الآيتان 21 - 22
﴿وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاَْرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ21 وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءَاتَيْنَـهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ22﴾
التّفسير
في قصر عزيز مصر:
إنتهت حكاية يوسف مع إِخوته الذين ألقوه في غيابة الجبّ وبيّناها تفصيلا، بدأ فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر... فقد جيء بيوسف إلى مصر وعرض للبيع، ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب "عزيز مصر" الذي كان وزيراً لفرعون أو رئيساً لوزرائه، لأنّه كان يستطيع أن يدفع قيمة أعلى لغلام ممتاز من جميع الجهات، والآن لنَر ما الذي حدث له في بيت عزيز مصر.
يقول القرآن الكريم في شأن يوسف: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً)(1) فلا ينبغي أن تنظري اليه كما ينظرالى العبيد.
يستفاد من سياق الآية أنّ عزيز مصر لم يرزق ولداً وكان في غاية الشوق للولد، وحين وقعت عيناه على هذا الصبيّ الجميل والسعيد تعلّق قلبه به ليكون مكان ولده.
ثمّ يضيف القرآن الكريم (وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض).
هذا "التمكين" في الأرض إِمّا أن يكون لمجيىء يوسف إلى مصر، وخاصّة أن خطواته، في محيط مصر مقدّمة لما سيكون عليه من الإِقتدار والمكانة القصوى، وإِمّا أنّه لا قياس، بين هذه الحياة في مصر "العزيز" وبين تلك الحياة في غيابة الجبّ والوحدة والوحشة.
فأين تلك الشدّة من هذه النعمة والرفاه!
ويضيف القرآن أيضاً (ولنعلمه من تأويل الأحاديث).
المراد من "تأويل الأحاديث" - كما أشرنا سابقاً - هو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادراً على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل من خلاله، أو المراد منه الوحي لأنّ يوسف مع عبوره من المضائق الصعبة والشدائد القاسية ونجاحه في الإِختبارات الإِلهية في قصر عزيز مصر، نال الجدارة بحمل الرسالة والوحي.
ولكن الإِحتمال الأوّل أقرب كما يبدو للنظر.
ثمّ يختتم القرآن هذه الآية بالقول: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
إِنّ واحدة من مظاهر قدرة الله العجيبة وهيمنته على الأُمور كلها أن يدع - في كثير من الموارد - أسباب موفقيه الإِنسان ونجاحه بيد أعدائه كما حدث في مسألة يوسف (عليه السلام)، فلو لا خطة إِخوته لم يصل إلى الجبّ أبداً، ولو لم يصل إلى الجبّ لما وصل إلى مصر، ولو لم يصل إلى مصر لما ذهب إلى السجن ولما كان
هناك أثر من رؤيا فرعون التي أصبح يوسف بسببها عزيزَ مصر!
ففي الحقيقة إِن الله أجلس يوسف على عرش الإِقتدار بواسطة إِخوته الذين تصوروا أنّهم سيقضون عليه في تركهم إِيّاه في غيابة الجُبِّ.
لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد، الذي يعدّ واحداً من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة... فمن جهة كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة أُخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد... ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدراً على ذلك!
أجلْ، لقد تعلم الكثير من هذه الأشياء في هذا المحيط المفعم بالضوضاء، وكان قلبه يفيض همّاً لأنّ الظروف لم تتهيأ له بعدُ.
فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (ولمّا بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين).
كلمة "أشدّ" مشتقّة من مادة "شدّ" وتعني فتل العقدة باستحكام... وهي هنا إِشارة إلى الإِستحكام الجسماني والروحاني.
قال بعضهم: إِنّ هذه الكلمة جمع لا مفرد لها... ولكن البعض الآخر قال: إِنّها جمع (شدّ) على وزن (سدّ) ولكن معناها الجمعي غير قابل للإِنكار على كل حال!
المراد من "الحكم" و"العلم" الواردين في الآية المتقدمة التي تقول: (ولمّا بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً...) إِمّا أن يكون مقام النبوّة كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين، وإِمّا أن يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والإِشتباه.
والمراد من العلم الإِطلاع الذي لا يقترن معه الجهل، ومهما كان فإنّ الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما الله ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه، وجميع هذه الصفات مجتمعة في كلمة "المحسنين".
قال بعض المفسّرين: هناك ثلاثة احتمالات لمعنى كلمتي (الحكم والعلم) الواردتين في الآية، وهي:
1 - إِنّ الحكم إِشارة إلى مقام النبوة (لأنّ النّبي حاكم على الحق) والعلم إِشارة إلى علم الدين.
2 - إِن الحكم يعني ضبط النفس إِزاء الهوى والميول النفسيّة، وهو هنا إِشارة إلى الحكمة العملية.
والعلم إِشارة إلى العلم النظري... وتقديم الحكم على العلم هنا لأنّ الإِنسان إِذا لم يهذب نفسه ويبنيها بناءً صحيحاً لا يصل إلى العلم الصحيح.
3 - إِنّ الحكم معناه أن يبلغ الإِنسان مقام "النفس المطمئنة" ويتسلّط على نفسه بحيث يستطيع أن يتملك زمام النفس الأمّارة ووسوستها... والمراد من العلم هو الأنوار القدسيّة وأشعة الفيض الإِلهي الذي تنزل من عالم الملكوت على قلب الإِنسان الطاهر(2).
ملاحظات
1 - ما هو اسم "عزيز" مصر؟
ممّا يستجلب النظر في الآيات المتقدمة أن اسم عزيز مصر لم يذكر فيها، إِنّما ورد التعبير عنه بـ(الذي اشتراه).
لكن من هو هذا العزيز؟!
لم تذكره الآية، كما سنرى في الآيات المقبلة أن عنوانه لم يصرّح به إِلاّ بالتدريج، فمثلا نقرأ في الآية (25) هذا النصّ (وألفيا سيدّها لدى الباب).
وحين نتجاوز هذه الآيات ونصل إلى الآية (30) نواجه التعبير عن زوجته بـ "امرأة العزيز".
وهذا البيان التدريجي إِمّا لأنّ القرآن يتحدث - حسب طريقته - بالمقدار اللازم، وهذا دليل من أدلة الفصاحة والبلاغة، أو لأنّه - كما هو ملاحظ هذا اليوم في "نصوص الآداب" أيضاً - حين يبدأ بالقصّة - يبدأ بها من نقطة غامضة ليتحرك الإِحساس في الباحث، وليلفت نظره نحو القصّة.
2 - يوسف (عليه السلام) وتعبير الأحلام
الملاحظة الأُخرى التي تثير السؤال في الآيات المتقدمة، هي: ما علاقة الإِطلاع على تفسير الأحلام وتأويل الأحاديث بمجيىء يوسف إلى قصر عزيز مصر الذي أشير إِليه بلام الغاية في جملة (ولنعلّمه)؟!
لكن مع الإِلتفات إلى أنّ هذه النقطة يمكن أن تكون جواباً للسؤال الآنف الذكر، وهي أن كثيراً من المواهب العلمية يهبها الله قبال التقوى من الذنوب ومقاومة الاهواء والميول النفسيّة، أو بتعبير آخر: إِنّ هذه المواهب التي هي ثمرة البصيرة القلبية الثاقبة، هي جائزة إِلهية يهبها الله لمثل هؤلاء الأشخاص.
نقرأ في حالات ابن سيرين مفسر الأحلام المشهور أنّه كان رجلا بزازاً وكان جميلا للغاية فعشقته امرأة وتعلق قلبها به، واستدرجته إلى بيتها بأساليب وحيل خاصّة، ثمّ غلّقت الأبواب عليه (لينال منها الحرام) لكنه لم يستسلم لهوى تلك المرأة وأخذ ينصحها ويذكر مفاسد هذا الذنب العظيم، ولكن نار الهوى كانت متأججة في قلبها بحيث لم يطفئها ماء الموعظة، ففكر ابن سيرين في الخلاص من قبضتها، فلوّث جَسده بما كان في بيتها من أقذار تنفّر الرائي، فلما رأته المرأة نفرت منه وأخرجته من البيت.
يقال أنّ ابن سيربن أصبح ذكيّاً بعد هذه الحادثة ورزق موهبة عظيمة في تفسير الأحلام، وذكروا قصصاً عجيبة عنه في الكتب التي تتناول تفسير الأحلام تدل على عمق اطلاعه في هذا المجال!
فعلى هذا يمكن أن يكون يوسف (عليه السلام) قد نال هذه الموهبة الخاصّة (العلم بتأويل الأحاديث) لتسلّطه على نفسه قبال إِثارة امرأة العزيز لهوى النفس!
ثمّ بعد هذا كله فإنّ قصور الملوك في ذلك الزمان كانت مراكز لمفسري الأحلام، وإِنّ شاباً - ذكياً كيوسف - كان يستطيع أن يستفيد من تجارب الآخرين، وأن يكون له استعداد روحي لإِفاضة العلم الإِلهي في هذا المجال!
وعلى كل حال فإنّه ليس مستبعداً أن يهب الله سبحانه لعباده المخلصين المنتصرين في ميادين "جهاد النفس للهوى والشّهوات" مواهب من المعارف والعلوم التي لا تقاس بأيّ معيار مادي، ويمكن أن يكون الحديث المعروف "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء" إِشارة إلى هذه الحقيقة.
هذا العلم ليس ممّا يقرأ عند الأستاذ، ولا يعطى لأيّ كان وبدون حساب... بل هو جائزة من الجوائز التي تمنح للمتسابقين في ميادين جهاد النفس!
3 - المراد من قوله تعالى: (ولمّا بلغ أشدّه)
قلنا إِن (أشدّ) معناه الإِستحكام الجسماني والروحاني، وبلوغ الرشد معناه الوصول إلى هذه المرحلة، ولكن هذا العنوان قد عبّر عنه القرآن الكريم في مراحل مختلفة من عمر الإِنسان.
فتارة أطلقه على سنّ البلوغ كقوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إِلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه)(3).
وتارةً يرد هذا المعنى في وصول الإِنسان إلى أربعين سنة، كقوله تعالى: (حتى إِذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)(4).
وتارةً يراد به ما قبل مرحلة الشيخوخة والكبر، كقوله تعالى: (ثمّ يخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدّكم ثمّ لتكونوا شيوخاً)(5).
ولعل هذا التفاوت في التعبيرات آت من طيّ الإِنسان مراحل مختلفة لإِستحكام الروح والجسم، ولا شكّ أن الوصول إلى سنّ البلوغ واحد من هذه المراحل.
وبلوغ الأربعين الذي يكون توأماً للنضج الفكري والعقلي مرحلة ثانية، كما أن المرحلة الثّالثة تكون قبل أن يسير الإِنسان نحو قوس النّزول ويبلغ الضعف والوهن!
وعلى كل حال فإنّ المقصود في الآية - محل البحث - هو مرحلة البلوغ الجسمي والروحي الذي ظهر في يوسف بداية شبابه، يقول الفخر الرازي في تفسيره في هذا الصدد: "مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسرٌ، فإِذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة أيام، فلا جرمَ رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع، فالإِنسان إِذا وُلد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين، ثمّ إِذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوّة، ثمّ لا يزال في الترقي إلى أن يتمّ له أربع عشرة سنة، فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثّالث وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهودة، ثمّ لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنةَ الحاديةَ والعشرين وهناك يتم الأسبوع الثّالث، ويدخل في السنة الثّانية والعشرين وهذا الأسبوع آخر أسبوع النشوء والنماء، فإِذا تمّت السنة الثّامنة والعشرون فقد تمّت مدّة النشوء والنماء وينتقل الإِنسان منه إلى زمان الوقوف، وهو الزمان الذي يبلغ الإِنسان فيه أشدّه، وبتمام هذا الأسبوع الخامس - يحصل للإِنسان خمسة وثلاثون سنة ثمّ إنّ هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان، فهذا الاسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدّة والكمال يبتدىء من السنة التّاسعة والعشرين إلى الثّالثة والثّلاثين، وقد يمتّد إلى الخامسة والثّلاثين، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب، والله أعلم بحقائق الأشياء"(6).
التقسيم المتقدّم وإِن كان مقبولاَ إلى حدٍّ ما... لكنّه يبدو غير دقيق، لأنّ مرحلة البلوغ أوّلا ليست في انتهاء العقد الثاني، وكذلك فإن التكامل الجسماني - طبقاً لما يقول علماء اليوم - هو 25 سنة... والبلوغ الفكري الكامل أربعون سنةً طبقاً لبعض الرّوايات، وبعد هذا كله فإنّ ما ورد آنفاً لا يصحّ أن يكون قانوناً عامّاً ليصدق على جميع الأشخاص.
4 - وآخر ما ينبغي الإِلتفات إِليه هنا هو أن القرآن بعد أن يتحدث عن إِتيان يوسف الحكم والعلم يعقب بالقول: (وكذلك نجزي المحسنين) ومعنى ذلك أن مواهب الله - حتى للأنبياء - ليست اعتباطاً، وكل ينال بمقدار إِحسانه ويغرف من بحر الله وفيضه اللامحدود كما نال يوسف سهماً وافراً من ذلك بصبره واستقامته أمام كل تلك المشاكل.
1- المصدر نفسه.
2- بحار الأنوار، ج 74، ص 78.
3- "يرتع" من مادة "رتع" على وزن "قطع" ومعناه في الأصل رعي الأغنام والأنعام بصورة عامّة للنباتات وشبعها منها، ولكن قد يطلق هذا اللفظ (رتع، يرتع) ويراد به تنزّه الإِنسان وكثرة الأكل والشرب أيضاً.
4- نهج البلاغه، الكلمات القصار: رقم الكلمة 390.
5- سفينة البحار، ج 1، ص 596.
6- نور الثقلين، ج 2، ص 415.