه رجل صالح وحلاّل المشاكل، لذلك كانوا يلتجئون إليه في حلّ مشاكلهم ويستعينون به.
وهناك ملاحظة جدير ذكرها، وهي أنّ القرآن عبّر بـ"الفتى" مكان "العبد" وهو نوع من الإحترام، وعندنا في الحديث "لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي"(1) ليكون العبيد في مراحل الإنعتاق والحريّة التي نظّمها الإسلام في مأمن من كلّ أنواع التحقير.
التعبير بـ(إنّي أراني أعصر خمراً) إِمّا لأنّه رأى في النوم أنّه يعصر العنب للشراب أو العنب المخمّر الذي في الدنّ، وهو يعصره ليصفّيه مستخرجاً منه الشراب، أو أنّه يعصر العنب ليقدّم عصيره للملك!... دون أن يكون خمراً، وحيث أنّ العنب يمكن أن يتبدّل خمراً أطلق عليه لفظ الخمر.
والتعبير بـ(إنّي أراني) بدلا من "إنّي رأيت" هو بعنوان حكاية الحال، أي إنّه يفرض نفسه في اللحظة التي يرى فيها الرؤيا "النوم" وهذا الكلام لتصوير تلك الحالة.
وعلى كلّ حال فقد إغتنم يوسف مراجعة السجينين له لتعبير الرؤيا - وكان لا يدع فرصة لإرشاد السجناء ونصحهم - وبحجّة التعبير كان يبيّن حقائق مهمّة تفتح لهم السُبُل ولجميع الناس أيضاً.
في البداية، ومن أجل أن يستلفت إهتمامهما وإعتمادهما على معرفته بتأويل الأحلام الذي كان مثار إهتمامهما وتوجّههما (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلاّ نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما).
وبهذا فقد طمأنهما أنّهما سيجدان ضالّتهما قبل وصول الطعام إليهما.
وهناك إحتمالات كثيرة في هذه الجملة بين المفسّرين، من جملتها: إنّ يوسف قال: أنا بأمر الله مطّلع على بعض الأسرار، لا انّي أستطيع تعبير الأحلام فحسب، بل أنا أستطيع حتّى إخباركم بما سيأتيكم من الطعام وما نوعه وبأي صورة وأي خصوصية!.
فعلى هذا يكون التأويل بمعنى ذكر خصوصيات ذلك الطعام، وإن كان التأويل قليل الإستعمال في مثل هذا المعنى طبعاً، ولا سيّما أنّه ورد في الجملة السابقة بمعنى تعبير الرؤيا.
والإحتمال الآخر من مقصود يوسف هو: إنّ أي نوع من الطعام ترونه في النوم فأنا أعرف ما تأويله (ولكن هذا الإحتمال لا ينسجم مع الجملة السابقة) (قبل أن يأتيكما).
فعلى هذا يكون أحسن التفاسير للجملة المتقدّمة، هو التّفسير الأوّل الذي ذكرناه في بداية الحديث.
ثمّ إنّ يوسف أضاف إلى كلامه مقروناً بالإيمان بالله والتوحيد الجاري بجميع أبعاده في أعماق وجوده، ليبيّن بوضوح أن لا شيء يتحقّق إلاّ بإرادة الله قائلا: (ذلكما ممّا علّمني ربّي) ولئلاّ يتصوّر أنّ الله يمنح مثل هذه الأُمور دون حساب، قال (إنّي تركت ملّة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون).
والمقصود بهذه الملّة أو الجماعة هم عبدة الأصنام بمصر أو عبدة الأصنام من كنعان.
وينبغي لي أن أترك مثل هذه العقائد لأنّها على خلاف الفطرة الإنسانية النقيّة، ثمّ إنّي تربّيت في اُسرة الوحي والنبوّة (واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب).
ولعلّ هذه هي أوّل مرّة يعرّف يوسف نفسه للسجناء بهذا التعريف، ليعلموا أنّه سليل الوحي والنبوّة وقد دخل السجن بريئاً... كبقيّة السجناء الأبرياء في حكومة الطواغيت.
ثمّ يضيف على نحو التأكيد (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) لأنّ اُسرتنا اُسرة التوحيد... اُسرة إبراهيم محطّم الأصنام (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس).
وعلى هذا فلا تتصوّروا أنّ هذا الفضل والحبّ شملا اُسرتنا أهل النبوّة فحسب - بل هي الموهبة العامّة التي تشمل جميع عباد الله المودعة في أرواحهم المسمّاة بالفطرة حيث يتكاملون بقيادة الأنبياء (ولكن أكثر الناس لا يشكرون).
جدير بالذكر والإلتفات أنّ "إسحاق" عُدّ في الآية المتقدّمة في زمرة "آباء يوسف" في حين أنّنا نعرف أنّ يوسف هو ابن يعقوب ويعقوب هو إبن إسحاق، فتكون كلمة أب بهذا مستعملة في الجدّ أيضاً.
1- مقتبس من تفسير "في ظلال القرآن" لسيّد قطب ذيل الآية ج4 ص711.