الآيات 96 - 99
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأَيَـتِنَا وَسُلْطَـن مُّبِين96 إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَِيْهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيد97 يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ98 وَأُتْبِعُوا فِى هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ99﴾
التّفسير
البطل المبارز لفرعون:
بعد إنتهاء قصّة شعيب وأهل مدين، يُشير القرآن الكريم إلى زاوية من قصّة موسى ومواجهته لفرعون وهذه القصّة هي القصّة السابعة من قصص الأنبياء في هذه السورة.
تحدث القرآن الكريم عن قصّة موسى (عليه السلام) وفرعون وبني اسرائيل أكثر من مائة مرّة.
وخصوصية قصّة موسى (عليه السلام) بالنسبة لقصص الأنبياء - كشعيب وصالح وهود ولوط (عليهم السلام) التي قرأناها في ما سبق - هي أنّ أُولئك الأنبياء (عليهم السلام) واجهوا الأقوام الضالين، لكن موسى (عليه السلام) واجه إِضافة إلى ذلك حكومة "ديكتاتور" طاغ مستبدّ هو فرعون الجبار.
وأساساً فإنّ الاصلاح ينبغي أن يبدأ من الاصل والمنبع، وطالما هناك حكومات فاسدة فلن يُبصر أي مجتمع وجه السعادة، وعلى القادة الإِلهيين في مثل هذه المجتمعات أن يدمروا مراكز الفساد قبل كل شيء.
ولكن ينبغي الإِلتفات إلى أنّنا نقرأ في هذا القسم من قصّة موسى زاوية صغيرة فحسب ولكنّها في الوقت ذاته تحمل رسالة كبيرة للناس جميعاً.
يقول القرآن الكريم أوّلا: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين).
"السلطان" بمعنى التسلّط، يستعمل تارةً في السلطة الظاهرية، وأحياناً في السلطة المنطقية، السلطة التي تحاصر المخالف في طريق مسدود بحيث لا يجد طريقاً للفرار.
ويبدو في الآية المتقدمة أنّ "السلطان" استعمل في المعنى الثّاني، والمرادُ بـ "الآيات" هي معاجز موسى الجليلة، وللمفسرين احتمالات أُخرى في هاتين الكلمتين.
وعلى كل حال فإنّ موسى أُرسل بتلك المعجزات القاصمة وذلك المنطق القوي (إِلى فرعون وملإِيه).
وكما قلنا مراراً فإنّ كلمة "الملأ" تُطلق على الذين يملأ مظهرهم العيون بالرّغم من خلوّ المحتوى الداخلي، وفي منطق القرآن تطلق هذه الكلمة غالباً على الوجوه والأشراف والأعيان الذين يحيطون بالمستكبرين وبالقوى الظالمة... إِلاّ أنّ جماعة فرعون الذين وجدوا منافعهم مهددة بالخطر بسبب دعوة موسى، فإنّهم لم يكونوا مستعدين للاستجابة... لمنطقه الحق ومعجزاته (فاتبعوا أمر فرعون).
ولكن فرعون ليس من شأنه هداية الناس إلى الحياة السعيدة أوضمان نجاتهم وتكاملهم: (وما أمر فرعون بِرشيد).
إِنّ هذا نجاح فرعون هذا لم يحصل بسهولة، فقد استفاد من كل أنواع السحر والخداع والتآمر والقوى لتقدم أهدافه وتحريك الناس ضد موسى (عليه السلام)، ولم يترك في هذا السبيل أيّ نقطة نفسية بعيدة عن النظر، فتارةً كان يقول: إِنّ موسى (يريد أن يخرجكم من أرضكم).(1)
وأُخرى كان يقول: (إِنّي أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).(2) فيحرك مشاعرهم وأحاسيسهم المذهبيّة.
وأحياناً كان يتهم موسى، وأُخرى كان يهدّده، وأحياناً يبرز قوّته وشوكته بوجه الناس في مصر، أو يدعي الدهاء في قيادته بما يضمن الخير والصلاح لهم.
ويوم الحشر حين يأتي الناس عرصات القيامة فإنّ زعماؤهم وقادتهم في الدنيا هم الذين سيقودوهم هناك حين يُرى فرعون هناك: (يقدم قومه يوم القيامة) وبدلا من أن ينقذهم ويخلصهم من حرارة المحشر وعطشه يوصلهم إلى جهنم (فأوردهم النّار وبئس الورد المورود) فبدلا من أن يسكَن عطش اتباعه هناك يحرق وجودهم وبدلا من الإِرواء يزيدهم ظمأ إلى ظمأ.
مع ملاحظة أنّ "الورود" في الأصل معناه التحرّك نحو الماء والإِقتراب منه، ولكن الكلمة أُطلقت لتشمل الدخول على كل شيء وتوسّع مفهومها.
و"الورد" هو الماء يرده الإِنسان، وقد يأتي بمعنى الورود أيضاً.
و"المورود" هو الماء الذي يورد عليه، فـ "هم" اسم مفعول، فعلى هذا يكون معنى الجملة بئس الورد والمورود(3) على النحو التالي: النّار بئس ماؤها ماءً حين يورد عليه.
ويلزم ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ العالم بعد الموت - كما قلنا سابقاً - عالم "تتجسم فيه أعمالنا وأفعالنا" الدنيوية بمقياس واسع، فالشقاء والسعادة في ذلك العالم نتيجة أعمالنا في هذه الدنيا، فالاشخاص الذين كانوا في هذه الدنيا قادة الصلاح يقودون الناس إلى الجنّة والسعادة في ذلك العالم، والذين كانوا قادة للظالمين والضالين وأهل النّار يسوقونهم إلى جهنم يتقدمونهم هناك!
ثمّ يقول القرآن: (واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة).
فأسماؤهم الذليلة تثبت على صفحات التاريخ أبداً على أنّهم قوم ضالون وجبابرة، فقد خسروا الدنيا والآخرة وساءت النّار لهم عطاء وجزاءً (وبئس الرفد المرفود)(4).
و"الرفد" في الأصل معناه الإِعانة على القيام بعمل معين، وإِذا أرادوا أن يسندوا شيئاً إلى شيء آخر عبروا عن ذلك بالرفد، ثمّ أطلقت هذه الكلمة على العطاء لأنّه إِعانة من قِبَل المُعطي إلى المُطعى له!
1- وسائل الشيعة، الجزء 7، ص 95، كتاب الصوم باب 57.
2- تفسير البرهان، ج 2، ص 228.
3- "أسر" مشتق من "الإِسراء" وهو المسير ليلا، وذكر الليل في الآية من باب توكيد الموضوع، والقطع معناه ظلمة الليل، إشارة إِلى أن يتحرك والناس نيام أو مشغولون عنه بالشراب وحلك الليل ليخرج وهم في غفلة عنه.
4- في قوله (إِلاَّ امرأتك) هذا الإِستثناء من أي جملة هو؟ للمفسّرين احتمالان: "الأوّل" إنّه يعدّ استثناء من (لاَ يلتفت منكم أحد) ومفهومها أنّ لوطاً وأهله بما فيهم امرأته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم أحد كما أمرهم الرسل، إِلا امرأة لوط فإنّها بحكم علاقتها بقوم لوط وتأثرها على مصيرهم، وقفت لحظة ونظرت إِلى الوراء، وطبقاً لبعض الرّوايات أصابها حجر من الأحجار التي كانت تهوي على المدينة فقُتلت به. "الثاني" إنّه استثناء من جملة (فأسر بأهلك) فيكون معناها أنّ جميع أهله ذهبوا معه ولكن امرأته بقيت في المدينة ولم يأخذها لوط معه، ولكن الإِحتمال الأوّل أنسَبُ.