الآيات 84 - 86

﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُم بِخَيْر وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم مُّحِيط84 وَيَـقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ85 بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنينَ وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفيظ86﴾

التّفسير:

مدين بلدة شعيب...

مع انتهاء قصّة قوم لوط تصل النوبة إلى قوم شعيب وأهل مدين، أُولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام، ولم يعبدوا الأصنام فحسب، بل الدّرهم والدينار والثروة والمال، ومن أجل ذلك فإنّهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.

في بداية القصّة تقول الآيات (وإِلى مدين أخاهم شعيباً) وكلمة "أخاهم" كما أشرنا إِليها سابقاً تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قِبَل الأنبياء لقومهم، لا لأنّهم أفراد قبيلته وقومه فحسب، بل إِضافةً إلى ذلك فإنّه يريد الخيرَ لهم.

ويتحرق قلبه عليهم، فمثله مثل الأخ الودود.

و"مدين" على وزن "مريم" اسم لمدينة شعيب وقبيلته، وتقع المدينة شرق خليج العقبة، وأهلها من أبناء إِسماعيل، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان وفلسطين.

ويطلق اليوم على مدينة "مدين" اسم "معّان" ولكن بعض الجغرافيين أطلقوا اسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.

وورد في التوراة أيضاً اسم "مديان" ولكن تسمية لبعض القبائل، وطبيعي أنّ اطلاق الاسم على المدينة وأهلها أمر رائج(1).

هذا النّبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه - كأي نبيّ في أُسلوبه وطريقته في بداية الدعوة - دعاهم أوّلا إلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو "التوحيد" وقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إِله غيره).

لأنّ الدعوة إلى التوحيد دعوة إلى هزيمة جميع "الطواغيت" والسُنَن الجاهلية ولا يتيسر أيّ إِصلاح اجتماعي أو أخلاقي بدونه.

ثمّ أشار إلى أحد المفاسد الإِقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذ جدّاً، وقال: (ولا تنقصوا المكيال)أي حال البيع والشراء.

و"المكيال" و"الميزان" من ادوات الوزن يعرف بهما وزن المبيع ومقداره، ونقصانه يعني عدم إِيفاء حقوق الناس والبخس في البيع.

ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في أعمالهم ونموذجاً للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.

ويشير هذا النّبي العظيم بعد هذا الأمر إلى علّتين:

العلّة الأُولى: هي قوله (إِنّي أراكم بخير).

يقول أوّلا: إِنّ قبول نصحي يكون سبباً لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الجملة (إِنّي أراكم بخير) أنّ شعيباً يقول لهم: إِنّي أراكم منعمين وفي خير كثير، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام وإضاعة حقوق الناس والكفر بدلا من الشكر على نعم الله سبحانه.

وثانياً: (وإِنّي أخاف عليكم عذاب يوم محيط) بسبب إِصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة... الخ.

وكلمة "محيط" جاءت صفة ليوم، أي يوم شامل ذو إِحاطة، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم، وهذا التعبير فيه إِشارة إلى عذاب الآخرة كما يشير إلى عقاب الدنيا الشامل.

فعلى هذا لا أنتم بحاجة إلى مثل هذه الأعمال، ولا ربّكم غافل عنكم، فينبغي اِصلاح أنفسكم عاجلا.

والآية الأُخرى تؤكّد على نظامهم الإِقتصادي، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال، فهنا يدعوهم إلى إِيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط).

ويجب أن يحكم هذا الأصل "وهو اقامة القسط والعدل، وإِعطاء كل ذي حقّ حقه" على مجتمعكم بأسره.

ثمّ يخطو خطوة أوسع ويقول: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) و"البخس" ومعناه في اللغة التقليل، وجاء هنا بمعنى الظلم أيضاً.

ويطلق على الأراضي المزروعة دون سقي "إِنّها بخس" لأنّ ماءها قليل، حيث تعتمد على ماء المطر فحسب، أو أنّ هذه الأراضي قليلة الإِنتاج بالنسبة إلى الأراضي الزراعية الأُخرى.

وإِذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة إلى رعاية جميع الحقوق الفردية والإِجتماعية ولجميع الملل والنحل، ويظهرُ "بخس الحق" في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحياناً، والتعاون وإِعطاء قرض معين (كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا).

ونجد في نهاية الآية أنّ شعيباً يخطو خطوةً أُخرى أوسع ويقول لقومه: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).

فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والإِعتداء على حقوق الآخرين، والفساد أيضاً يقع في الإِخلال بالموازين والمقاييس الإِجتماعيّة، ويقع أيضاً ببخس الناس أشياءهم وأموالهم، وأخيراً يقع الفساد على الحيثيات بالإِعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.

وجملة (لا تعثوا) معناها "لا تفسدوا" بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد التوكيد على هذا الموضوع.

إِنّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء، وهي أنّه بعد الإِعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح، يُنظر إلى الإِقتصاد السليم بأهمية خاصّة، كما تدلاّن على أنّ الإِخلال بالنظام الإِقتصادي سيكون أساساً للفساد الوسيع في المجتمع.

ثمّ يخبرهم أنّ زيادة الثروة - التي تصل إلى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين - ليست هي السبب في غناكم، بل ما يغنيكم هو (بقيّة الله خير لكم إِنّ كنتم مؤمنين).

التعبير بـ(بقية الله) إِمّا لأنّ الربح الحلال القليل المترشح عن أمر الله فهو "بقية الله" وإِمّا لأنّ الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم الله وبقاء البركات... وإِمّا لأنّه يشير إلى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى إلى الأبد.

فإنّ الدنيا فانية وما فيها لا محاله فان، وتشير الآية (46) من سورة الكهف: (والباقيات الصالحات خير عند ربّك ثواباً وخير أملا) إلى هذا المضمون أيضاً.

والتعبير بقوله: (إِنّ كنتم مؤمنين) إِشارة إلى أنّ هذه الواقعية لا يعرفها إِلاّ المؤمنون بالله وحكمته وفلسفة أوامره.

ونقرأ في روايات متعددة في تفسير (بقية الله) أنّ المراد بها وجود المهدي عجل الله فرجه الشريف، أو بعض الأئمّة الآخرين، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الإِمام الباقر (عليه السلام) في كتاب إِكمال الدين: "أوّل ما ينطق به القائم (عليه السلام) حين يخرج هذه الآية (بقية الله خير لكم إِنّ كنتم مؤمنين) ثمّ يقول: أنا بقية الله وحجّته وخليفته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلم إِلاّ قال: السّلام عليك يا بقية الله في أرضه"(2).

وقد قلنا مراراً إِنّ آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصّة، إِلاّ أنّها تحمل مفاهيم جامعة وكلية، بحيث يمكن أن تكون أثر مصداقاً في العصور والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع أيضاً.

صحيح أنّ المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب، والمراد من (بقية الله) هو الربح ورأس المال الحلال أو الثواب الإِلهي، إِلاّ أنّ كل موجود نافع باق من قبل الله للبشرية، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ (بقية الله) أيضاً.

فجميع أنبياء الله ورسله المكرمين هم (بقية الله) وجميع القادة الحقّ الذين يبقون بعد الجهاد المرير في وجه الأعداء فوجودهم في الأُمّة يُعدّ (بقية الله)وكذلك الجنود المقاتلون إذا عادوا إلى ذويهم من ميدان القتال بعد انتصاهم على الأعداء فهم "بقية الله" ومن هنا فإنّ "المهدي الموعود" (عليه السلام) آخر إِمام وأعظم قائد ثوري بعد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجلى مصاديق (بقية الله) وهو أجدر من سواه بهذا اللقب، خاصّة أنّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام).

وفي نهاية الآية - محل البحث - نقرأ على لسان شعيب (وما أنا عليكم بحفيظ) إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسؤولا على "إِجبار" أحد أبداً.


1- آل عمران، 67.

2- كلمة "رَوْع" على وزن "نَوع" معناها "الخوف والوحشة" وكلمة "رُوْع" على وزن "نوح" معناها "الروح" أو قسم منها الذي هو محل الخوف ومركزه، لمزيد الإِيضاح تراجع المعاجم اللغوية.