الآيتان 23 - 24

﴿وَرَوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاَْبْوَبَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ 23 وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَّءَا بُرْهَنَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُْمخْلَصِينَ 24﴾

التّفسير:

العشق الملتهب

لم يأسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب، بل أسر قلب امرأة العزيز كذلك وأصبح متيّماً بجماله!.

وامتدّت مخالب العشق إلى أعماق قلبها، وبمرور الزمن كان هذا العشق يتجذّر يوماً بعد يوم ويزداد إشتعالا... لكنّ يوسف هذا الشابّ الطاهر التقي، لم يفكّر بغير الله، ولم يتعلّق قلبه بغير عشق الله سبحانه.

وهناك اُمور أُخرى زادت من عشق امرأة العزيز ليوسف... فمن جهة لم تُرزق الولَد، ومن جهة أُخرى إنغمارها في حياة مترفة مفعمة بالبذخ... ومن جهة ثالثة عدم إبتلائها بأيّ نوع من البلاء كما هي حال المتنعّمين، وعدم الرقابة الشديدة على هذا القصر من قبل العزيز من جهة رابعة... كلّ ذلك ترك امرأة العزيز - الفارغة من الإيمان والتقوى - تهوي في وساوسها الشيطانية إلى الحضيض، بحيث أفضت ليوسف أخيراً عمّا في قلبها وراودته عن نفسه.

واتّبعت جميع الأساليب والطرق للوصول إلى هدفها، وسعت لكي تلقي في قلبه أثراً من هواها وترغيبها وطلبها، كما يقول عن ذلك القرآن الكريم: (وراودته التي هو في بيتها).

وجملة "راودته" مأخوذة من مادّة "المراودة" وأصلها البحث عن المرتع والمرعى، وما ورد في المثل المعروف "الرائد لا يكذب أهله" إشارة إلى هذا المعنى، كما يطلق "المرود" على وزن (منبر) على قلم الكحل الذي تكحل به العين، ثمّ توسّعوا في هذا اللفظ فاُطلق على كلّ ما يُطلب بالمداراة والملاءمة.

وهذا التعبير يشير إلى أنّ امرأة العزيز طلبت من يوسف أن ينال منها بطريق المسالمة والمساومة - كما يصطلح عليه - وبدون أي تهديد، وأبدت محبّتها القصوى له بمنتهى اللين.

وأخيراً فكّرت في أن تخلو به وتوفّر له جميع ما يثير غريزته، من ثياب فضفاضة، وعطور عبقة شذيّة، وتجميلات مرغبة، حتّى تستولي على يوسف وتأسره!.

يقول القرآن الكريم: (وغلّقت الأبواب وقالت هيتَ لك).

"غلّقت" تدلّ على المبالغة وأنّها أحكمت غلق الأبواب، وهذا يعني أنّها سحبت يوسف إلى مكان من القصر المتشكّل من غرف متداخلة... وكما ورد في بعض الرّوايات كانت سبعة أبواب، فغلقتها عليه جميعاً... لئلاّ يجد يوسف أي طريق للفرار... إضافةً إلى ذلك أرادت أن تُشعر يوسف أن لا يقلق لإنتشار الخبر فإنّه سوف لا يفتضح، حيث لا يستطيع أحد أن ينفذ إلى داخل القصر أبداً.

وفي هذه الحال، حين رأى يوسف أنّ هذه الأُمور تجري نحو الإثم، ولم ير طريقاً لخلاصه منها، توجّه يوسف إلى زليخاو (قال معاذ الله) وبهذا الكلام رفض يوسف طلب امرأة العزيز غير المشروع... وأعلمها أنّه لن يستسلم لإرادتها.

وأفهمها ضمناً - كما أفهم كلّ إنسان - أنّه في مثل هذه الظروف الصعبة لا سبيل إلى النجاة من وساوس الشيطان وإغراءاته إلاّ بالإلتجاء إلى الله... الله الذي لا فرق عنده بين السرّ والعلن، بين الخلوة والإجتماع، فهو مطّلع ومهيمن على كلّ شيء، ولا شيء إلاّ وهو طوع أمره وإرادته!

وبهذه الجملة إعترف يوسف بوحدانية الله تعالى من الناحية النظرية، وكذلك من الناحية العملية أيضاً، ثمّ أضاف (إنّه ربّي أحسن مثواي)... أليس التجاوز ظُلماً وخيانةً واضحة (إنّه لا يفلح الظالمون).

المراد من كلمة "ربّي" هناك أقوال كثيرة بين المفسّرين في المراد من قوله: (إنّه ربّي) فأكثر المفسّرين، كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان وكاتب المنار في تفسير المنار وغيرهما، قالوا: إنّ كلمة "ربّ" هنا إستعملت في معناها الواسع، وقالوا: إنّ المراد من كلمة "ربّ" هنا هو "عزيز مصر" الذي لم يألُ جهداً في إكرام يوسف، وكان يوصي امرأته من البداية بالإهتمام به وقال لها: (أكرمي مثواه).

ومن يظنّ أنّ هذه الكلمة لم تستعمل بهذا المعنى فهو مخطىء تماماً، لأنّ كلمة "ربّ" في هذه السورة أطلقت عدّة مرّات على غير الله سبحانه.

وأحياناً ورد هذا الإستعمال على لسان يوسف نفسه، وأحياناً على لسان غيره!

فمثلا في قصّة تعبير الرؤيا للسجناء، طلب يوسف من الذي بشّره بالنجاة أن يذكر حاله عند ملك مصر (وقال للذي ظنّ أنّه ناج منهما أذكرني عند ربّك) (الآية 42).

كما نلاحظ هذا الإستعمال على لسان يوسف - أيضاً - حين جاءه مبعوث فرعون مصر، إذ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (فلمّا جاءه الرّسول قال ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) (الآية 50).

وفي الآية (41) من هذه السورة، وذيل الآية (42) اُطلقت كلمة "ربّ" في لسان القرآن الكريم بمعنى المالك وصاحب النعمة.

فعلى هذا تلاحظون أنّ كلمة "ربّ" استعملت 4 مرّات - سوى الآية محلّ البحث - في غير الله، وإن كانت قد إستعملت في هذه السورة وفي سور أُخرى من القرآن في خصوص ربّ العالمين (الله) مراراً.

فالحاصل أنّ هذه الكلمة من المشترك اللفظي وهي تستعمل في المعنيين.

ولكن رجّح بعض المفسّرين أن تكون كلمة "ربّ" في هذه الآية (إنّه ربّي أحسن مثواي) يُقصد بها الله... لأنّها جاءت بعد كلمة (معاذ الله) مباشرةً، وكونها إلى جنب لفظ الجلالة صار سبباً لعود الضمير في (إنّه ربّي) عليه فيكون معنى الآية: إنّني ألتجىء إلى الله وأعوذ به فهو إلهي الذي أكرمني وعظم مقامي وكلّ ما عندي من النعم فهو منه.

ولكن مع ملاحظة وصيّة عزيز مصر لامرأته (أكرمي مثواه) وتكرارها في الآية - محل البحث - يكون المعنى الأوّل أقرب وأقوى.

جاء في التوراة الفصل 39 رقم 8 و9 و10 ما مؤدّاه: "وبعد هذا وقعت المقدّمات، إنّ امرأة سيّده ألقت نظرتها على يوسف وقالت: إضطجع معي، لكنّه أبى وقال لامرأة سيّده: إنّه سيّدي غير عارف بما معي في البيت، وكلّ ما يملك مودع عندي، ولا أجد أكبر منّي في هذا البيت، ولم يزاحمني شيء سواك لأنّك امرأته، فكيف اُقدم على هذا العمل القبيح جدّاً، وأتجرّأ في الذنب على الله".

فهذه الجمل في التوراة تؤيّد المعنى الأوّل.

وهنا يبلغ أمر يوسف وامرأة العزيز إلى أدقّ مرحلة وأخطرها، حيث يعبّر القرآن عنه تعبيراً ذا مغزى كبير (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه).

وفي معنى هذه الجملة أقوال بين المفسّرين يمكن تصنيفها وإجمالها إلى ثلاثة تفاسير:

1 - إنّ امرأة العزيز كانت تريد أن تقضي وطراً مع يوسف، وبذلت وسعها في ذلك، وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشراً شابّاً لم يتزوّج ويرى نفسه إزاء المثيرات الجنسيّة وجهاً لوجه... لولا أن رأى برهان الله... أي روح الإيمان والتقوى وتربية النفس، أضف إلى كلّ ذلك مقام العصمة الذي كان حائلا دون هذا العمل!

فعلى هذا يكون الفرق بين معاني "همّ" أي القصد من امرأة العزيز، والقصد من قبل يوسف، هو أنّ يوسف كان يتوقّف قصده على شرط لم يتحقّق، أي (عدم وجود برهان ربّه) ولكن القصد من امرأة العزيز كان مطلقاً، ولأنّها لم يكن لديها مثل هذا المقام من التقوى والعفّة، فإنّها صمّمت على هذا القصد حتّى آخر مرحلة، وإلى أن اصطدمت جبهتها بالصخرة الصمّاء!

ونظير هذا التعبير موجود في الآداب العربيّة وغيرها كما نقول مثلا: إنّ جماعة لا ترتبط بقيم أخلاقية ولا ذمّة صمّمت على الإغارة على مزرعة فلان ونهب خيراته، ولولا أنّي تربّيت سنين طوالا عند اُستاذي العارف الزاهد فلان، لأقدمت على هذا العمل معهم.

فعلى هذا كان تصميم يوسف مشروطاً بشرط لم يتحقّق، وهذا الأمر لا منافاة له مع مقام يوسف من العصمة والتقوى، بل يؤكّد له هذا المقام العظيم كذلك.

وطبقاً لهذا التّفسير لم يبدُ من يوسف أي شيء يدلّ على التصميم على الذنب، بل لم يكن في قلبه حتّى هذا التصميم.

ومن هنا فيمكن القول أنّ بعض الرّوايات التي تزعم أنّ يوسف كان مهيّئاً لينال وطراً من امرأة العزيز، وخلع ثيابه عن بدنه، وذكرت تعبيرات أُخرى نستحيي من ذكرها، كلّ هذه الأُمور عارية من الصحّة ومختلقة، وهذه أعمال من شأن الأفراد والمنحرفين الملوّثين غير الأنقياء.

فكيف يمكن أن يتّهم يوسف مع هذه المنزلة وقداسة روحه ومقام تقواه بمثل هذا الإتّهام.

الطريف أنّ التّفسير الأوّل نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في عبارة موجزة جدّاً وقصيرة، حيث يسأله المأمون "الخليفة العبّاسي" قائلا: ألا تقولون أنّ الأنبياء معصومون؟ فقال الإمام: "بلى".

فقال: فما تفسير هذه الآية (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) فقال الإمام (عليه السلام): "لقد همّت به، ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت، لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه" فقال المأمون: لله درُّك ياأبا الحسن(1).

2 - إنّ تصميم كلّ من امرأة العزيز ويوسف لا علاقة له بالوطر الجنسي، بل كان تصميماً على ضرب أحدهما الآخر... فتصميم امرأة العزيز على هذا العمل كان لعدم إنتصارها في عشقها وبروز روح الإنتقام فيها ثأراً لهذا العشق.

وتصميم يوسف كان دفاعاً عن نفسه، وعدم التسليم لطلب تلك المرأة.

ومن جملة القرائن التي تذكر في هذا الموضوع:

أوّلا: إنّ امرأة العزيز كانت قد صمّمت على نيل الوطر الجنسي قبل هذه الحالة، وكانت قد هيّأت مقدّمات هذا الأمر، فلا مجال - إذن - لأنّ يقول القرآن: إنّها صمّمت على هذا العمل الآن، لأنّ هذه الساعة لم تكن ساعة تصميم.

وثانياً: إنّ ظهور حالة الخشونة والإنتقام بعد هذه الهزيمة أمر طبيعي، لأنّها بذلت ما في وسعها لإقناع يوسف، ولمّا لم توفّق إلى ما رغبت فيه توسلّت بطريق آخر، وهو طريق الخشونة والضرب.

وثالثاً: إنّنا نقرأ في ذيل هذه الآية (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)والمراد بالفحشاء هو التلوّث وعدم العفّة... والمراد بصرف السوء، هو نجاته من مخالف امرأة العزيز، وعلى كلّ حال فحين رأى يوسف برهان ربّه... تجنّب الصراع مع امرأة العزيز وضربها، لأنّه قد يكون دليلا على تجاوزه وعدوانه عليها، ولذا رجّح أن يبتعد عن ذلك المكان ويفرّ نحو الباب.

3 - ممّا لا شكّ فيه أنّ يوسف كان شابّاً يحمل جميع الأحاسيس التي في الشباب، وبالرغم من أنّ غرائزه كانت طوع عقله وإيمانه... إلاّ أنّ مثل هذا الإنسان - بطبيعة الحال - يهيج طوفان في داخله لما يشاهده من مثيرات في هذا المجال، فيصطرع العقل والغريزة، وكلّما كانت أمواج المثيرات أشدّ كانت كفّة الغرائز أرجح، حتّى أنّها قد تصل في لحظة خاطفة إلى أقصى مرحلة من القوّة، بحيث لو تجاوز هذه المرحلة خطوة لهوى في مزلق مهول، ولكنّ قوّة الإيمان والعقل ثارت في نفسه فجأة وتسلّمت زمام الأُمور في إنقلاب عسكري سريع وكبحت جماح الشهوة.

والقرآن يصوّر هذه اللحظة الخاطفة الحسّاسة والمتأزّمة التي وقعت بين زمانين هادئين - في الآية المتقدّمة - فيكون المراد من قوله تعالى: (وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) إنّ يوسف إنجرّ إلى حافّة الهاوية في الصراع بين الغريزة العقل، ولكن فجأةً ثارت قوّة الإيمان والعقل وهزمت طوفان الغريزة(2)... لئلاّ يتصوّر أحد أنّ يوسف عندما إستطاع أن يخلّص نفسه من هذه الهاوية فلم يقم بعمل مهمّ، لأنّ أسباب الذنب والهياج الجنسي كانت فيه ضعيفة... كلاّ أبداً... فهو في هذه اللحظة الحسّاسة جاهد نفسه أشدّ الجهاد.

ما المراد من بُرهان ربّه؟

"البرهان" في الأصل مصدر "بَرِهَ" ومعناه "صيرورة الشيء أبيضاً" ثمّ اُطلق هذا اللفظ على كلّ دليل محكم قوي يوجب وضوح المقصود، فعلى هذا يكون برهان الله الذي نجّى يوسف نوعاً من الأدلّة الإلهيّة الواضحة، وقد إحتمل فيه المفسّرون إحتمالات كثيرة، من جملتها:

1 - العلم والإيمان والتربية الإنسانية والصفات البارزة.

2 - معرفته بحكم تحريم الزنا.

3 - مقام النبوّة وعصمته من الذنب.

4 - نوع من الإمداد الإلهي الذي تداركه في هذه اللحظة الحسّاسة بسبب أعماله الصالحة.

5 - هناك رواية يستفاد منها أنّه كان في قصر امرأة عزيز مصر صنم تعبده، وفجأةً وقعت عيناها عليه، فكأنّها أحسّت بأنّ الصنم ينظر إلى حركاتها الخيانيّة بغضب، فنهضت وألقت عليه ستراً، فاهتزّ يوسف لهذا المنظر، وقال: أنت تستحين من صنم لا يملك عقلا ولا شعوراً ولا إحساساً، فكيف لا أستحيي من ربّي الخبير بكلّ شيء، والذي لا تخفى عليه خافية؟.

فهذا الإحساس منح يوسف قوّة جديدة، وأعانه على الصراع الشديد في أعماق نفسه بين الغريزة والعقل، ليتمكّن من التغلّب على أمواج الغريزة في نفسه(3).

وفي الوقت ذاته لا مانع أن تكون جميع هذه المعاني منظورة، لأنّ مفهوم البرهان العام يستوعبها جميعاً، وقد أطلقت آيات القرآن كلمة "البرهان" على كثير من المعاني المتقدّمة.

أمّا الرّوايات التي لا سند لها والتي ينقلها بعض المفسّرين، والتي مؤدّاها أنّ يوسف صمّم على الذنب، ولكنّه لاحظ فجأةً حالة من المكاشفة بين جبرئيل ويعقوب وهو يعضّ على إصبعه، فرأى يوسف هذا المنظر وتخلّف عن إقدامه على هذا الذنب... فهذه الرّوايات ليس لها أي سند معتبر... وهي روايات إسرائيلية أنتجتها الذهنيات البشرية الضيّقة التي لم تدرك مقام النبوّة أبداً.

والآن لنتوجّه إلى تفسير بقيّة الآية إذ يقول القرآن المجيد: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه كان من عبادنا المخلصين).

وهي إشارة إلى أنّ هذا الإمداد الغيبي والإعانة المعنوية لإنقاذ يوسف من السوء والفحشاء من قبل الله لم يكن إعتباطاً، فقد كان عبداً عارفاً مؤمناً ورعاً ذا عمل صالح طهّر قلبه من الشرك وظلماته، فكان جديراً بهذا الإمداد الإلهي.

وبيان هذا الأمر يدلّ على أنّ مثل هذه الإمدادات الغيبية، في لحظات الشدّة والأزمة التي تدرك الأنبياء - كيوسف مثلا - غير مخصوصة بهم، فإنّ كلّ من كان في زمرة عباد الله الصالحين المخلصين فهو جدير به هذه المواهب أيضاً.

ملاحظات

1 - جهاد النفس

نحن نعرف أنّ أعظم الجهاد في الإسلام هو جهاد النفس، الذي عُبّر عنه في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ"الجهاد الأكبر" أي هو جهاد أعظم من جهاد العدوّ الذي عبّر عنه بالجهاد الأصغر... وإذا لم يتوفّر في الإنسان الجهاد الأكبر بالمعنى الواقعي - أساساً - فلن ينتصر في جهاده على أعدائه.

وفي القرآن المجيد ترتسم صور شتّى في ميادين الجهاد، وتتجلّى فيها علاقة الأنبياء وأولياء الله الصالحين.

وقصّة يوسف وما كان من عشق امرأة العزيز الملتهب واحدة من هذه الصور، وبالرغم من أنّ القرآن لم يوضّح جميع ما في القصّة من خفايا وزوايا، إلاّ أنّه أجملها بصورة موجزة في جملة قصيرة هي (وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) وبيّن شدّة هذا الطوفان.

لقد خرج يوسف من هذا الصراع منتصراً بوجه مشرق لثلاثة أسباب:

الأوّل: إنّه التجأ إلى الله وإستعاذ به، وقال: (معاذ الله).

الثّاني: التفاته إلى الإحسان الذي أسداه إليه عزيز مصر، وما تناوله في بيته فأثّر فيه، فلم ينس فضله طيلة حياته، ومع ملاحظة نعم الله التي لا تُحصى وإنقاذه له من غيابة الجبّ الموحشة إلى محيط الأمان والهدوء جعلته يفكّر في ماضيه ومستقبله، ولا يستسلم للتيارات العابرة.

الثّالث: بناءُ شخصيّته وعبوديّته المقرونة بالإخلاص التي عبّر عنها القرآن (إنّه من عبادنا المخلصين) يستفاد منها أنّها منحته القوّة والقدرة ليخرج من ميادين الوسوسة التي تهجم عليه من الداخل والخارج بإنتصار.

وهذا درس كبير لجميع الناس الأحرار الذين يريدون أن ينتصروا على عدوّهم الخطر في ميادين جهاد النفس.

يقول الإمام علي بن أبي طالب "أمير المؤمنين" في دعاء الصباح، باُسلوب جميل رائق: "وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان، فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان".

ونقرأ في بعض الأحاديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية فلمّا رجعوا قال: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر" فقيل: يارسول الله، وما الجهاد الأكبر قال: "جهاد النفس"(4).

ويقول الإمام علي (عليه السلام) أيضاً "المجاهد من جاهد نفسه"(5).

كما ينقل عن الإمام الصادق أنّه قال: "من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب وإذا رضي حرّم الله جسده على النار"(6).

2 - ثواب الإخلاص

كما أشرنا في تفسير الآيات المتقدّمة، فإنّ القرآن المجيد عزا نجاة يوسف - من هذه الأزمة الخطرة التي أوقعته امرأة العزيز فيها - إلى الله، إذ قال: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء).

ولكن مع ملاحظة الجملة التي تليها: (إنّه كان من عبادنا المخلصين) تتجلّى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله سبحانه لا يترك عباده المخلصين في اللحظات المتأزمّة وحدهم... ولا يقطع عنهم إمداداته المعنويّة... بل يحفظ عباده بألطافه الخفيّة.

وهذا الثواب في الواقع هو ما يمنحه الله جلّ جلاله لأمثال هؤلاء العباد، وهو ثواب الطهارة والتقوى والإخلاص.

وهناك مسألة جديرة بالتنويه، وهي أنّ يوسف "من عباد الله المخلَصين" ومفرد الكلمة "مُخلَص" على وزن "مطلق" وهو اسم مفعول.

ولم تأت الكلمة على وزن اسم الفاعل أي "مُخلِص" على وزن "مُحسِن".

والدقّة في آيات القرآن تكشف عن أنّ كلمة "مخلِص" (بكسر اللام) غالباً ما تُستعمل في مراحل تكامل الإنسان الاُولى وفي حال بناء شخصيته، كقوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفُلك دعوا الله مخلِصين له الدين)(7).

وكقوله تعالى: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلِصين له الدين)(8).

غير أنّ كلمة "مخلَص" بفتح اللام إستعملت في المرحلة العالية... التي تحصل بعد مدّة مديدة من جهاد النفس، تلك المرحلة التي ييأس الشيطان فيها من نفوذه ووسوسته داخل الإنسان، وفي الحقيقة تكون نفس الإنسان مؤمّناً عليها من قبل الله، يقول القرآن في هذا الصدد: (قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلَصين)(9).

وكان يوسف قد بلغ هذه المرحلة بحيث وقف كالجبل أمام تلك الأزمة، فينبغي على كلّ فرد السعي لبلوغ هذه المرحلة.

3 - العفّة والمتانة في البيان

من عجائب القرآن وواحدة من أدلّة الإعجاز، أنّه لا يوجد في تعبيره ركّة وإبتذال وعدم العفّة وما إلى ذلك، كما أنّه لا يتناسب مع اُسلوب الفرد العادي الاُمّي الذي تربّى في محيط الجاهليّة، مع أنّ حديث كلّ أحد يتناسب مع محيطه وأفكاره!.

وبين جميع قصص القرآن وأحداثه التي ينقلها توجد قصّة غرام وعشق واقعية، وهي قصّة (يوسف وامرأة عزيز مصر).

قصّة تتحدّث عن عشق امرأة جميلة والهة ذات أهواء جامحة لشاب جميل طاهر القلب.

أصحاب المقالات والكتاب حين يواجهون مثل هذا الأمر... إِمّا أن يتحدّثوا عن أبطال القصّة بأن يطلقوا للقلم أو اللسان العنان، حتّى تظهر في (البين) تعابير مثيرة وغير أخلاقية كثيرة.

وإِمّا أن يحافظوا على العفّة والنزاهة في القلم واللسان، فيحوّلوا القصّة إلى القرّاء أو السامعين بشكل غامض ومبهم.

فالكاتب أو صاحب المقال مهما كان ماهراً يبتلى بواحد من هذين الإشكالين، ترى هل يعقل أنّ فرداً لم يدرس يرسم رسماً دقيقاً وكاملا لفصول مثل هذا العشق المثير، دون أن يستعمل أقلّ تعبير مهيّج وبعيد عن العفّة؟!

ولكنّ القرآن يمزج في رسم هذه الميادين الحسّاسة من هذه القصّة - باُسلوب معجب - الدقّة في البيان مع المتانة والعفّة، دون أن يغضّ الطرف عن ذكر الوقائع، أو أن يظهر العجز، وقد إستعمل جميع الاُصول الأخلاقية والأُمور الخاصّة بالعفّة.

ونعرف أنّ أخطر ما في هذه القصّة ما جرى في "خلوة العشق" وما أظهرته امرأة العزيز بإبتكارها وهواها.

والقرآن يتناول كلّ ما جرى من حوادث ويتحدّث عنها دون أن يظهر أقلّ إنحراف من اُصول العفّة حيث يقول: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي إنّه لا يُفلح الظالمون)(يوسف 23).

والمسائل التي تسترعي الإنتباه في هذه القصّة ما يلي:

1 - كلمة "راود" تستعمل في مكان يطلب فيه أحد من الآخر شيئاً بإصرار ممزوجاً بالترغيب واللين، لكن ما الذي أرادته امرأة العزيز من يوسف؟!

... بما أنّه كان واضحاً فقد إكتفى القرآن بالكناية والتلميح دون التصريح!.

2 - إنّ القرآن هنا لم يعبّر عن امرأة العزيز تعبيراً مباشراً، بل قال: (التي هو في بيتها) ليقترب من بيان العفّة وإسدال الحجاب، كما جسّد معرفة يوسف للحقّ وجسّد مشاكل يوسف أيضاً في عدم التسليم إزاء من كانت حياته في قبضتها.

3 - (غلّقت الأبواب) التي تدلّ على المبالغة وأنّ الأبواب جميعاً أوصدت بشدّة، (وهذا تصوير من هذا الميدان المثير).

4 - جملة (هيت لك) تشرح آخر كلام امرأة العزيز للبلوغ إلى وصال يوسف، ولكنّها في عبارة متينة ذات مغزى كبير وليس فيها ما يشير إلى تعبير سيىء.

5 - (معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي) التي قالها يوسف لتلك المرأة الجميلة، معناها كما يقول أكثر المفسّرين: إنّي ألتجىء إلى الله فإنّ عزيز مصر صاحبي وسيّدي وهو يجلّني ويحترمني ويعتمد عليّ، فكيف أخونه؟!

وهذا العمل خيانة وظلم (إنّه لا يفلح الظالمون) وبهذا توضّح الآية سعي يوسف إلى إيقاظ العواطف الإنسانية في امرأة العزيز.

6 - جملة (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) ترسم - من جهة - تلك الخلوة بدقّة، بحيث لو أنّ يوسف لم يكن لديه مقام العصمة أو العقل أو الإيمان لكان قد وقع في "الفخّ".

ومن جهة أُخرى ترسم إنتصار يوسف أخيراً في هذه الظروف على شيطان الشهوة الطاغي... باُسلوب رائع.

الطريف هنا أنّ الآية استعملت كلمة "همّ" فحسب، "أي إنّ امرأة العزيز صمّمت من جهتها ولو لم يَر يوسف برهان ربّه لصمّم من جهته أيضاً، ترى هل توجد كلمة أكثر متانةً للتعبير عن (القصد والتصميم) أفضل من هذه؟!


1- في العبارة المتقدمة حُذف جوابُ "لما" والتقدير كما يلي: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ عظمت فتنتهم (تفسير القرطبي) ولعل هذا الحذف اقتضى لعظم هذه الحادثة المؤلمة أن يسكت عنه المتكلم، وهو بنفسه من فنون البلاغة العربية (تفسير الميزان).

2- تفسير الآلوسي: ذيل الآية.

3- صبر جميل (صفة وموصوف) خبر لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: صبري صبر جميل.

4- تفسير البرهان، ج 2، ص 243 ونور الثقلين، ج 2، ص 411.

5- المصدر السّابق.

6- تفسير القرطبي، ج 5، ص 337.

7- المصدر السابق، ص 416.

8- نور الثقلين، ج 2، ص 216.

9- بحار الأنوار، ج 22، ص 157 و158.