الآيات 109 - 112
﴿فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاَءِ مَايَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوص (109) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيب (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَّـمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَـلَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَتَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) ﴾
التّفسير:
الاستقامة والثّبات:
هذه الآيات - في الحقيقة - بمثابة تسلية لخاطر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أنّها نازلة لبيان وظيفته ومسؤوليته، وفي الواقع إِنّ من أهم النتائج التي يُتوصل إِليها من القصص السابقة للأُمم الماضية هي أن لا يكترث النّبي ومن معه من أتباعُه المؤمنون حقّاً من كثرة الأعداء، ولا يخافوا منهم، ولا يشكّوا أو يتردّدوا في هزيمة عَبَدة الأصنام والظالمين الذي يقفون بوجوههم، وأن يواصلوا طريقهم ويعتمدوا على الله واثقين به.
لذلك يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (فلاتكُ في مِرية ممّا يعبدُ هؤلاء ما يعبدون إِلاّ كما يعبدُ آباؤهم)(1).
ويقول بعدها مباشرةً: (وإِنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص) على أنّ جملة موفوهم نصيبم تعني أداء الحق كاملا، لكن ذكر كلمة غير منقوص للتأكيد أكثر على هذه المسألة.
وفي الحقيقة إِنّ هذه الآية تجسّم هذه الحقيقة، وهي أنّ ما قرأناه من قصص الأُمم السابقة لم يكن أسطورة، كما أنّها لا تختص بالماضين، فهي سنّة أبدية وخالدة وهي لجميع الناس ماضياً وحاضراً ومستقبلا.
غاية ما فيه الأمر أنّ هذا العقاب في كثير من الأُمم السابقة نزل على شكل بلايا مهولة وعظيمة، لكنّه وجد شكلا آخر في شأن أعداء نبي الإِسلام، وهو أنّ الله أعطى القدرة والقوة العظيمة لنبيّه وأصحابه المؤمنين بحيث استطاع أن يهزم أعداءه الظالمين اللجوجين الذين اصروا على انحرافهم وغرورهم.
ويسلّي القرآن قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة أُخرى، فيحدّثه عن موسى وقومه قائلا: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه)... ويقول إِذا ما رأيت أنّ الله لا يعجل العذاب على قومك، فلأنّ مصلحة الهداية والتعليم والتربية لقومك توجب ذلك وإِلاّ فانّ القرار الالهي المسبق يقتضي التعجيل بعملية التحكيم والقضاء وبالتالي أنزال العقاب (ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم وإِنّهم لفي شكٍّ منه مريب)وبالرغم من ذلك فهم في شك من هذا الامر(2).
كلمة "مريب" مشتقّة من "الريب" ومعناه الشكّ المقترن بسوء الظن والنظرة السيئة والقرائن المخالفة، وعلى هذا فيكون مفهوم هذه الكلمة أنّ عبدة الأصنام ما كانوا يترددون في مسألة حقيقة القرآن أو نزول العذاب على المفسدين فحسب، بل كانوا يدّعون بأنّ لديهم قرائن تخالف ذلك أيضاً.
أمّا "الراغب" فيقول في "مفرداتة": إِنّ معنى الريب هو الشك الذي يرفع عنه الحجاب بعدئذ ويعود إلى اليقين، فعلى هذا يكون مفهوم الآية أنّ الحجاب سيكشف عاجلا عن حقانية دعوتك وكذلك عن عقاب المفسدين وتظهر حقيقة الأمر!
ويضيف القرآن لمزيد التأكيد (وأنّ كلاًّ لما ليوفينّهم ربّك أعمالهم) وهذا الأمر ليس فيه صعوبة على الله ولا حرج إِذ (إِنّه بما تعملون خبير).
الطريف أنّ القرآن يقول: (ليوفّينهم أعمالهم) ليشير مرّة أُخرى إلى مسألة تجسّم الأعمال وأنّ الجزاء والثواب هما في الحقيقة أعمال الإِنسان نفسه التي تتخذ شكلا آخر وتصل إِليه ثانيةً.
وبعد ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة ورمز نجاحهم ونصرهم، وبعد تسلية قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية إِرادته، يبيّن القرآن - عن هذا الطريق - أهمّ دُستور أُمر به النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو (استقم كما أُمرت).
"استقم" في طريق الإِرشاد والتبليغ... استقم في طريق المواجهة والمواصلة... استقم في أداء الوظائف الإِلهية ونشر التعليمات القرآنية.
ولكن هذه الإِستقامة ليست لينال فلانٌ أو فلان مستقبلا زاهراً، وليست للرياء وما شابه ذلك، وليست لإِكتساب عنوان البطولة، ولا اكتساب "المقام" أو "الثروة" أو "الموفقية" أو "القدرة"، بل هي لمجرّد طاعة الله واتباع أمره (كما أُمرت).
كما أنّ هذه الإِستقامه ليست عليك وحدك، فعليك أن تستقيم أنت (ومن تاب معك) استقامة خاليةً من كل زيادة ونقصان وإِفراط أو تفريط (ولا تطغوا)إِذ (إِنّه بما تعملون بصير) ولا تخفى عليه حركة ولا قول ولا أي خطّة أُخرى... الخ.
المسؤولية الكبيرة!!
نقرأ في حديث معروف عن ابن عباس أنّه قال: ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كانت أشدّ عليه ولا أشقّ من هذه الآية.
ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إِليك الشيب يا رسول الله قال: (صلى الله عليه وآله وسلم) "شيبتني هود والواقعة"(3).
ونقرأ في رواية أُخرى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال حين نزلت هذه الآية: "شمّروا شمّرُوا... فما رُئي ضاحكاً..."(4).
والدليل واضح، لانّ أربعة أوامر مهمّة موجودة في هذه الآية يلقي كل واحد منها عبئاً ثقيلا على الكتف.
وأهمها الأمر بالإِستقامة... الإِستقامة (المشتقة من مادة القيام" من جهة أنّ الإِنسان يكون تسلطه وسعيه في عمله حال القيام أكثر... الإِستقامة التي معناها طلب القيام، أي أوجِدْ حالةً في نفسك بحيث لا تجد طريقاً للضعف فيك، فما أصعَبه من أمر وما أشدّه؟!
غالباً ما يكون النجاح في العمل أمراً هيّناً نسبياً... لكن المحافظة على النجاح فيها كثير من الصعوبة... وفي أي مجتمع؟!
في مجتمع متأخر متخلف... في مجتمع بعيد عن العلم والتعقل... في مجتمع لجوج وبين أعداء كثيرين
معاندين... وفي سبيل بناء مجتمع سالم وحضارة انسانية زاهرة فالإِستقامة في هذا الطريق ليس أمراً هيّناً.
والأمر الآخر: أن تحملَ هذه الإِستقامةُ هدفاً إِلـهياً فحسب، وأن تكون الوساوس الشيطانية بعيدة عنها تماماً، أي أن تكتسب هذه الاستقامة أكبر القدرات السياسية والإِجتماعيّة من أجل الله.
والأمر الثّالث: مسألة قيادة أُولئك الذين رجعوا إلى طريق الحق وتعويدهم على الإِستقامة أيضاً.
والأمر الرّابع: المواجهة والمبارزة في مسير الحق والعدالة والقيادة الصحيحة وصدّ كل أنواع التجاوز والطغيان، فكثيراً ما يبدي بعض الناس منتهى الإِستقامة في سبيل الوصول للهدف، لكن لا يستطيعون أن يراعوا مسألة العدالة، وغالباً ما يبتلون بالطغيان والتجاوز عن الحدّ.
أجل... مجموع هذه الأُمور وتواليها على النّبي حمّلته مسؤولية كبرى، حتى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رُئي ضاحكاً... وشيّبته هذه الآية من الهمّ.
وعلى كل حال فإنّ هذا الأمر لم يكن للماضي فحسب، بل هو للماضي والحاضر والمستقبل، وهو للأمس واليوم والغد القريب والغد البعيد أيضاً.
واليوم مسؤوليتنا المهمّة - نحن المسلمين أيضاً، وبالخصوص قادة الإِسلام - تتلخّص في هذه الكلمات الأربعة.
وهي: الإِستقامة، والإِخلاص، وقيادة المؤمنين، وعدم الطغيان والتجاوز.
ودون ربط هذه الأُمور بعضها إلى بعض فإنّ النصر على الأعداء الذين أحاطونا من كل جانب من الداخل والخارج، واستفادوا من جميع الأساليب الثقافية والسياسية والإِقتصادية والإِجتماعية والعسكريّة... هذا النصر لايكون سوى أوهام في مخيلة المسلمين.
1- ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ جزاء الجملة الشرطية محذوف هنا وتقديره هكذا، أفأعدل مع ذلك عمّا أنا عليه من عبادته وتبليغ دينه.
2- ينبغي ذكر هذه المسألة أيضاً وهي أنّ جملة (لا يجرمنّكم) ذات احتمالين: الأوّل: بمعنى لا يحملنكم، ففي هذه الصورة تكون على النحو التالي لا يجرمن فعل و(شقاقي) فاعله، و"كم" الضمير المتصل بالفعل مفعول به أوّل و(أن يصيبكم) مصدر مؤول مفعول ثان فيكون معنى الآية: يا قوم لا يحملنكم شقاقي (مخالفتكم إِياي) أن يصيبكم مصير كمصير قوم نوح وأمثالهم من الأقوام المذكورين. الإِحتمال الثّاني: أنّ (لا يجرمنكم) أي لا يجرنكم إِلى الذنب والإِجرام، ففي هذه الصورة تكون الجملة على النحو التالي، و"لا يجرمن" فعلٌ و(شقاقي) فاعله و"كم" مفعوله و(أنى يصيبكم) نتيجته، ويكون معنى الآية كما ذكرناه في المتن.
3- سفينة البحار، مادة: شعيب.
4- هناك في اللغة العربية أُسلوب يستعمل عند عدم الإِعتناء بشيء ما وذلك على نحو الكناية فيقال مثلا "جعلته تحت قدمي" أو يقال مثلا "جعلته دبر أذني" أو "جعلته وراء ظهري" أو "جعلته ظهرياً" و"الظهر" على زنة "قهر"، والياء بعده ياء النسبة وإِنّما كسرت الظاء فذلك لما يطرأ على الاسم المنسوب من تغيرات.