الآيات 62 - 65
﴿قَالُوا يَصَلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَآ أَتَنْهَنَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمِّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيب62 قَالَ يَقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَءَاتَنِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللهِ إنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِير63 وَيَقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ 64 فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَثَةً أَيَّام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب65﴾
التّفسير
والآن لنلاحظ ما الذي كان جواب المخالفين لنبيّ الله "صالح (عليه السلام) " إزاء منطقه الحي الداعي إلى الحق.
لقد استفادوا من عامل نفسي للتأثير على النّبي "صالح" أو على الأقل للمحاولة في عدم تأثير كلامه على المستمعين له من جمهور الناس، وبالتعبير العاميّ الدارج: أرادوا أن يضعوا البطيخ تحت إبطه، فقالوا: (يا صالح قد كنت فينا مرجوّاً قبل هذا) وكنّا نتوجه إليك لحل مشاكلنا ونستشيرك في أُمورنا ونعتقد بعقلك وذكائك ودرايتك، ولم نشك في إشفاقك واهتمامك بنا، لكن رجاءنا فيك ذهب ادراج الرياح، حيث خالفت ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان وهو منهج اسلافنا ومفخرة قومنا، فأبديت عدم احترامك للأوثان وللكبار وسخرت من عقولنا (اتنهانا عمّا كان يعبد آباؤنا) والحقيقة أننا نشكُّ في دعوتك للواحد الأحد (وإننا لفي شك ممّا تدعونا إليه مريب).
نجد هنا أن القوم الضّالين يلتجؤون تحت غطاء الاسلاف والآباء الذين تحيط بهم هالة من القدسية لتوجيه أخطائهم وأعمالهم وأفكارهم غير الصحيحة، وهو ذلك المنطق القديم الذي كان يتذرع به المنحرفون وما زالوا يتذرعون به في عصر الذّرة والفضاء أيضاً.
لكن هذا النّبي الكبير لم ييأس من هدايتهم ولم تؤثر كلماتهم المخادعة في روحه الكبيرة فأجابهم قائلاً: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني منه رحمة) أفأسكت عن دعوتي ولا أبلغ رسالة الله ولا أواجه المنحرفين (فمن ينصرني من الله إن عصيته)..
ولكن اعلموا أن كلامكم هذا واحتجاجكم بمنهج السلف والآباء لا يزيدني إلاّ إيماناً بضلالتكم وخسرانكم: (فما تزيدونني غير تخسير..).
وبعد هذا كلّه ومن أجل البرهان على صدق دعوته، وبيان المعاجز الإلهية التي دونها قدرة الإنسان جاءهم بالناقة التي هي آية من آيات الله وقال: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية) فاتركوها وذروها تأكل في أرض الله (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم).
ناقة صالح:
"النّاقة" في اللغة هي اُنثى الجمل، وهي الآية الآنفة في آيات أُخرى أُضيفت إلى لفظ الجلالة "الله" (1) وهذه الإضافة تدل على أنّ هذه الناقة لها خصائص معينة، ومع الإلتفات إلى ما عبّر عنها في الآية المتقدمة بأنّها "آية" وعلامة إلهية ودليل على الحقانيّة، يتّضح أنّها لم تكن ناقة عادية، بل كانت خارقة للعادة من جهة أو جهات متعددة!.
ولكن لم ترد في القرآن خصائص هذه الناقة بشكل مفصّل، غاية ما في الأمر أننا نعرف بأنّها لم تكن ناقة عادية كالنوق الأُخريات، والشيء الوحيد المذكور عنها في القرآن - وفي موردين فحسب - أن صالحاً أخبر قومه أن يتقاسموا ماءهم سهمين: سهم لهم وسهم للناقة، فلهم شرب يوم منه ولها شرب يوم آخر (قال هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) (2) كما جاء في سورة القمر أيضاً (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) (3).
وفي سورة الشمس إشارة مختصرة إليها أيضاً، حيث يقول سبحانه: (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها) (4).
ولكن لم يتّضح كيف كان تقسيم الماء خارقاً للعادة ؟
هناك احتمالان:
الأوّل: إنّ الناقة كانت تشرب ماءً كثيراً بحيث تأتي على ماء "النبع" كله.
والثاني: إنّه حين كانت ترد الماء لا تجرؤ الحيوانات الأُخرى على الورود إلى الماء معها.
أمّا كيف كانت هذه الناقة تستفيد من جميع الماء؟
فيوجه هذا الإحتمال بأنّ ماء القرية كان قليلاً كماء القرى التي ليس فيها أكثر من عين ماء واحدة، وأهل القرية مجبورون على أن يدخروا الماء تمام اليوم في حفرة خاصّة ليجتمع الماء في العين مرّة أُخرى.
ولكن في جزء آخر من سورة الشعراء يتجلّى لنا أنّ ثمود لم يعيشوا في منطقة قليلة الماء، بل كانت لهم غابات وعيون ونخيل ومزارع حيث تقول الآيات: (أتتركون في ما ههنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها هضيم). (5)
وعلى كل حال فإنّ القرآن ذكر قصّة ناقة صالح بشكل مجمل غير أنّنا نقرأ في روايات كثيرة عن مصادر الشيعة وأهل السنة أيضاً، أنّ هذه الناقة خرجت من قلب الجبل، ولها خصائص أُخرى ليس هنا مجال سردها.
وعلى كل حال.
فمع جميع ما أكّده نبيّهم العظيم "صالح" في شأن الناقة، فقد صمّموا أخيراً على القضاء عليها، لأنّ وجودها مع مافيها من خوارق مدعاة لتيقظ الناس والتفافهم حول النّبي صالح، لذلك فإنّ جماعة من المعاندين لصالح من قومه الذين كانوا يجدون في دعوة صالح خطراً على مصالحهم، ولا يرغبون أن يستفيق الناس من غفلتهم فتتعرض دعائم استعمارهم للتقويض والانهيار، فتآمروا للقضاء على الناقة وهيأوا جماعة لهذا الغرض، وأخيراً أقدم أحدهم على مهاجمتها وضربها بالسكين فهوت إلى الأرض (فعقروها).
"عقروها" مشتقة من مادة "العُقر" على وزن "الظلم" ومعناه: أصل الشيء وأساسه وجذره، و"عقرت البعير" معناه نحرته واحتززت رأسه، لأنّ نحر البعير يستلزم زوال وجوده من الأصل، وأحياناً تستعمل هذه الكلمة لطعن الناقة في بطنها.
أو لتقطيع أطراف الناقة بدل النحر وكل ذلك في الواقع يرجع إلى معنى واحد "فتأمل"!...".
العلاقة الدّينية:
الطريف أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الذي عقر الناقة لم يكن إلاّ واحداً، لكن القرآن ينسب هذا العمل إلى جميع المخالفين من قوم صالح "ثمود" ويقول بصيغة الجمع: (فعقروها) وذلك لأنّ الإسلام يعدّ الرضا الباطني في أمر ما والإرتباط معه ارتباطاً عاطفياً بمنزلة الإشتراك فيه، وفي الواقع فإنّ التآمر على هذا العمل لم يكن له جانب فردي، وحتى ذلك الذي أقدم على عمله لم يكن معتمداً على قوته الشخصيّة فجميعهم كانوا مرتاحين لعمله وكانوا يسندونه، ومن المسلّم أنّه لا يمكن أن يعدّ هذا العمل عملاً فردياً.
بل يعد عملاً جماعياً.
يقول الإمام علي (عليه السلام): "وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا" (6).
وهناك روايات متعددة في المضمون ذاته نقلت عن نبي الإسلام وأهل بيته الكرام، وهي تكشف غاية الإهتمام من قبل هؤلاء السادة العظام بالعلاقة العاطفية والمناهج الفكرية المشتركة بجلاء، ونورد هنا على سبيل المثال - لا الحصر - عدداً منها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "من شهد أمراً فَكرِهه كمن غاب عنه ومن غاب عن أمر فرضيه كمن شهده" (7).
ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) "لو أنّ رجلاً قُتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله عزَّوجلَّ شريك القاتل" (8).
ونقل عن الإمام علي (عليه السلام) أيضاً أنّه قال: "الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه وعلى كل داخل في باطل إثمان إثم العمل به وإثم الرضا به" (9).
ومن أجل أن نعرف عمق العلاقة الفكرية والعاطفية في الإسلام وسعتها بحيث لا يُعرف لها حد من جهة الزمان والمكان، فيكفي أن نذكر هذا الكلام للإمام علي (عليه السلام) من نهج البلاغة لنلفت إليه الأنظار: "حين انتصر الإمام علي في حرب الجمل على المتمردين ومثيري الفتنة وفرح أصحاب علي بهذا الإنتصار الذي يُعدّ انتصاراً للإسلام على الشرك والجاهلية، قال له أحد أصحابه: "وودت لو أنّ أخي شهدنا هنا في الميدان ليرى انتصارك على عدوك".
فالتفت الإمام (عليه السلام) إليه قائلاً: "أهوى أخيك معنا" فقال: "نعم" فقال الإمام (عليه السلام): "شَهِدنَا" ثمّ قال: "ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان" (10).
ولا شك أنّ أُولئك الذين يساهمون في منهج ما ويشتركون فيه ويتحملون كل مشاكله وأتعابه، لهم امتياز خاص، ولكن هذا لا يعني أن الآخرين لم يشتركوا في ذلك أبداً، بل سواءً كانوا في عصرهم أو العصور والقرون المقبلة ولهم ارتباط عاطفي وفكري بهم فهم مشتركون معهم بنحو من الانحاء.
هذه المسألة التي قد لا نجد لها نظيراً في أي مذهب من مذاهب العالم، قائمة على أساس من حقيقة اجتماعية هامة، وهي أن المنسجمون فكرياً وعقائدياً حتى لو لم يشتركوا في منهج معيّن، إلاّ أنّهم سيدخلون قطعاً في مناهج مشابهة له في محيطهم وزمانهم، لأنّ أعمال الناس منعكسة عن أفكارهم، ولا يمكن أن يرتبط الإنسان بمذهب معين ولا يظهر أثره في عمله.
والإسلام منذ الخطوة الأُولى يهتم بايجاد اصلاحات في روح الإنسان ونفسه لإصلاح عمله تلقائياً وعلى ضوء الرّوايات المتقدمة فإنّ أي مسلم يبلغه أنّ فلاناً عمل عملاً صالحاً - أو سيئاً - ينبغي أن يتخذ الموقف الصحيح من ذلك العمل فوراً ويجعل قلبه وروحه منسجمين مع "الصالحات" وأن ينفر من "السيئات" فهذا السعي و"الجد" الداخلي لا شك سيكون له أثر في أعماله، وسيتعمق الترابط بين الفكر والعمل.
وفي نهاية الآية نقرأ أنّ النّبي "صالحاً" بعد أن رأى تمرّد قومه وعقرهم الناقة أنذرهم (فقال تمتعوا في دارك ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب) فهو وعد الله الذي لا يتغير وما أنا من الكاذبين.
1- مثل هذه الإضافة يقال لها في المصطلح الأدبي إضافة تشريفية. بمعنى أنّها إضافة تدل على شرف الشيء وأهميته، وفي الآية المتقدمة يلاحظ نموذجان من هذا النوع 1 - ناقة الله. 2 - أرض الله. وقد ورد في موارد أُخرى غير هذه الكلمات.
2- الشعراء، 155.
3- القمر، 28.
4- الشمس، 13.
5- الشعراء، الآية 146 - 148.
6- نهج البلاغة، ومن كلام له، رقم 201.
7- وسائل الشيعة، ج11، ص 409.
8- وسائل الشيعة، ج11، ص 410.
9- وسائل الشيعة، ج11، ص411.
10- نهج البلاغة، الكلام رقم 12.