الآيات 58 - 60

﴿وَلَمَّا جَآِ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَاب غَلِيظ 58 وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِأَيَتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّار عَنِيد59 وَأُتْبِعُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَومَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَاد قَوْمِ هُود 60﴾

التّفسير

اللعن الأبدي على القوم الظّالمين:

في آخر الآيات التي تتحدث عن قصّة قوم عاد ونبيّهم هود إِشارة إِلى العقاب الأليم للمعاندين، فتقول الآيات: (ولما جاء أمرنا نجّينا هوداً والذين آمنوا معه) وتوكّد أيضاً نجاة المؤمنين (ونجّيناهم من عذاب غليظ).

الطريف هنا أنّ الآيات قبل أن تذكر عقاب الظلمة والكافرين ومجازاتهم، بيّنت نجاة المؤمنين وخلاصهم، لئلا يُتصور أنّ العذاب الإِلهي إِذا نزل يحرق الأخضر واليابس معاً لأنّ الله عادل وحكيم وحاشاه أن يعذب ولو رجلاً مؤمناً بين جماعة كفرة يستحقون العذاب والعقاب.

لكن رحمة الله تنقل هؤلاء الأشخاص قبل نزول العذاب إِلى محل آمن كما رأينا من قبل في قصّة نوح أنّه قبل شروع الطوفان كانت سفينة النجاة قد أُعدّت للمؤمنين، وقبل أن ينزل العذاب على قوم لوط ويدمر مدنهم خرج لوط وعدد معدود من أصحابه من المدينة ليلا بأمر الله.

وفي قوله تعالى: (نجّينا) وتكرار هذه الكلمة في الآية مرّتين أقوال مختلفة للمفسّرين، فـ "نجينا" الأولى تعني خلاصهم من عذاب الدنيا و "نجّينا" الثّانية تعني نجاتهم في المرحلة المقبلة من عذاب الآخرة، وينسجم هذا التعبير مع وصف العذاب بالغلظة أيضاً.

ويشير بعض المفسرين إِلى مسألة لطيفة هنا، وهي أنّ الكلام لما كان على رحمة الله فمن غير المناسب أن تتكرر كلمة العذاب مباشرة، فأين الرحمة من العذاب؟

لذلك تكررت كلمة "نجينا" لتفصل بين الرحمة والعذاب دون أن ينقص شيء من التأكيد على العذاب.

كما ينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة الدقيقة أيضاً، وهي أنّ آيات القرآن وصفت العذاب بالغليظ في أربعة موارد (1).

وبملاحظة تلك الآية بدقّة نستنتج أنّ العذاب الغليظ مرتبط بالدار الآخرى، وخصوصاً الآيات التي جاءت في سورة ابراهيم وذكر فيها العذاب الغليظ، فإنّها تصف بصراحة حال أهل جهنّم وأهوالها، وهكذا أن يكون، وذلك لأنّ عذاب الدنيا مهما كان شديداً فإنّه أخفّ من عذاب الآخرة!

وهناك تناسب ينبغي ملاحظته أيضاً، وهو أن قوم عاد - كما سيأتي بيان حالهم إن شاء الله - ورد ذكرهم في سورة القمر.

والحاقة، وكانوا قوماً ذوي أبدان طوال خشنين، فشبّهت أجسامهم بالنخل، ولهذا السبب كانت لديهم عمارات عالية عظيمة، بحيث نقراً في تاريخ ما قبل الإِسلام أن العرب كانوا يَنسبون البناءات الضخمة والعالية إِلى عاد ويقولون مثلا: "هذا البناء عاديٌ" لذلك كان عذابهم

مناسباً لهم لا في العالم الآخر بل في هذه الدنيا كان عذابهم خشناً وعقابهم صارماً، كما مرّ في تفسير السور الآنفة الذكر.

ثمّ تلخّص الآيات ذنوب قوم عاد في ثلاثة مواضيع:

الأوّل: بإِنكارهم لآيات الله وعنادهم أيضاً لم يتركوا دليلا واضحاً وسنداً بيّناً على صدق نبوة نبيّهم إلاّ جحدوه (وتلك عاد جحدوا بآيات ربّهم).

والثّاني: إِنّهم من الناحية العملية لم يتّبعوا أنبياء الله (وعصوا رسله) وإِنّما جاءت الرسل بصيغة الجمع، إِمّا لأن جميع دعوات الأنبياء هي نحو حقيقة واحدة وهي "التوحيد: وفروعه" فإِنكار دعوة نبي واحد يُعدّ إِنكاراً لجميع الأنبياء، أو أن هوداً دعاهم للإِيمان بنبوة الأنبياء السابقين أيضاً،؟

وكانوا ينكرون ذلك.

والثّالث من الذنوب: إِنهم تركوا طاعة الله ومالوا لكل جبار عنيد (واتبعوا كل جبار عنيد).

فأيّ ذنب أعظم من هذه الذنوب: ترك الإِيمان، ومخالفة الأنبياء، والخضوع لطاعة كل جبار عنيد.

و"الجبار" يطلق على من يضرب ويقتل ويدمر من منطلق الغضب ولا يتبع أمر العقل، وبتعبير آخر هو من يُجبر سواه على أتباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري.

و "العنيد" هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر ممّا ينبغي، ولا يرضخ للحق أبداً.

هاتان الصفتان تتجلّيان في الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان، الذين لا يستمعون لكلام الحق أبداً ويعمدون الى من يخالفهم بانزال أشد انواع العقاب به بلا رحمة.

هنا يَرِدُ سؤال: إِذا كان الجبار يعطي هذا المعنى فلماذا ذُكرت هذه الصفة لله، كما في سورة الحشر الآية (23) وسائر المصادر الإِسلامية.

والجواب هو أنّ "الجبار" - كما أشرنا آنفاً - مشتق إمّا من "الجبر" بمعنى القوّة والقهر والغلبة، أومن مادة "الجبران" ومعناه: إِزالة النقص من شيء.

ولكن "الجبار" سواء كان بالمعني الأوّل أو الثّاني فهو يستعمل بشكليه، وقد يراد به الذم إِذا حاول الإِنسان تجاوز النقص الذي فيه باستعلائه على الغير وتكبره وبالإِدعاءات الخاطئة، أو أنّه يحاول أن يجبر غيره على أن يكون تحت طاعته ورغبته، فيكون الأخير ذليلا لأمره.

هذا المعنى ورد في كثير من آيات القرآن الكريم، وأحياناً تقترن معه صفات ذميمة أُخرى، كالآية المتقدمة التي اقترنت مع كلمة "عنيد" وفي الآية (32) من سورة مريم نقرأ على لسان عيسى بن مريم رسول الله (ولم يجعلني جباراً شقياً) كما نقرأ على لسان بني إِسرائيل في خطابهم لموسى (عليه السلام) في من سكن بيت المقدس من الظالمين حيث ورد في الآية (22) من سورة المائدة (قالوا إِن فيها قوماً جبارين).

ولكن قد تأتي كلمة "الجبار" من هذين الجذرين "الجبر" و"الجبران" وهي بمعنى المدح، وتطلق على من يسدّ حاجات الناس ويرفع نقصانهم ويربط العظام المتكسرة، أو أن تكون له قدرة وافرة بحيث يكون الغير خاضعاً لقدرته، دون أن يظلم أحداً أو يستغل قدرته ليسيء الإِستفادة منها، ولذلك حين تكون كلمة الجبار بهذا المعنى فقد تقترن بصفات مدح أُخرى، كما نقرأ في سورة الحشر الآية (23) (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) وواضح أن صفات كالقدوس والسلام والمؤمن لا تنسجم مع "الجبار" بمعنى الظالم أو "المتكبر" بمعنى من يرى نفسه أكبر من غيره، وهذا التعبير يدل على أنّ المراد هنا من "الجبار" هو المعنى الثّاني.

ولكن حيث أنّ البعض فسّروا "الجبار" ببعض معانيه دون الإلتفات إلى معانيه المتعددة في اللغة، تصوّروا أنّ استعمال هذا اللفظ غير صحيح في شأن الله، وكذلك في ما يخصّ لفظ "المتكبر" ولكن بالرجوع إلى جذورهما اللغوية الأصيلة يرتفع الإشكال (2).

وفي الآية الأخيرة التي تنتهي بها قصّة "هود" و قومه "عاد" بيان لنتيجة أعمالهم السيئة والباطلة حيث تقول الآية: (واتبعوا في هذه الدنيا لعنة) وبعد الموت لايبقى إلاّ خزيهم والصيت السيء (ويوم القيامة) يقال لهم (ألا إن عاداً كفروا ربّهم ألا بعداً لعاد قوم هود).

وكان يكفي تعريف هذه الجماعة بلفظ "عاد" ولكن بعد ذكر عاد جاء لفظ "قوم هود" أيضاً لتوكّد عليهم أوّلا، ولتشير الى أنّهم القوم الذين آذوا نبيهم الناصح لهم ثانياً، ولذلك فقد أبعدهم الله عن رحمته.

بحثان

1 - قوم عاد من منظار التاريخ

بالرغم من أنّ بعض المؤرّخين الغربيين كــ "أسبرينكل" أرادوا أن ينكروا قصّة "عاد" من الناحية التاريخية، وربّما كان ذلك بسبب عدم توفر ذكر لهم في غير الآثار الإسلامية، ولم يجدوها في كتب العهد القديم "التوراة" ولكن هناك وثائق - تشير إلى قصّة عاد - مشهورة إجمالا بين العرب في زمن الجاهلية، وقد ذكرهم شعراء العرب قبل الإسلام، وحتى في العصر الجاهلي كانوا يطلقون لفظ "العاديّ" على البناء العالي والقوي نسبة إلى عاد.

ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ لفظ "عاد" يُطلق على قبيلتين:

احداهما: قبيلة كانت تقطن الحجاز قبل التاريخ ثمّ زالت وزالت آثارها أيضاً، ولم ينقل التاريخ البشري عنها إلاّ أساطير لا يُطمأنّ إلى صحتها.

والتعبير الوارد في القرآن "عاداً الأُولى" إشارة إلى هذه القبيلة.

ولكن في زمن التاريخ - ومن المحتمل أن يكون في حدود 700 سنة قبل ميلاد المسيح - وُجد قوم آخرون باسم "عاد" قطنوا الأحقاف أو اليمن أيضاً.

وكان أُولئك طوالا جساماً أقوياء مقتدرين، ولذلك كانوا يعدون من مثيري الحروب.

كما أنّهم كانوا من الناحية الحضارية متمدنين، إذ كانت لهم مدن عامرة وأراضي خصبة خضراء وغابات نضرة، كما وصفوا في القرآن (... التي لم يخلق مثلها في البلاد).

ولذلك يقول بعض المؤرّخين "المستشرقين": إنّ "عاداً" كانت تقطن في حدود "برهوت" إحدى نواحي حضر موت اليمن، وعلى أثر البراكين وجبال النّار التي حولها دمرت الكثير من قراهم ومدنهم وتفرقت بقاياهم.

على كل حال فإنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في نعم وترف، ولكن كما هي طريقة أغلب المتنعمين الغافلين والسكارى من أثر النعمة استغلّوا قدرتهم لظلم الآخرين واستثمارهم واستعمارهم.. واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وأقروا عبادة الأوثان.

وحين دعاهم نبيّهم هود (عليه السلام) بكلّ ما أوتي من جهد وجدّ ليضيء أفكارهم بنصحه ومواعظه، ويتمّ الحجّة عليهم، لم يكتفوا باهمال هذه الدعوة فحسب، بل نهضوا لإسكات هذا الصوت النيّر لهذا النّبي العظيم فمرّة نسبوه إلى السفاهة والجنون، ومرّة هددوه بغضب آلهتهم، ولكنّه وقف صامداً أمامهم كالجبل لا يخشى غضب هؤلاء القوم المغرورين الأقوياء، حتى استطاع أن يكتسب منهم جماعة تقدّر بأربعة آلاف وطهّر قلوبهم ودعاهم إلى منهاجه وعقيدته، لكن بقي الآخرون مصرّين على عنادهم ولجاجتهم.

وأخيراً - كما سيأتي في سورة الذاريات والحاقة والقمر - غمرهم إعصار شديد لمدّة سبعة ليال وستة أيّام جسوماً فأتى على قصورهم فدمّرها وعلى أجسادهم فجعلها كأوراق الخريف وفرقها تفريقاً، ولكن هود كان قد أبعد المؤمنين عن هؤلاء ونجّاهم من العذاب، وأصبحت حياة أُولئك القوم ومصيرهم درساً كبيراً وعبرة لكل الجبابرة والأنانيين (3).

2 - اللعن الدائم الأبدي على "عاد":

هذا التعبير وما شابهه ورد في آيات متعددة من القرآن الكريم في شأن أُمم مختلفة، حيث يقول الله سبحانه بعد ذكر أحوالهم، كما في سورة هود الآية 68: (ألا بعداً لثمود) وفي آية أُخرى (89) هود (الا بعداً لمدين كما بعدت ثمود) وفي سورة المؤمنون، الآية (41) (فبعداً للقوم الظالمين) وفي آية أُخرى (44) المؤمنون (فبعداً لقوم لا يؤمنون) وكما قرأنا في قصّة نوح من قبل في هود الآية (44) (وقيل بعداً للقوم الظالمين).

ففي جميع هذه الآيات جاء اللعن شعاراً لمن أذنبوا ذنباً عظيماً، ويدور هذا اللعن مدار بعدهم عن رحمة الله.

وغالباً ما يطلق اليوم مثل هذا الشعار على المستعمرين والمستكبرين والظالمين، غاية ما في الأمر أن هذا الشعار القرآني آخّاذ وطريف إلى درجة أنّه غير ناظر إلى بعد واحد فحسب.

لأنّنا حين نقول مثلاً: (بعداً للقوم الظالمين) فإنّ هذا التعبير يشمل الإبتعاد عن رحمة الله، والإبتعاد عن السعادة، وعن كل خير وبركة ونعمة، وعن كونهم عباداً لله، طبعاً ابتعادهم عن الخير والسعادة هو انعكاس لإبتعادهم في نفوسهم وأرواحهم ومحيط عملهم عن الله وخلق الله، لأنّ كل فكرة وعمل له أثر في الدار الآخرة يشابه ذلك العمل تماماً ولذلك فإنّ ابتعادهم هذا في هذه الدنيا أساس ابتعادهم في الآخرة عن رحمة الله وعفوه ومواهبه السنيّة (4).


1- وهي في السور التالية: 1 - ابراهيم، الآية 7; 2 - لقمان، الآية 34; 3 - فصلت، الآية 50; 4 - هود، الآية 56.

2- يراجع في هذا الصدد تاج العروس للزبيدي والمفردات للراغب مادة (جبر) و (كبر) ومجمع البيان وتفسير البيان ذيل الآية محل البحث وآيات سورة الحشر الأخيرة.

3- راجع تفسير الميزان، تفسير مجمع البيان، وكتاب أعلام القرآن.

4- إنّ كلمة "بُعداً" من الناحية النحوية مفعول مطلق للجملة المقدّرة (المحذوفة) "أبعدهم الله" وعلى القاعدة ينبغي أن يكون هذا المفعول المطلق للجملة المقدرة (إبعاداً، لا بُعداً) لأنّه مصدر "أبعد" لكن قد يأتي المصدر الثّلاثي مكان الرباعي كما في قوله تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتاً).