سُورَة يُوسُفْ

مكيّة وعَدَدُ آيَاتَها مَائة وَاحدى عشرة آية

بداية سورة يوسف

قبل الدخول في تفسير آيات هذه السورة ينبغي ذكر عدّة أمور:

1 - لا إِشكال بين المفسّرين في أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، سوى ما نُقل عن ابن عباس أنّ أربع آيات مدنية (الآيات الثلاث في أوّل السورة والآية السّابعة منها).

ولكن التدقيق في ارتباط هذه الآيات بعضها مع البعض الآخر في هذه السورة يجعلنا غير قادرين على التفكيك بينها، فاحتمال نزول هذه الآيات الأربع في المدينة - على هذا الأساس - بعيد جدّاً.

2 - جميع آيات هذه السورة سوى الآيات القليلة التي تقع في نهاية السورة تبيّن قصّة نبيّ الله يوسف (عليه السلام).

القصّة الطّريفة والجميلة والتي تحمل بين طيّاتها العِبَر.

ولذلك سمّيت هذه السورة باسم "يوسف" وبهذه المناسبة - أيضاً - ورد ذكر يوسف - من مجموع (27) مرّة في القرآن - (25) مرّة في هذه السورة ومرّة واحدة في سورة غافر الآية (34) - ومرّة أُخرى في سورة الأنعام الآية (84).

ومحتوى هذه السورة - على خلاف سور القرآن الأُخرى - مرتبط بعضه ببعض، ويبيّن جوانب مختلفةم من قصّة واحدة وردت في أكثر من عشرة فصول، مع بيان أخاذ موجز، عميق، وطريف ومثير.

وبالرغم من أنّ القصّاصين غير الهادفين، أو من لهم اغراض رخيصة سعوا إلى أن يحوّلوا هذه القصّة المهذّبة إلى قصّة عشق يحرك أهل الهوى والشهوة!!

وأن يمسخوا الوجه الواقعي ليوسف (عليه السلام) بحيث بلغت الحال أن يصوروا "فيلماً سينمائياً" وينشروه بصورة مبتذلة... إِلاّ أنّ القرآن - وكلّ ما فيه أسوة وعبرة - عكس في ثنايا هذه القصّة أسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى والإِيمان، حتى لو أنّ إِنساناً قرأها عدة مرات فإنّه يتأثر - بدون اختيار - بأسلوبها الجذّاب في كل مرّة.

ولذا فقد عبّر القرآن عنها بـ(أحسن القصص) وجعل فيها العبر للمعتبرين (أولي الألباب).

3 - التدقيق في آيات هذه السورة يكشف هذه الحقيقة للإِنسان، وهي أنّ القرآن معجز في جميع أبعاده، لأنّ الأبطال الذين يقدمهم في قصصه أبطال حقيقيّون لا خياليّون، وكل واحد في نفسه منهم منعدم النظير:

فإِبراهيم (عليه السلام): البطل الذي حطّم الأصنام بروحه العالية التي لا تقبل المساومة مع الطغاة.

ونوح (عليه السلام): بطل الصبر والإِستقامه والشفقة والقلب المحترق في ذلك العمر الطويل المبارك.

وموسى (عليه السلام): البطل المربّي لقومه اللجوجين، والذي وقف بوجه فرعون المتكبر الطاغي.

ويوسف (عليه السلام): بطل الورع والتقوى والطهارة... أمام امرأة محتالة جميلة عاشقة.

بعد هذا كلّه تتجلّى القدرة البيانية للوحي القرآني بصورة تحيّر الإِنسان، لأنّ هذه القصّة - كما نعرف - تنتهي في بعض مواردها إلى مسائل العشق ودون أن يمسخها القرآن أو يتجاوزها يتعرض إلى الأحداث في مسرحها بدقة بحيث لا يحس السامع شيء غير مطلوب فيها.

ويذكر القضايا بأجمعها في المتن، ولكن تحفّها أشعة قوية من التقوى والطهارة.

4 - قصّة يوسف قبل الإِسلام وبعده

لا شكّ أنّ قصّة يوسف كانت مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الإِسلام، لأنّها مذكورة في (14) فصلا منسفر التكوينفي التوراة بينالفصل 37 - 50ذكراً مفصلا.

وبطبيعة الحال فإنّ المطالعة الدقيقة في هذه الفصول الأربعة عشر تكشف مدى الإِختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن.

وبالمقارنة بين نصّ التوراة ونصّ القرآن نجد أنّ نصّ القصّة في القرآن في غاية الصدق وتخلو من أي خرافة.

وما يقوله القرآن للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (وإِن كنت من قبله لمن الغافلين) يشير إلى قصّة يوسف التي عبّر عنها بأحسنِ القصص، حيث لم يكن النّبي مطّلعاً على حقيقتها الخالصة.

ويظهر من التوراة أنّ يعقوب (عليه السلام) لما رأى قميص يوسف ملطخاً بالدم قال: هذا قميص ولدي وقد أكله الحيوان المفترس، فيوسف مّمزق الأحشاء ثمّ خرّق يعقوب ثوبه وشدّ الحزام على ظهره وجلَسَ أيّاماً للبكاء والنواح على يوسف، وقد عزّاه جميع أبنائه ذكوراً وإِناثاً إِلاّ أنه امتنع أن يقبل تعزيتهم وقال: سأُدفن في القبر حزناً على ولدي.

بيد أنّ القرآن يبيّن: إِنّ يعقوب لم يصدّق ما قاله أولاده، ولم يفزع ولم يجزع لمصيبة ولده يوسف، بل أدّى ما عليه من سنّة الأنبياء من الصبر والتوكل على الله، وقال لأبنائه: (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) وإِن كان قلبه يحترق على فراق ولده وعيناه تدمعان من أجله حتى ابيضتا وعميتا، ولكن - وكما يعبر القرآن - لم يقم بأي عمل من قبيل تخريق الثوب والنواح وشدّ الحزام على ظهره - والذي كان علامة للمصيبة و"العزاء" - وإِنّما قال: "صبر جميل" وكتم حزنه "فهو كظيم".

وعلى كل حال فإنّ هذه القصّة - بعد الإِسلام - تناقلتها أقلام مؤرخي الشرق والغرب... وأحياناً مع أغصان وأوراق إِضافية.

الأنبياء؟!

إِنّ من خصائص قصّة يوسف البارزة أنّ هذه القصّة ذكرت في مكان واحد من القرآن، على خلاف قصص الأنبياء التي ذكرت على شكل فصول مستقلة في سور متعددة من القرآن.

والحكمة في ذلك تعود إلى أن تفكيك فصول هذه القصّة مع ملاحظة وضعها الخاص يفقدها ترابطها وانسجامها، فلهذا ينبغي أن تذكر كاملة في مكان واحد للحصول على النتيجة المتوخاة وعلى سبيل المثال فان الرؤيا وما ذكره أبوه من تعبير في أوّل هذه السورة يفقد معناه دون ذكر نهايتها.

لذلك نقرأ في أواخر هذه السورة، حين جاء يعقوب وإِخوة يوسف إلى مصر وخرّوا له سجداً قال يوسف ملتفتاً إلى أبيه: (يا أبت هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربّي حقّاً)(1).

هذا النموذج يوضح الإِرتباط الوثيق بين بداية السورة ونهايتها، في حين أنّ قصص الأنبياء الآخرين ليست على هذه الشاكلة، ويمكن درك كل واحدة من خلال فصولها.

والخصيصة الأُخرى خصائص هذه السورة هي أنّ قصص الأنبياء التي وردت في السور الأُخرى من القرآن تبيّن عادة مواجهة الأنبياء لقومهم المعاندين والطغاة، ثمّ تنتهي الحالة إلى إِيمان جماعة بالأنبياء ومخالفة جماعة أُخرى لهم واستحقاقهم عذاب الله وعقابه.

أمّا في قصّة يوسف فلا كلام عن هذا الموضوع، بل أكثر ما فيها بيان حياة يوسف نفسه ونجاته من المزالق الخطيرة التي تنتهي أخيراً إلى استلامه سدّة الحكم، وهي في حدّ ذاتها "أنموذج" خاص.

6 - فضيلة سورة يوسف

وردت في الرّوايات الإِسلامية فضائل مختلفة في تلاوة هذه السورة، ونقرأ من ضمنها حديثاً عن الإِمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: "من قرأ سورة يوسف في كل يوم أو في كل ليلة، بعثُه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه فزع يوم القيامة، وكان من خيار عباد الله الصالحين"(2).

إِنّ الرّوايات التي وردت في فضائل سور القرآن - كما قلنا مراراً - ليس معناها القراءة السطحيّة دون تفكر وعمل، بل تلاوة تكون مقدمة للتفكر... التفكر الذي يجر إلى العمل، ومع ملاحظة محتوى هذه السورة يتّضح أن من يستلهم خطة حياته من هذه القصّة، ويعفّ نفسه أمام طوفان شديد من الشّهوات والمال والجاه والمقام، إلى درجة يرى بها حفرة السجن المظلمة مقرونة بطهارة الثوب أفضل من الحياة في قصور الملوك الملوّثة، فإنّ مَثَل هذا الشخص في جمال روحه كجمال يوسف، وما من خفيّ إِلاّ ظهر يوم القيامة... وسيجد له جمالا مذهلا ويكون في صف عباد الله الصالحين.

وممّا يلزم ذكره أنّه ورد في عدد من الأحاديث النهي عن تعليم هذه السورة "للنساء"، ولعلّ السرّ في ذلك هو ما في الآيات المرتبطة بامرأة عزيز مصر... فبالرغم من سرد القصّة في بيان عفيف، إِلاّ أنّها سبب لتحريك بعض النساء أيضاً... وقد جاء التأكيد على تعليم سورة "النّور" المشتملة على آيات الحجاب للنساء بدلا من سورة يوسف.

ولكن سند هذه الرّوايات بشكل عام لا يُعتمد عليه، إِضافة إلى ذلك فقد ورد في بعض الرّوايات الأُخرى خلاف ذلك حيث ترغّب في تعليم هذه السورة للعائلة.

وبعد هذا كلّه فإنّه التدقيق في آيات هذه السورة يكشف أنّ هذه السورة، ليس فيها أيّة نقطة سلبية بالنسبة للنساء، وليس هذا فحسب، بل إِن ماجرى لإمرأة عزيز مصر، درسٌ فيه عبرة لجميع النسوة اللائي يبتلين بالوساوس الشيطانيّة.


1- الآية، 238.

2- مجمع البيان في تفسير الآية.