الآيات 15 - 18
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَـبَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ15وَجَآءُو أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ16 قَالُوا يَـأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بُمُؤْمِن لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـدِقِينَ17وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ18﴾
التّفسير
الكذب المفضوح:
وأخيراً إنتصر إِخوة يوسف وأقنعوا أباهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وإِزاحة أخاهم الذي يقف عائقاً في طريقهم... وكان قلقهم الوحيد أن يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده بإِرسال يوسف معهم.
فجاؤوا صباحاً إلى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف، وكرر توصياته في شأنه، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وأبدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة، وتحركوا إلى خارج المدينة.
يقال: إِنّ أباهم ودعهم إلى بوابة المدينة ثمّ أخذ منهم يوسف وضمّه إلى صدره ودمعت عيناه، ثمّ أودع يوسف عندهم وفارقهم، ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته، وكان إِخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف وإِظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم، ولكن ما أن غاب عنهم أبوهم واطمأنوا إلى أنّه لا يراهم، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا "جام غضبهم" وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على رأس يوسف، فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجىء من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيرهُ أحد منهم.
نقرأ في رواية أنّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسيّة، ولكن حين أرادوا أن يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة... فتعجب إِخوته كثيراً وحسبوا أن أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحاً... ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درساً كبيراً إِذ قال: - لا أنسى أنني نظرت - أيها الإِخوة - إلى عضلات أيديكم القويّة وقواكم الجسدية الخارقة، فسررت وقلت في نفسي: ما عسى أن يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الإِخوة، فاعتمدت عليكم وربطت قلبى بقواكم، والآن وقد أصبحت أسيراً بين أيديكم وأستجير بكم من واحد للآخر فلا أُجار، وقد سلطكم الله عليّ لأتعلم هذا الدرس، وهو ألاّ أعتمد وأتوكّل على أحد سواه... حتى ولو كانوا إِخوتي.
وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد: (فلمّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب)(1).
جملة "أجمعوا" تدلّ على أنّ جميع الإِخوة كانوا متفقين على هذه الخطّة، وإِن لم يتفقوا جميعاً على قتله.
وأساساً فإنّ كلمة "أجمعوا" مأخوذة من مادة "جمع" وهي في هذه الموارد إِشارة إلى جمع الأراء والأفكار.
ثمّ تبيّن الآية أنّ الله أوحى إلى يوسف وهدأ روعه وألهمه ألاّ يحزن فالعاقبة له، إِذ تقول: (وأوحينا إِليه لتنبئتهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون).
ذلك اليوم الذي تجلس فيه على العرش وأنت القوي الأمين، فيأتي إِخوتك ليمدّوا أيدي الحاجة إِليك، ويكونوا كالظامئين إلى النبع العذب في الصحراء اللاهبة ويسرعون إِليك في منتهى التواضع، ولكنّك في حال من العظمة بحيث لا يصدّقون أنك أخوهم، وستقول لهم في ذلك اليوم: ألستم الذين فعلتم مع أخيكم الصغير يوسف كذا وكذا... وكم سيكونون خجلين من فعلهم هذه في ذلك اليوم!
وهذا الوحي الإِلهي لم يكن وحي النبوة، بقرينة الآية (22) من السورة ذاتها، بل كان إِلهاماً لقلب يوسف ليعلم أنه ليس وحيداً، بل له حافظ ورقيب، وهذا الوحي بثّ في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة.
لقد نفّذ إِخوة يوسف خطتهم كما أردوا، ولكن ينبغي أن يفكروا عند العودة ماذا كيف كي يصدّق أبوهم أن يوسف إنتهى بصورة طبيعية لا عن مكيدة ليضمنوا عواطف أبيهم نحوهم.
وكانت الفكرة التي أوصلتهم إلى هذا الهدف هي ما تخوّف أبوهم منه، فأقنعوه - ظاهراً - عن هذا الطريق مدّعين بأنّ الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا إِليه بدلائل مزيّفة!!
يقول القرآن الكريم: (وجاءُوا أباهم عشاءً يبكون) بكاءً كاذباً، وهذا يدلّ على أنّ البكاء الكاذب ممكن... ولا يمكن أن يُخدع ببكاء العين وحدها.
أمّا الأب الذي كان ينتظر مجيىء ولده (يوسف) بفارغ الصبر، فقد اهتز وارتجف حين رأى الجمع وليس بينهم يوسف، وسأل عنه مستفسراً... فأجابوه
و(قالوا إِنّا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا) لصغر سنه ولأنّه لا يعرف التسابق، وانشغلنا عنه (فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين).
لأنك أخبرتنا من قبلُ بهذا الإِحتمال، وستظن أن ادّعاءنا مجرّد احتيال.
لقد كان كلام إِخوة يوسف مدروساً بشكل دقيق، وذلك - أوّلا - لأنّهم خاطبوا يعقوب بقولهم بكلمة "يا أبانا" وفيها ما فيها من الإِستعطاف.
وثانياً: لأنّ من الطبيعي أن ينشغل هؤلاء الإِخوة الأقوياء بالتسابق، ويتركوا أخاهم الصغير رقيباً على متاعهم، وبعد ذلك كله فقد جاؤوا أباهم يبكون لتمرير خطتهم، وقالوا له: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين).
ومن أجل أن يبرهنوا على صحة كلامهم فقد (جاءُوا على قميصه بدم كذب)إِذ لطخوا الثوب بدم الغزال أو الخروف أو التيس... ولكن حيث أنّ الكاذب لا يمتلك حافظة قويّة، وحيث أن أية حقيقة فيها علائق مختلفة وكيفيات ومسائل يقل أن تجتمع منظّمة في الكذب، فقد غفل إِخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة... وهي - على الأقل - أن يخرقوا قميص يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب... فقد قدّموا القميص سالماً غير مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم، فما إِن وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل شيء و(قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً).
جاء في بعض الرّوايات أنّ يعقوب أخذ قميص يوسف وهو يقلّبه ويقول: "ما آرى أثر ناب ولا ظفر إنّ هذا السبع رحيم"، وفي رواية أنّه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل إبني ولم يمزق على قميصه، وجاء أنّه بكى وصاح وحرّ مغشيّاً عليه فأفاضوا على الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من
ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلاّ ببرد السحر(2).
وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم الشكر أو اليأس أو الفزع أو الجزع، بل قال: (فصبر جميل)(3) ثمّ قال: (والله المستعان على ما تصفون) وأسأله أن يبدل مرارة الصبر في فمي إلى "حلاوة" ويرزقني القوة والقدرة على التحمّل أكثر أمام هذا الطوفان العظيم، لئلا أفقد زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق.
ولم يقل: أسأله أن يعطيني الصبر على موت يوسف، لأنّه كان يعلم أن يوسف لم يُقتل... بل قال: أطلب الصبر على مفارقتي ولدي يوسف... وعلى ما تصفون.
ملاحظات
1 - حول الترك "الأَولى"
ينقل أبو حمزة الثمالي عن الإِمام السجاد فيقول: كنت يوم الجمعة في المدينة وصليت الغداة مع الإِمام السجاد (عليه السلام) فلمّا فرغ من صلاته وتسبيحه نهض إلى منزله وأنا معه، فدعا مولاة له تُسمى سكينة فقال لها: "لا يعبر على بابي سائل إِلاّ أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة".
يقول أبو حمزة: فقلت له: ليس كل من يطلب العَونَ مستحقاً له، فقال: يا أبا ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّاً فلا نُطعمه ونردّه فينزل بنا - أهل البيت - ما نزل بيعقوب وآله.
أطعِمُوهم إِن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشاً فيتصدق منه ويأكل هو وعياله منه، وإِن سائلا مؤمناً صوّاماً محقّاً له عندالله منزلة، وكان مجتازاً غريباً اعترَّ على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إِفطاره
يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم، يهتف بذلك على بابه مراراً وهم يسمعونه، قد جهلوا حقّه ولم يصدقوا قوله: فلما أيس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله باب وطاوياً، وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.
قال: فأوحى الله عزّو جلّ إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت - يا يعقوب - عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي، ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك يا يعقوب، إِن أحبّ أنبيائي إِليَّ وأكرمهم علي من رحم مساكين عبادي وقرَّبهم اليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ يا يعقوب، ما رحمت "ذميال" عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا عبر ببابك عند أوان افطاره ويهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئاً.
فاسترجع واستعبر وشكا ما به إِليّ وبات جائعاً وطاوياً حامداً، أصبح لي صائماً، وأنت - يا يعقوب - ووُلدك شباع، وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.
أو علمت - يا يعقوب - أنّ العقوبة والبلوى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي... الخ...(4).
ومن الطريف أنّ أبا حمزة يقول: سألت الإِمام زين العابدين (عليه السلام) متى رأى يوسف رؤياه؟ فقال الإِمام: في تلك الليلة"(5).
يستفاد من هذا الحديث أن زلّة بسيطة أو بعبارة أدق: "ترك الأَولى" وهو لا يعدّ خطيئة أو إِثماً، لأنّ يعقوب له يتّضح له حال السائل... هذا الترك من قبل الأنبياء والأولياء يكون سبباً لأنّ يبتليهم الله بلاءً شديداً... وما ذلك إِلاّ لمقامهم الكبير الذي يوجب عليهم أن يراقبوا كل حركاتهم وسكناتهم، لأنّ "حَسنات الأبرار سيئات المقربين".
فاذا كان يعقوب (عليه السلام) قد ابتلي بهذا البلاء والهمّ لأنّه لم يطلع على حال قلب السائل وآلامه، فكيف الحال في المجتمعات التي تغرق فيها طائفة بالنعيم والرفاه وطائفة من الناس جياع، كيف لا يشملهم غضب الله! وكيف يسلَمون من عذاب الله!
2 - دعاء يوسف البليغ الجذّاب
ترد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وروايات أهل السنة، أن يوسف حين استقرّ في قعر الجبّ انقطع أمله من كل شيء، وصرف كلِّ توجهه إلى ذات الله المقدسة يناجي ربّه، وكانت لديه حوائج ذكرها بتلقين جبرئيل إِياه... ففي رواية أنّه دعا ربّه بهذه المناجاة "اللّهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، يا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملأ، يا حيّ يا قيّوم، أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي همّ ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، إِنّك على كل شيء قدير".
ومن الطريف أنّنا نقرأ في ذيل هذه الرواية، أنّ الملائكة سمعت صوت يوسف فنادت: "إِلـهنا نسمع صوتاً ودعاءً، الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبيّ"(6).
وهناك نقطة تدعو للإِلتفات وهي: حين رمى يوسفَ إِخوتُهُ في الجبّ خلعوا عنه قيمصه وتركوه عارياً، فنادى: اتركوا لي قميصي - على الأقل - لأغطي به بدني إِذا بقيت حياً، ويكون كفني إِذا متّ.
فقال له إِخوته: اطلبه من الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر الذين رأيتهم في منامك، ليكونوا مؤنسيك في هذه البئر، ويكسوك ويُلبسوك ثوباً على بدنك... فدعا يوسف على أثر اليأس المطلق بالدعاء الآنف الذكر.(7)
وفي رواية عن الإِمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "حين أُلقي يوسف في الجبّ هبط عليه جبرئيل وقال: ما تصنع هنا أيّها الغلام؟ فقال له: إِن إِخوتي ألقوني في البئر.
فقال له جبرئيل: أتُّحبُّ أن تخرج من البئر؟ قال: ذلك بمشيئة الله، إن شاء أخرجني.
فقال له: إِن الله يأمرك أن تدعو بهذا الدعاء لتخرج من البئر: "اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإِكرام، أن تصلي على محمّد وآل محمّد وأن تجعل لي ممّا أنا فيه فرجاً ومخرجاً"(8).
3 - جملة (وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ) تدلّ على أنّهم لم يرموه في البئر، أنزلوه على مكان يشبه الرصيف لمن يريد النّزول إلى سطح الماء، وقد شدوه يحبل حتى إذا نزل ووصل إلى غيابة الجبّ تركوه وحده.
وهناك قسم من الرّوايات التي تفسّر الآيات المتقدمة تؤيد هذا الموضوع.
4 - تسويل النفس
جملة "سوّلت" مشتقّة من "التسويل" ومعناه "التزيين" وقد يأتي بمعنى "الترغيب" وقد يأتي بمعنى "الوسوسة" كما في بعض التفاسير... جميع هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد... أي إِنّ هوى النفس زيّن لكم هذا العمل.
وهي إِشارة إلى أنّه حين يطغى هوى النفس على الإِنسان ويستبدّ به عناده، فإنه يتصور أن أسوأ الجنايات لديه أمر حسن، كما لو كان ذلك قتل الأخ أو إِبعاده، وقد يتصور أن ذلك أمر مقدّس... وهذه نافذة على أصل كلي في المسائل النفسية، بحيث يجعل الميل المفرط والرغبة الجامحة لأمر ما - وخاصّة مع اقترانهما بالرذائل الأخلاقية - غشاوة على إِحساس الإِنسان، فتنقلب عنده الحقائق وتتغير صورها.
لذا فإِنّ القضاء الصحيح وإِدراك الواقعيّات العينيّة، لا يمكن لها أن تتحقق دون تهذيب النفس، وإِذا كانت العدالة شرط في القاضي فإنّ هذا الأمر واحد من أسبابها... وإِذا كان القرآن الكريم يقول في الآية (282) من سورة البقرة (واتقوا الله ويعلمكم الله) فذلك إِشارة إلى هذه الحقيقة أيضاً.
5 - الكذاب عديم الحافظة
قصّة يوسف - وما جرى له مع إِخوته - تثبت مرّة أُخرى هذا الأصل المعروف الذي يقول: إِنّ الكذاب لا يستطيع أن يكتم سرّه دائماً، لأنّ الواقعيات العينية حين تظهر إلى الوجود الخارجي تظهر ومعها روابط - أكثر من أن تعدّ - مع موضوعات أُخرى تدور حولها، وإِذا أراد الكاذب أن يهيىء مناخاً لمسألة غير واقعية فإنّه لا يستطيع أن يحفظ هذه الروابط مهما كان دقيقاً.
ولنفرض أنّه يستطيع أن يؤلف بين عدد من الروابط الكاذبة في حادثة ما، ولكن المحافظة على هذه الروابط المصطنعة في ذهنه ليست عملا هيّناً، فإنّ أقل غفلة منه تسبب وقوعه في التناقض، فتتسبب هذه الغفلة في فضيحة صاحبها وتكشف الأمر الواقعي... وهذا درس كبير لمن يريد المحافظة على ماء وجهه ومكانته في المجتمع أن لا يلجأ إلى الكذب فيتعرض موقعه الإِجتماعي للخطر وينزل عليه غضب الله.
6 - ما هو الصبر الجميل؟
الصبر أمام الحوادث الصعبة والأزمات الشديدة يدلّ على قوة شخصية الإِنسان، وعلى سعة روحه بسعة ما تتركه هذه الحوادث فلا يتأثر ولا يهتز لها.
ربّما يحرك النسيم العليل ماء الحوض الصغير، ولكن المحيطات العظيمة كالمحيط الهادي - مثلا - يستوعب حتى الاعصار الذي يتلاشى أمام هدوئه وسعته.
وقد يتصبر الإِنسان أحياناً، ولكنّه سرعان ما يتلف هذا الصبر بكلماته النابية التي تدل عى عدم الشكر وعدم تحمل الحادثة ونفاد الصبر.
ولكن المؤمنين الذين يتمتعون بإِرادة قويّة واستيعاب للحوادث، هم أُولئك الذين لا يتأثرون بها ولا يجري على لسانهم ما يدلّ على عدم الشكر وكفران النعمة أو الجزع أو الهلع.
صبر هؤلاء هو الصبر الجميل... قد يبرز الآن هذا السؤال، وهو أننا نقرأ في الآيات الأُخرى - من هذه السورة - أنّ يعقوب بكى على يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، أفلا ينافي ما صدر من يعقوب صبرَه الجميل؟!
والجواب على هذا السؤال في جملة واحدة، وهي: إِن قلوب عباد الله مركز للعواطف، فلا عجب أن ينهلّ دمع عينهم مدراراً، المهم أن يسيطروا على أنفسهم، ولا يفقدوا توازنهم، ولا يقولوا شيئاً يسخط الله.
ومن الطريف أن مثل هذا السؤال وجه إلى النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بكى على موت ولده إِبراهيم حيث قالوا له: يا رسول الله، أتنهانا عن البكاء وتبكي؟!
فأجابهم النّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) "تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ".
وفي رواية أُخرى أنه قال: "ليس هذا بكاء إِنّه رحمة"(9).
وهذا إِشارة إلى أنّ ما في صدر الإِنسان هو القلب، وليس حجر! وطبيعيّ أن يتأثر الإِنسان أمام المسائل العاطفية، وأبسط هذا التأثر هو انهلال الدمع... إِنَّ هذا لايعدّ عيباً، بل هو أمر حسن، العيب هو أن يقول الإِنسان ما يسخط الربّ.
1- القصص، 7.
2- الآية 100.
3- مجمع البيان في تفسير الآية.
4- نور الثقلين، ج 2، ص 49.
5- نور الثقلين، ج 2، ص 49.
6- نهج البلاغة، من كتاب له(عليه السلام) لولده الحسن المجتبى(عليه السلام).
7- "التأويل" في الأصل إِرجاع الشيء، وكل عمل أو كل حديث يصل الى الهدف النهائي يطلق عليه "تأويل" وتحقق الرؤيا في الخارج مصداق للتأويل... و"الأحاديث" جمع الحديث، وهو نقل ما يجري، والحديث هنا كناية عن الرؤيا لأن الإِنسان ينقلها للمعبرين.
8- بحار الأنوار، ج 14، ص 44 ويضيف بعض العلماء قسماً رابعاً على هذه الأقسام، هو الرؤيا التي تكون نتيجةً مباشرة عن الوضع المزاجي والجسماني للإِنسان، وسيشار إِليها في البحوث المقبلة... إِن شاء الله.
9- بحار الأنوار، ط جديدة، ج 78، ص 334.