الآيات 7 - 10
﴿لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَـتٌ لِّلسَّآئِلِينَ7 إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـل مُّبِين8 اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَـلِحِينَ9 قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَـبَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَـعِلِينَ10﴾
التّفسير
المؤامرة:
من هنا تبدأ قصّة مواجهة إِخوة يوسف واشتباكهم معه:
ففي الآية الأُولى - من الآيات محل البحث - إِشارة إلى الدروس التربوية الكثيرة التي توحيها القصّة، إِذ تقول الآية: (لقد كان في يوسف وإِخوته آيات للسائلين).
وفي أنّ المراد بالسائلين، من هم؟ يقول بعض المفسّرين كالقرطبي في التّفسير الجامع وغيره: إِنّ هؤلاء السائلين هم جماعة من يهود المدينة، جاؤوا يسألون النّبي أسئلة في هذا المجال، ولكن ظاهر الآية مطلق، فلا مرجّح لأنّ يكون المراد بالسائلين هم اليهود دون غيرهم.
وأيّ درس أعظم من أن يجتمع عدّة أفراد لإِهلاك فرد ضعيف ووحيد - في الظاهر - وبخطط أعدّها الحسدُ، ويبذلون أقصى جهودهم لهذا الأمر، ولكن نفس هذا العمل - ودون شعور وارادة منهم - بات سبباً في تربّعه على سرير الملك وصيرورته آمراً على البلد الكبير "مصر" ثمّ يأتي إِخوته في النهاية ليطأطئوا برؤوسهم إِعظاماً له، وهذا يدلّ على أن الله إِذا أراد أمراً فهو قادر على أن يجريه حتى على أيدي من يخالفون ذلك الأمر، ليتجلّى أن الإِنسان المؤمن الطاهر ليس وحيداً في هذا العالم، فلو سعى جميع أفراد هذا العالَم إلى إزهاق روحه والله لا يريد ذلك، فانهم لا يستطيعون أن يسلبوا منه شعرة واحدة.
كان ليعقوب اثنا عشر ولداً، واثنان منهم: يوسف وبنيامين وهما من أُم واحدة اسمها راحيل، وكان يعقوب يولي هذين الولدين محبّة خاصّة، لا سيما يوسف.
لأنّهما أوّلا: أصغر أولاده، وبالطبع فهما يحتاجان إلى العناية والرعاية والمحبة.
وثانياً: لأنّ أُمّهما ارتحلت من الدنيا - طبقاً لبعض الرّوايات - وبعد هذا كلّه كانت بوادر النبوغ والذكاء والحادّ ترتسم على يوسف، وهذه الأُمور أدّت إلى أن أن يولي يعقوب ابنه هذا عناية أكثر.
إِلاّ أن الإِخوة الحساد - دون أن يلتفتوا إلى هذه الجهات - تألّموا من حبّ أبيهم ليوسف وأخيه، وخاصّة بعد اختلافهم في الاُم والمنافسة الطبيعية المترتبة على هذا الأمر.
لهذا اجتمعوا فيما بينهم وتدارسوا الأمر وصمموا على المؤامرة (إِذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة)(1).
وحكموا على أبيهم من جانب واحد بقولهم: (إِن أبانا لفي ضلال مبين).
إِن نار الحسد والحقد لم تدعهم ليفكروا في جميع جوانب الأمر ليكتشفوا دلائل علاقة الحبّ التي تربط يعقوب بولديه يوسف وبنيامين، لأنّ المنافع الخاصّة لكل فرد تجعل بينه وبين عقله حجاباً فيقضي من جانب واحد لتكون النتيجة "الضلال عن جادة الحق والعدل" وبالطبع فإنّ اتهامهم لأبيهم بالضلالة، لم يكن المقصود منها الضلالة الدينية، لأنّ الآيات الآتية تكشف عن اعتقادهم بنبوّة أبيهم، وإِنما استنكروا طريقة معاشرته فحسب.
ثمّ أدّى بهم الحسد إلى أن يخططوا لهذا الأمر، فاجتمعوا وقدموا مقترحين وقالوا: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً - أرسلوه إلى منطقة بعيدة - يخل لكم وجه أبيكم).
ومن الحق أن تشعروا بالذنب والخجل في وجدانكم لأنّكم تقدمون على هذه الجناية في حق أخيكم الصغير، ولكن يمكن أن تتوبوا وتغسلوا الذنب (تكونوا من بعده قوماً صالحين).
وهناك احتمال آخر لتفسير هذه الآية هو أنّكم إِذا أبعدتم أخاكم عن عيني أبيكم يصلح ما بينكم وبين أبيكم وتذهب أتعابكم ويزول أذاكم من هذا الموضوع، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر!
وعلى كل حال فإنّ هذه الجملة تدلّ على إِحساسهم بالذنب من هذا العمل، وكانوا يخافون الله في أعماق قلوبهم، ولذلك قالوا: نتوب ونكون من بعده قوماً صالحين.
ولكن المسألة المهمة هنا هي أنّ الحديث عن التوبة قبل الجريمة - في الواقع - هو لأجل خداع "الوجدان" وإِغرائه وفتح الباب للدخول إلى الذنب، فلا يعدّ دليلا على الندم أبداً.
وبتعبير آخر: إِنّ التوبة الواقعية هي التي توجِد بعد الذنب حالة من الندم والخجل للإِنسان، وأمّا الكلام في التوبة قبل الذنب فليس توبة.
وتوضيح ذلك أنّه كثيراً ما يقع أن الإِنسان حين يواجه الضمير و"الوجدان" عند الإِقدام على الذنب، أو حين يكون الإِعتقاد الديني سدّاً وحاجزاً أمامه يمنعه عن الذنب وهو مصمم عليه، فمن أجل أن يجتاز حاجز الوجدان أو الشرع بيسر، يقوم الشخص بخداع نفسه وضميره يأتي سوف أقف مكتوف اليدين بعد الذنب، بل سأتوب وأمضي إلى بيت الله وأؤدي الأعمال الصالحة، وسأغسل جميع آثار الذنوب.
أي إِنّه في الوقت الذي يرسم الخطة الشيطانية للإِقدام على الذنب، يرسم خطة شيطانية أُخرى لمخادعة الضمير والوجدان... وللإِعتداء على عقيدته! فإلى أيّ درجة تبلغ هذه الخطة من السوء بحيث تمكّن الإِنسان من تحقيق الجناية والذنب وكسر الحاجز الديني الذي يقف أمامه!!
إِنّ إِخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق أيضاً.
المسألة الدقيقة الأُخرى في هذه الآية: أنّهم قالوا: (يخلُ لكم وجه أبيكم)ولم يقولون: يخلُ لكم قلب أبيكم، وذلك لأنّهم لم يطمئنّوا إلى أنّ أباهم ينسى يوسف بهذه السرعة... فيكفي أن يتوجه إِليهم أبوهم، ولو ظاهراً!
وهناك احتمال آخر لهذا التعبير، وهو أنّ الوجه والعينين نافذتان إلى القلب، فمتى ما خلا الوجه لهم فإنّ القلب سيخلو ويتوجه إِليهم بالتدريج.
ولكن كان من بين الأُخوة من هو أكثر ذكاءً وأرق عاطفة ووجداناً، لأنّه لم يرض بقتل يوسف أو إِرساله إلى البقاع البعيدة التي يُخشي عليه من الهلاك فيها... فاقترح عليهم اقتراحاً ثالثاً، وهو أن يلقى في البئر (بشكل لا يصيبه مكروه) لتمرّ قافلة فتأخذه معها، ويغيب عن وجه أبيه ووجوههم، حيث تقول الآية في هذا الصدد (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجبّ يلتقطه بعض السيّارة إِن كنتم فاعلين...).
ملاحظات
1 - "الجبّ" معناه "البئر" التي لم تنضّد بالطابوق والصخور، ولعلّ أغلب آبار الصحراء على هذه الشاكلة.
و"الغيابة" المخبأ من البئر الغائب عن النظر ولعلّ هذا التعبير يشير إلى أن الآبار الصحراوية يصنع في قعرها مكان قريب من الماء، بحيث لو أراد أحد النزول إلى البئر ليستفيد من الماء، فإنّه يستطيع أن يجلس هناك ويملأ دلوه من ذلك الماء دون أن ينزل هو في الماء، وبالطبع فإنّ من ينظر البئر من فوقها لا يرى ذلك المكان ولذلك سمي "غيابة"(2).
2 - لا شك أنّ اقتراح هذا القائل (ألقوه في غيابة الجُبِّ) لم يكن الهدف منه موت يوسف في البئر، بل بقاءه سالماً لتنقذه القافلة عند مرورها على البئر للإِستسقاء.
3 - يستفاد من جملة (إِن كنتم فاعلين) أنّ القائل لم يكن يرغب - أساساً - حتى بهذا الاقتراح ولعله كان لا يوافقهم على إِيذاء يوسف أصلا.
4 - هناك اختلاف بين المفسّرين في اسم هذا الأخ القائل (لا تقتلوا يوسف)فقال بعضهم: اسمه "روبين" وكان أذكاهم، وقال بعضهم: اسمه "يهودا" وقال آخرون: اسمه "لاوى".
5 - أثر الحسد المدمّر في حياة الناس
الدرس الآخر الذي نتعلّمه من هذه القصّة، وهو أنّ الحسد يمكن أن يدفع الإِنسان حتى إلى قتل أخيه، أو ايجاد المشاكل له، فنار الحسد إِذا لم يمكن إِخمادها فإنّها ستحرق صاحبها بالإِضافة إلى إِحراق الآخرين بها.
وأساساً إِذا حرم الإِنسان من نعمة أنعمها الله على عبد سواه، فإنّه سيكون امام أربع حالات مُختلفة.
الأُولى: أن يتمنّى أن ينعم الله عليه مثل ما أنعم على غيره، وهذه الحالة تدعى "الغبطة" وهي جديرة بالثناء والمدح، وليس لها أثر سيء، لأنّها تدعو صاحبها للسعي والجدّ والمثابرة حتى ينال مثل ما نال المغبوط.
الثّانية: أن يتمنّى أن تُسلب هذه النعمة عن الآخرين، ويسعى من أجل تحقيق هذا التمني، وهذه هي الحالة المذمومة الموسومة "بالحسد" التي تدعو صاحبها إلى التخريب وسلب النعمة عن الآخرين، دون أن تدعوه لأنّ يطلب من الله مثل ما أعطي غيره من النعم.
الثّالثة: أن يتمنّى أن تكون هذه النعمة له فقط ويُحرم الآخرون منها وهذه الحالة تُسمّى "البُخل" والأنانية التي تدعو الإِنسان أن يطلب شيئاً لنفسه، ويلتذّ من حرمان الآخرين.
الرّابعة: أن يتمنّى ويحب تنعّم الآخرين بهذه النعمة وإن كان محروماً منها، وهو مستعدّ أن يقدّم ما عنده من أجلهم... وبغض النظر عن منافعه الشخصية، وهذه الحالة الرفيعة هي ما يسمّى بـ"الإِيثار" التي هي من أهم الصفات الإِنسانية الحميدة.
وعلى كل حال فإنّ الحسد لا يقتصر على قتل إِخوة يوسف لأخيهم فحسب، بل قد يوصل الإِنسان إلى قتل نفسه.
ولهذا نجد في الأحاديث الإِسلامية تعابير مؤثرة تدعو إلى مكافحة هذه الرّذيلة، وعلى سبيل المثال نورد منها ما يلي:
1 - في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "إِنّ الله نهى موسى عن الحسد وقال له: إِنّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمتُ بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي"(3).
2 - ونقرأ حديثاً للإِمام الصادق (عليه السلام) يقول: "آفة الدين الحسد والعجب والمفاخرة" كما نقرأ له حديثاً يقول: "إِنّ المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط"(4).
6 - كما نستنتج درساً آخر من هذا المقطع في القصّة، وهو أنّ الوالدين ينبغي أن يلاحظا أبناءها الآخرين عند إِبراز عنايتهما ومحبّتهما لواحد منهم، فبالرغم من أن يعقوب لم يرتكب خطأ - دون أيّ شك - بالنسبة لإِبراز علاقته لولديه يوسف وبنيامين، وإِنّما كان كل ذلك وفق حسابات خاصّة.
ولكن هذه الحادثة تكشف لنا أنّه ينبغي أن يكون الإِنسان أكثر إحساساً، في هذه المسألة - من القدر اللازم.
لأنّ إِبراز العلاقة لبعض الأبناء دون بعض توجد عقدةً في نفوس الآخرين، إلى درجة أنّها تجرّهم إلى كل عمل مخرّب، حيث يجدون شخصياتهم منهزمة ولابدّ من تحطيم شخصية أخيهم للتعويض عن هذه الهزيمة، فيكون الإِقدام على هذا العمل دون لحاظ الرحمية ووشائج القربى.
وإِذا لم يستطع الإِنسان أن يقوم بعمل معاكس، فإنّه يظل يلوم نفسه ويحرضها حتى يبتلى بالمرض النفسي.
وما زلت أذكر أنّه كان لي صديق قد مرض ولده الصغير، فأوصى ولده الكبير برعايته، وأخذ الأبُ يولي ولده الصغير محبةً وشفقة فائضة "لأنّه مريض".
فلم تمض فترة حتى مرض هذا الابن الكبير بمرض نفسي مجهول، قلت لذلك الصديق العزيز: ألا تفكّر أنّ أساس المرض هو عدم العدالة بين ولديك... لكنّه لم يصدّق، وأخيراً راجع الطبيب النّفساني المختصّ فقال: إِن ابنك ليس مريضاً بمرض خاصّ، وإِنّما أساس مرضه هو اهتمامك بأخيه وعدم اهتمامك به، وهو يحس بأنّ شخصيته متعطشة للحنان والحبّ، في حين أنّ أخاه لم يحرم منهما.
وفي هذا الصدد نقرأ في الرّوايات الإِسلامية أن الإِمام الباقر (عليه السلام) قال يوماً: "والله إِنّي لأصانع بعض ولدي، وأجلسه على فخذي، وأنكز له المخّ، وأكسر له الكسر، وإِن الحقّ لغيره من ولدي، ولكن مخافة عليه منه ومن غيره، لا يصنعوا به ما فعل بيوسف اخوتُه، وما أنزل الله سورة إِلاّ أمثالا لكي لا يجد بعضنا بعضاً كما حسد يوسفَ إِخوتُه، وبغوا عليه، فجعلها رحمةً على من تولاّنا، ودان بحبّنا وحجّة على أعدائنا ومن نصب لنا الحرب والعداوة"(5).
1- هود، 86.
2- الليل، 12.
3- الغاشية، 21.
4- الشمس، 8.
5- الذاريات، 56.