الآيتان 118 - 119

﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَحِدَةً وَلاَيَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) ﴾

التّفسير

في الآية الأُولى محل البحث إِشارة إلى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتيّة لسائر المسائل المرتبطة بالإِنسان... وهي مسألة الإِختلاف والتفاوت في بناء الإِنسان روحاً وفكراً وجسماً وذوقاً وعشقاً، ومسألة حرية الإِرادة والإِختيار.

تقول الآية (ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدةً ولا يزالون مختلفين).

لئلا يتصور أحد من الناس أنّ تأكيد الله وإِصراره على طاعة أمره دليل على عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.

نعم، لم يكن - أي مانع - أن يخلق جميع الناس بحكم إِلزامه وإِجباره على شاكلة واحدة، ويجعلهم مؤمنين بالحق ومجبورين على قبول الإِيمان به... لكن مثل هذا الإِيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد... فالإِيمان القسري الذي ينبع من هدف غير إرادي لايكون علامة على شخصية الفرد ولا وسيلة للتكامل، ولا يوجب الثواب كما هو الحال في خلق النحل خلقاً يدفعها بحكم الغريزة إلى أن تجمع الرحيق من الأزهار... وخلق بعوضة الملاريا خلقاً يجعلها تستقر في المستنقعات، ولا يمكن لأيّ منهما أن تتخلى عن طريقتها.

إِلاّ أنّ قيمة الإِنسان و امتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة، وهي حرية الإِرادة والإِختيار، وكذلك امتلاك الأذواق والأطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسماً من المجتمع ويؤمّن بُعداً من أبعاده.

ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب أمر طبيعي مترتب على حرية الارادة ويكون سبباً لأنّ تقبل جماعة طريق الحق وتتبع جماعة أُخرى الباطل، إِلاّ أن يتربى الناس تربية سليمة في احضان الرحمة الالهية ويتعلموا المعارف الحقة بالاستفادة من مواهب الله تعالى لهم... ففي هذه الحال، ومع جميع ما لديهم من اختلافات، ومع الإِحتفاظ بالحريّة والإِختيار، فإنّهم سيخطون خطوات في طريق الحق وإِن كانوا يتفاوتون في هذا المسير.

ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الأُخرى: (إِلا من رحم ربُّك) ولكن هذه الرحمة الإِلهية ليست خاصّة بجماعة معينة، فالجميع يستطيعون "شريطة رغبتهم" أن يستفيدوا منها (ولذلك خلقهم).

الاشخاص الذين يريدون أن يستظلوا برحمة الله فإنّ الطريق مفتوح لهم... الرحمة التي أفاضها الله لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.

ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة، فإنّ أبواب الجنّة والسعادة الدائمة تفتح بوجوههم، وإلاّ: فلا: (وتمت كلمة ربّك لأملأن جهنم من الجنّة والناس أجمعين).

ملاحظات

1 - حرية الإِرادة هي أساس خلق الإِنسان ودعوة جميع الأنبياء، وأساساً لا يستطيع الإِنسان بدونها أن يخطو ولو خطوة واحدة في مسير التكامل "التكامل الإِنساني والمعنوي" ولهذا فقد أكّدت آيات متعددة على أنّه لو شاء الله أن يهدي الناس بإِجباره لهم جميعاً لفعل، لكنّه لم يشأ.

فيما يتعلق بالله هو الدعوة إلى المسير الحق وتعريف الطريق ووضع العلامات، والتنبيه، على ما ينبغي الحذر منه وتعيين القائد للمسيرة البشرية والمنهج فحسب.

يقول القرآن الكريم: (إِنّ علينا للهدى)(1) كما يقول أيضاً (إِنّما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر)(2) ويقول في سورة الشمس: (فألهمها فجورها وتقواها)(3)ونقرأ أيضاً في سورة الدهر الآية (رقم 4): (إِنّا هديناه السبيل إِمّا شاكراً وإِمّا كفوراً)فعلى هذا فإِن الآيات محل البحث من أوضح الآيات التي تؤكّد على حرية الإِرادة ونفي مذهب الجبر، وتدل على أنّ التصميم النهائي هو بيد الإِنسان.

2 - في الهدف من الخلق والوجود، في آيات القرآن بيانات مختلفة، وفي الحقيقة يشير كل واحد منها إلى بعد من أبعاد هذا الهدف، من هذه الآيات (وما خلقت الجن والإِنس إِلاّ ليعبدون)(4) أي ليتكاملوا في مذهب العبادة وليبلغوا أعلى مقام للإِنسانية في هذا المذهب.

ونقرأ في مكان آخر (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا)(5).

أمّا في الآية محل البحث فيقول: (ولذلك خلقهم)... وكما تلاحظون فإنّ جميع هذه الخطوط تنتهي إلى نقطة واحدة، وهي تربية الناس وهدايتهم وتقدمهم وتكاملهم، وكل ذلك يعدّ الهدف النهائي للخلق.

وفائدة هذا الهدف تعود للإِنسان نفسه لا إلى الله، لأنّ الله وجود مطلق لا نهاية له من جميع الجهات، ومثل هذا الوجود لا نقص فيه ليرفعه ويزيله بالخلق.

3 - وفي نهاية الآية الأخيرة تأكيد على الأمر الالهي بملء جنهم من الجن والإِنس أجمعين، وبديهي أنّ هذا الأمر المحتوم فيه شرط واحد وهو الخروج من دائرة رحمة الله، والتقهقر عن هداية الرسل والادلاّء من قِبَلهِ، وبهذا الترتيب فإنّ هذه الآية لا يعتبر دليلا على مذهب الإِجبار بل هي تأكيد جديد على مذهب الإِختيار.


1- تفسير نور الثقلين، ج2، ص 398.

2- نهج البلاغة، الخطبة 86.

3- مكارم الاخلاق، ص 65.

4- تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 398.

5- "المِرية" على وزن "جِزيَة" كما تأتي على وزن "قَرْيَة" ومعناها التردد في التصميم على أمر ما... وقد قال البعض: إنّها تعني الشكّ المقترن بالتُهمة، والجذر الأصلي لهذه الكلمة معناه عصر ثدي الناقة بعد احتلابها. على أمل أن يكون شيء من اللبن لا يزال باقياً في الثدي، ولأنّ هذا العمل منشؤهُ التردد والشك فلذلك أطلقت الكلمة على كل ما فيه شكّ وتردد.