الآيات 77 - 80
﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ77 وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاَتِ قَالَ يَـقَوْمِ هَـؤُلاَءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ78 قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَالَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ79 قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إلى رُكْن شَدِيد80﴾
التّفسير
قوم لوط وحياة الخزي:
مرّت في آيات من سورة الأعراف إشارة إلى شيء من مصير قوم لوط، وفسّرنا ذلك في محلّه، وهنا يتناول القرآن الكريم - وبمناسبة ما ذكره من قصص الأنبياء وأقوامهم وبما ورد في الآيات المتقدمة عن قصّة لوط وقومه - قسماً آخر من حياة هؤلاء القوم المنحرفين الضالين ليتابع بيان الهدف الأصلي ألا وهو سعادة المجتمع الإِنساني ونجاته بأسره.
يبيّن القرآن الكريم في هذا الصدد أوّلا... أنّه لما جاءت رسلنا لوطاً طار هلعاً وضاق بهم ذرعاً وأحاط به الهمّ من كل جانب (ولما جاءت رسلنا لوطاً سيىء بهم وضاق بهم ذرعاً).
وقد ورد في الرّوايات الإِسلامية أنّ لوطاً كان في مزرعَته حيث فوجىء بعدد من الشباب الوسيمين الصِباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النّزول عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في مدينته الملوّثة بالإِنحراف الجنسي من جهة أُخرى، كل ذلك أوجب له الهم... ومرّت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره، وتحدث مع نفسه (وقال هذا يوم عصيب).
لإحتمال الفضيحة والتورط في مشاكل عويصة كلمة (سيىء) مشتقّة من ساء، ومعناها عدم الإِرتياح وسوء الحال، و"الذرع" تعني "القلب" على قول، وقال آخرون: معناها "الخُلق" فعلى هذا يكون معنى (ضاق بهم ذرعاً) أنّ قلبه أصيب بتأثر شديد لهؤلاء الأضياف غير المدعوين في مثل هذه الظروف الصعبة.
ولكن بحسب ما ينقله "الفخر الرازي" في تفسيره عن "الأزهري" أنّ الذرع في هذه الموارد يعنى "الطاقة" وفي الأصل معناه الفاصلة بين اذرع البعير أثناء سيره.
وطبيعي حين يحمل البعير أكثر من طاقته فإنّه يضطر إلى تقريب خطواته وتقليل الفاصلة بين خطواته، وبهذه المناسبة وبالتدريج استعمل هذا المعنى في عدم الإِرتياح والإِستثقال من الحوادث.
ويستفاد من بعض كتب اللغة ككتاب (القاموس" أنّ هذا التعبير إِنّما يستعمل في شدة الحادثة بحيث يجد الإِنسان جميع الطرق بوجهه موصدة.
وكلمة "عصيب" مشتقّة من "العصب" على زنة "الكلب" ومعناه ربط الشىء بالآخر وشده شدّاً محكماً، وحيث أنّ الحوادث الصعبة تشدُّ الإِنسان وكأنّها تسلبه راحته فيظل مبلبل الأفكار سُمّيت "عصيبة" وتطلق العرب على الأيّام شديدة الحر أنّها عصيبة أيضاً.
وعلى كل حال، فإنّ لوطاً لم يجد بدأ من أن يأتي بضيوفه إلى البيت ويقوم بواجب الضيافة ولكنّه حدّثهم في الطريق - عدة مرّات - أنّ أهل هذه المدينة منحرفون وأشرار ليكونوا على حذر منهم.
ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ الله سبحانه أمر ملائكته أن لا يعذبوا قوم لوط حتى يعترف لوط عليهم ثلاث مرّات، ومعنى ذلك أنّه حتى في تنفيذ حكم الله بالنسبة لقوم ظالمين لابدّ من تحقق موازين عادلة في المحاكمة، وقد سمع رسل الله شهادة لوط في قومه ثلاث مرّات أثناء الطريق(1).
وورد في بعض الرّوايات أنّ لوطاً أخّر ضيوفه كثيراً حتى حلول الليل، فلعله يستطيع أن يحفظ ماء وجهه من شرور قومه، ويقوم بواجب الضيافة دون أن يُساء إلى أضيافه.
ولكن ما عسى أن يفعل الإِنسان إِذا كان عدوه داخل بيته، وكانت امرأة لوط امرأة كافرة وتساعد قومه الظالمين، وقد اطلعت على ورود هؤلاء الأضياف إلى بيتها، فصعدت إلى أعلى السطح وصفقت بيديها أوّلا، ثمّ بإشعال النّار وتصاعد الدخان أعلمت جماعة من هؤلاء القوم بأنّ طعمة دسمة قد وقعت في "الشِباك"(2).
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد (وجاءه قومه يُهرعون إِليه)(3) وكانت حياة هؤلاء القوم مسودّة وملطخة بالعار (ومن قبلُ كانوا يعملون السيئات)فكان من حق لوط أن يضيق ذرعاً يصرخ ممّا يرى من شدّة استيائه و(قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) فأنا مستعد أن أزوجهن إِيّاكم (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) يصدكم عن هذه الأعمال المخزية وينصحكم بالإِقلاع عنها.
ولكن هؤلاء القوم المفسدين أجابوا لوطاً بكل وقاحة وعدم حياء و(قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإِنّك لتعلم ما نريد).
وهنا وجد لوط هذا النّبي العظيم نفسه محاصراً في هذه الحادثة المريرة فنادي و(قال لو أنّ لي بكم قوةً) أو سند من العشيرة والأتباعوالمعاهدين الأقوياء حتى اتغلّب عليكم (أو آوي إلى ركن شديد).
ملاحظات
1 - العبارة التي قالها لوط عند هجوم القوم على داره وأضيافه - (هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم) فتزوجوهنّ إِنّ شئتم فهنّ حلال لكم ولا ترتكبوا الإثم و الذنب وقد - أثارت هذه العبارة بين المفسّرين عدّة أسئلة:
أوّلا: هل المراد من (هؤلاء بناتي) بنات لوط على وجه الحقيقة والنسب؟!
في حين أنّ عددهن - وطبقاً لما ينقل التاريخ - ثلاث أو أثنتان فحسب، فكيف يعرض تزويجهن على هذه الجماعة الكثيرة؟!
أم أنّ المراد من قوله (هؤلاء بناتي) بنات "القبيلة" والمدينة، وعادة ينسب كبير القوم ورئيسهم بنات القبيلة اليه ويطلق عليهنّ "بناتي".
الإِحتمال الثّاني يبدو ضعيفاً لأنّه خلاف الظاهر.
والصحيح هو الإِحتمال الأوّل، لأنّ الذين هجموا على داره وأضيافه كانوا ثلّة من أهل القرية لا جميعهم فاقترح عليهم لوط ذلك الاقتراح، أضف إلى ذلك أنّ لوطاً كان يريد أن يبدي مُنتهى إِيثاره وتضحيته لحفظ ماء وجهه وليقول لهم: إِنّي مستعد لتزويجكم من بناتي لتُقِلعوا عن آثامكم وتتركوا أضيافي فلعل هذا الإِيثار المنقطع النظير يردعهم ويوقظ ضمائرهم الذي غطته السيئات.
ثانياً: هل يجوز تزويج النبات المؤمنات أمثال بنات لوط من الكفار حيى يقترح عليهم لوط ذلك؟!
وقد أجيب على هذا السؤال من طريقين.
الأوّل: إِنّ مثل هذا الزواج في مذهب لوط - كما كان في بداية الإِسلام - لم يكن محرماً، ولذلك فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زوّجَ ابنته زينب من أبي العاص قبل أن يسلم، ولكن هذا الحكم نسخ بعدئذ(4).
الثّاني: إِنّ المراد من قول لوط (عليه السلام) كان زواجاً مشروطاً بالإِيمان، أي هؤلاء بناتي فتعالوا وآمنوا لأزوجهن إِيّاكم.
ويتّضح أنّ الإِشكال على النّبي لوط - من أنّه كيف يزوج بناته المطهرات من جماعة أوباش - غير صحيح، لإنّ عرضه عليهم ذلك الزواج كان مشروطاً بالإيمان وليثبت منتهى علاقته بهدايتهم.
2 - ينبغي الإِلتفات إلى أنّ كلمة "أطهر" لا تعني بمفهومها أنّ عملهم المخزي والسيء كان "طاهراً" ولكن الزواج من البنات "أطهر"، بل هو تعبير شائع في لسان العرب - ولغات أُخرى - في المفاضلة والمقايسة بين أمرين، مثلا يقال لمن يسوق بسرعة رعناء "الوصول المتأخّر خير من عدم الوصول أبداً" أو "الاعراض من الطعام المشكوك أفضل من إِلقاء الإِنسان بيده إلى التهلكة" ونقرأ في بعض الرّوايات مثلا أنّ الإِمام الصادق (عليه السلام) حين يشعر بالخطر الشديد و"التقيّة" من خلفاء بني العباس يقول "والله لئن أفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إِليّ من أن تضرب عنقي"(5).
مع أنّه لا القتل محبوب ولا هو أمر حسن بنفسه، ولا عدم الوصول أبداً، ولا أمثالهما.
3 - تعبير لوط (أليس منكم رجل رشيد) في آخر كلامه مع قومه المنحرفين يكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ وجود رجل - ولو رجل واحد رشيد - بين قوم ما وقبيلة ما يكفي لردعهم من أعمالهم المخزية، أي لو كان فيكم رجل عاقل ذو لبّ ورشد لمّا قصدتم بيتي ابتغاء الإِعتداء على ضيفي!
هذا التعبير يوضح بجلاء أثر "الرّجل الرّشيد" في قيادة المجتمعات الإِنسانية، وهو الواقع الذي وجدنا نماذج كثيرة منه على امتداد التاريخ.
4 - من العجيب أنّ هؤلاء القوم المنحرفين الضالين قالوا للوط: (ما لنا في بناتك من حق) وهذا التعبير كاشف عن غاية الإِنحراف في هذه الجماعة، أي أنّ مجتمعاً منحرفاً ملوثاً بلغ حدّاً من العمى بحيث يرى الباطل حقّاً والحقّ باطلا!!
فالزواج من البنات المؤمنات الطاهرات لا يعدّ حقاً عندهم، وعلى العكس من ذلك يعدّ الإِنحراف الجنسي عندهم حقّاً.
إِنّ الإِعتياد والتطبع على الإِثم والذنب يكون في مراحله النهائية والخطرة عندما يُتصور أنّ أسوأ الأعمال وأخزاها هي "حق عند صاحبها" وأنّ أنقى الإِستمتاع الجنسي وأطهره أمرٌ غير مشروع.
5 - ونقرأ في حديث للإِمام الصّادق (عليه السلام) في تفسير الآيات المتقدمة أنّ المقصود بالقوّة هو القائم من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ "الركن الشديد" هم أصحابه الذين عددهم (313) شخصاً(6).
وقد تبدو هذه الرّواية عجيبة وغريبة إِذ كيف يمكن الإِعتقاد أنّ لوطاً كان يتمنّى ظهور مثل هذا الشخص مع أصحابه المشار إِليهم آنفاً.
ولكن التعرف على الرّوايات الواردة في تفسير آيات القرآن حتى الآن يعطينا مثل هذا الدرس، وهو أنّ قانوناً كلياً يتجلى غالباً في مصداقه البارز، ففي الواقع إِنّ لوطاً كان يتمنّى أن يجد قوماً ورجالا لديهم تلك القدرة والقوّة الروحيّة والجسمية الكافية لإِقامة حكومة العدل الإِلهية... كما هي موجودة في أصحاب المهدي "عجّل الله فرجه الشّريف" الذين يشكلون حكومة عالمية حال ظهور الإمام المهدي "عجّل الله فرجه الشّريف" وقيامه، لينهض بهم ويواجه الإِنحراف والفساد فيزيله عن بكرة أبيه ويبير هؤلاء القوم الذين لا حياء لهم.
1- الأنعام، 75 - 79.
2- البقرة، 258.
3- النحل، 120.
4- النساء، 125.
5- سفينة البحار، ج1، ص74.
6- سورة ص، 47.