الآيات 87 - 90

﴿قَالُوا يَـشُعَيْبُ أَصَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَلِنَا مَا نَشَـؤُا إِنَّكَ لاََنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ87 قَالَ يَـقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَـكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الاِْصْلَـحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ88 وَيَـقُوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوح أَوْ قَوْمَ هُود أَوْ قَوْمَ صَـلِح وَمَا قَوْمُ لُوط مِّنكُم بِبَعِيد89 وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ90﴾

التّفسير

المنطق الواهي:

والآن فَلْنَرَ ما كان ردّ القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السّماوي "شعيب".

فبما إنّهم كانوا يتصورون أنّ عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح، ودلالة على أصالة ثقافتهم، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح الوفير عن هذا الطريق قالوا (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا)ونترك حريتنا في التصرف بأموالنا فلا نستطيع الإِستفادة منها (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) إِن هذا بعيد منك (إِنّك أنت الحليم الرشيد)؟!

وهنا ينقدح هذا السؤال وهم لِمَ سألوه عن الصلاة وأظهروا اهتمامهم بها؟!

قال بعض المفسّرين: كان ذلك لأنّ شعيباً كان يكثر من صلاته ويقول للناس:

إِنّ الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكرات.

ولكن هؤلاء الأغبياء الذين لم يعرفوا السرّ والعلاقة بين الصلاة وترك المنكرات، كانوا يسخرون من شعيب وكانوا يقولون له: أهذه الأذكار والأوراد والحركات التي تقوم بها تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ونهمل سنّة السلف وثقافتنا التقليدية أو أن نسلب اختيارنا من التصرف بأموالنا كيف شئنا؟!

واحتمل البعض أنّ "الصلاة" إشارة إلى العقيدة والدين، لأنّها عبارة عن المظهر البارز للدين.

وعلى كل حال لو كان أُولئك يفكرون جيداً لأدركوا هذا الأمر الواقعي وهو أنّ الصلاة توقظ في الإِنسان الإِحساس بالمسؤولية والتقوى ومخافة الله ومعرفة الحقوق، وتذكره بالله وبمحكمة عدل الله، وتنفض عن قلبه غبار حبّ الذات وعبادة الذات! وتصرفه عن هذه الدنيا المحدودة والملوّثة إلى عالم ما وراء الطبيعة، إلى عالم الصالحات وتزكية النفس، ولذلك فهي تخلّصه من الشرك وعبادة الأصنام والتقليد الأعمى للسلف الجاهل وبخس الناس أشياءهم، وعن أنواع الغش والخداع... الخ.

كما ينقدح هنا سؤال آخر، وهو: إِنّ قولهم لشعيب (إِنّك لأنت الحليم الرشيد)هل كان كلاماً واقعياً من منطلق الإِيمان به، أم هو على سبيل الإِستهزاء والسخرية؟!

احتمل المفسّرون الوجهين ولكن مع ملاحظة أسلوب سؤالهم (أصلاتك تأمرك) الذي يستبطن الإِستهزاء، يظهر أنّ هذه الجملة على نحو الإِستهزاء، وهي إِشارة إلى أنّ الإِنسان الحليم الرشيد هو من لم يتعجل القول أو الرأي في أمر دون أن يسبر غوره ويعرف كنهه، والإنسان العاقل الرشيد هو من لم يسحق سنن قومه تحت رجليه ويسلب حريتهم في التصرف بأموالهم، فيظهر أنّك لم تسبر غور الأُمور وليس لديك عقل حصيف وفكر عميق، لأنّ الفكر العميق والعقل يوجبان على الإِنسان ألاّ يرفع يده عن طريقة السلف، ولا يسلب من الآخرين الإِختيار وحرية العمل.

ولكن شعيباً ردّ على من اتّهمه بالسفه وقلّة العقل بكلام متين و (قال يا قوم أرأيتم إِنّ كنت على بينة من ربّي ورزقني منه رزقاً حسناً)(1).

إنّه يريد أن يفهم قومه أنّ في عمله هذا هدفاً معنوياً وإِنسانياً وتربوياً، وأنّه يعرف حقائق لا يعرفها قومه، والإِنسان دائماً عدوّ ما جهل.

ومن الطريف أنّه في هذه الآيات يكرر عبارة (يا قوم) وذلك ليُعبّىء عواطفهم لقبول الحق وليشعرهم بأنّهم منه وأنّه منهم، سواء أكان المقصود بالقوم القبيلة أو الطائفة أو الجماعة أو الأُسرة، أم كان المقصود الجماعة التي كان يعيش وسطهم ويُعدّ جزءاً منهم.

ثمّ يضيف هذا النّبي العظيم قائلا: (وما أُريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)فلا تتصوروا أنني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا المكيال، وأنا أبخس الناس أو أنقص المكيال، أو أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وأنا أفعل ذلك كلّه، كلا فإنّني لا أفعل شيئاً من ذلك أبداً.

ويستفاد من هذه الجملة أنّهم كانوا يتهمون شعيباً بأنّه كان يريد الربح لنفسه، ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحةً ويقول تعقيباً على ما سبق (إِن أُريد إِلاّ الإصلاح ما استطعت).

وهذا هو هدف الأنبياء جميعاً، حيث كانوا يسعون إلى إِصلاح العقيدة، وإِصلاح الأخلاق، وإِصلاح العمل، وإِصلاح العلائق والروابط الإِجتماعية وأنظمتها (وما توفيقي إِلاّ بالله) للوصول إلى هذا الهدف.

وعلى هذا فإِنني، ولأجل أداء رسالتي والوصول إلى هذا الهدف الكبير (عليه توكلت وإِليه أنيب).

وأسعى للإِستعانة به على حل المشاكل، وأتوكل عليه في تحمّل الشدائد في هذا الطريق، وأعود إِليه أيضاً.

ثمّ ينبههم إلى مسألة أخلاقية، وهي أنّه كثيراً ما يحدث للإِنسان أنّه لا يعرف مصالحه وينسى مصيره، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر أو التعصب الأعمى واللجاجة في شيء ما، فيقول لهم (ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي)فتبتلوا بما ابتلى به غيركم و(أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح) وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث أمطرهم الله بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليها سافلها (وما قوم لوط منكم ببعيد) فلا زمانهم بعيد عنكم كثيراً، ولا مكان حياتهم، كما أنّ أعمالكم وذنوبكم لا تقل عن أعمالهم وذنوبهم أيضاً.

و"مدين" التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط، لأنّ الموطنين كلاهما كانا من مناطق "الشامات" وإِذا كان بينهما فاصل زمني، فلم يكن الفاصل بالمقدار الذي يستدعي نسيان تأريخه، وأمّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الإِنحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والإِنحراف الإِقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإِخلال بالنظام الإِجتماعي وإِماتة الفضائل الخُلقية وإِشاعة الإِنحراف، ومن هنا نجد في الرّوايات أحياناً مقارنة الدرهم الربوي المرتبط - بالطبع - بالمسائل الإِقتصادية بالزنا الذي هو تلوّث جنسي(2).

ثمّ يأمر شعيب قومه الضالين بشيئين هما في الواقع ما كان يؤكّد عليه جميع الأنبياء المتقدمين.

الأوّل: قوله: (واستغفروا ربّكم) أي لتطهروا من الذنوب وتجتنبوا الشرك وعبادة الأوثان والخيانة في المعاملات.

والثّاني: قوله: (ثمّ توبوا إِليه) أي ارجعوا إِليه.

والواقع أنّ الإِستغفار توقف في مسير الذنب وغسل النفس، والتوبة عودة إلى الله الكمال المطلق.

واعلموا أنّه مهما يكن الذنب عظيماً والوزر ثقيلا فإنّ طريق العودة إِليه تعالى مفتوح وذلك لأنّ (ربّي رحيم ودود).

وكلمة "الودود" صيغة مبالغة مشتقّة من الود ومعناه المحبّة، وذكر هذه الكلمة بعد كلمة "رحيم" إِشارة إلى أنّ الله يلتفت بحكم رحمته إلى المذنبين التائبين، بل هو إِضافة إلى ذلك يحبّهم كثيراً لأنّ رحمته ومحبته هما الدافع لقبول الإِستغفار وتوبة العباد.


1- "الحليم" مشتق من "الحلم" وهو: الأناة والصبر في سبيل الوصول إِلى هدف مقدّس، والأوّاه في الأصل: كثير التحسّر والآه سواء من الخوف من المسؤولية التي يحملها أو من المصائب، والمنيب من الإِنابة أي الرجوع.

2- راجع تفسير البرهان، ص 226، ج 2.