الآيات 53 - 57

﴿قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَة وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى أَلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ53 إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعضُ أَلِهَتِنَا بِسُوء قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ ممّا تُشْرِكُونَ54مِن دُونِهِ فَكِيدُونىِ جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ55إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّة إِلاَّ هُوَ ءَاخِذُ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم56 فَإِن تَوَلَّواْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ57﴾

التّفسير:

قوّة المنطق:

والآن لننظر ماذا كان ردّ فعل القوم المعاندين والمغرورين - قوم عاد - مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إِليهم: (قالوا يا هودُ ما جئتنا ببيّنة) أي لم تأتِنا بدليل مقنع لنا (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) الذي تدعونا به إِلى عبادة الله وترك الأوثان (وما نحن لك بمؤمنين).

وأضافوا إلى هذه الجمل الثّلاث غير المنطقية، أنّك يا هودُ مجنون و (إِن نقول إلاّ اعتراك بعض الهتنا بسوء) ولا شكّ أنّ هوداً - كأي نبي من الأنبياء - أدّى دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته، ولكنّهم لغرورهم - مثل سائر الأقوام - أنكروا معاجره وعدوّها سحراً وعبارة عن سلسلة من المصادفات والحوادث الإِتفاقية التي لايمكن أن تكون دليلا على المطلوب.

وأساساً، فإِنّ نفي عبادة الأوثان لا يحتاج إِلى دليل، ومن يكن له أقل شعور وعقل - ويترك المخاصمة - يدرك هذا الأمر جيداً، ولو فرضنا أنّ ذلك يحتاج إِلى دليل، فهل يحتاج إِلى معجزة بعد الدلائل العقلية والمنطقية.. ؟!

وبتعبير آخر فإِنّ ما جاء في دعوة هود - في الآيات المتقدمة - هو الدعوة إِلى الله الواحد الأحد، والتوبة إِليه والإِستغفار من الذنوب، ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان، كل هذه المسائل يمكن اثباتها بالدليل العقلي.

فعلى هذا، إِنّ كان المقصود من قولهم: (ما جئتنا ببيّنة) هو نفي الدليل العقلي، فكلامهم هذا غير صحيح قطعاً.

وإِذا كان المقصود هو نفي المعجزة، فإِنّ هذا الإدعاء لايحتاج إِلى معجزة.

وعلى كل حال فإِنّ قولهم: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) دليل على لجاجتهم، لأنّ الإِنسان العاقل والباحث عن الحقيقة يتقبل الكلام الحق من أيّ كان.

وخصوصاً هذه الجملة (إِنّ نقولُ إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء) فإِنّهم يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم!

فإِنّ هذا الكلام منهم دليل على خرافة منطقهم، وخرافة عبادة الأصنام!

فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إِلى حماية من الانسان نفسه، كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإِنسان العاقل؟!

أضف إِلى ذلك، ما دليلهم على جنون هود إلاّ أنّه كسر طوق "السنة المتبعة عندهم" وكان معارضاً للسنن والآداب الخرافية في محيطه، فإِذا كان هذا هو الجنون فينبغي أن نعدّ جميع المصلحين والثائرين على الأساليب الخاطئة مجانين.

وليس هذا جديداً، فالتاريخ السالف والمعاصر مليءٌ بنسبة الجنون إِلى الاشخاص الثائرين على الخرافات والعادات السيئة والمواجهين للإِستعمار، والنافضين أثواب الأسر.

على كل حال، فإِنّ على هود أن يردّ على هؤلاء الضالّين اللجوجين رداً مقروناً بالمنطق، من منطلق القوّة أيضاً..

يقول القرآن في جواب هود لهم (قال إِنّي أشهد الله واشهدوا أنّي بريءٌ ممّا تشركون).

يشير بذلك إِلى أنّ الأصنام إِذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علناً فعلام تسكت هذه الأصنام؟

وماذا تنتظر بي؟

ثمّ يضيف أنّه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شيء، فأنتم مع هذا العدد الهائل لا تقدرون على شيء، فإِذا كنتم قادرين (فكيدوني جميعاً ثمّ لا تُنظرون).

فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئاً، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبداً، وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات، إلاّ أنني واثق بقدرة فوق كل القدرات، و (أِنّي توكلت على الله ربّي وربّكم).

وهذا دليل على أنّني لا أقول إلاّ الحق والصدق، وأن قلبي مرتبط بعالم آخر، فلو فكرتم جيداً لكان هذا وحده معجزاً حيث ينهض إِنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب، لكنّه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم، ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه!

ثمّ يضيف: لستم وحدكم في قبضة الله، فإِنّه (ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها) ، فما لم يأذن به الله، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً.

ولكن اعلموا أيضاً أنّ ربّي القدير ليس كالاشخاص المقتدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق، بل هو الله الذي لا يفعل إلاّ الحكمة والعدل (إِنّ ربّي على صراط مستقيم).

ملاحظتان

الأُولى: إِنّ "الناصية" في اللغة معناها الشعر المسترسل على الجبهة، وهي مشتقة من "نصا" ومعناها الإِتصال والإِرتباط، وأخذ بناصية فلان "كناية عن القهر والتسلط عليه" فما ورد في الجملة السابقة من الآية من قول الحق سبحانه: (مامن دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها) إِشاره إِلى قدرته القاهرة على جميع الأشياء بحيث لا شيء في الوجود له طاقة المقاومة قبال هذه القدرة، لأنّ من أحكم الإِمساك على شعر مقدم الرأس من الإِنسان أو أي حيوان آخر، فإِنّه يُسلب منه القدرة على المقاومة عادة.

والغرض من هذه العبارة أنّ المستكبرين المغترين وعبدة الأوثان والظالمين الباحثين عن السلطة لايتصوروا أنّه إذا أخلي لهم الميدان لعدّة أيّام فذلك دليل على قدرتهم على المقاومة أمام قدرة الله، فعليهم أن يلتفتوا إِلى هذه الحقيقة وأن ينزلوا من مركب غرورهم.

الثّانية: إِنّ جملة (ربّي على صراط مستقيم) من أروع التعابير في الحكاية عن قدرة الله المقترنة بعدله، لأنّ المقتدرين في الغالب ظالمون ومتجاوزون للحدود، ولكن الله سبحانه مع قدرته التي لا نهاية لهم فهو دائماً على صراط مستقيم، وجادة صافية ونظم وحساب ودقة!.

كما ينبغي الانتباه الى هذه المسأله الدقيقة، وهي أنّ كلام هود (عليه السلام) للمشركين كان يبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ الأعداء مهما لجوا في عنادهم وزادوا من لجاجتهم فإِنّ القائد الحق ينبغي أن يزيد من استقامته!

فكما أن قوم هود خوّفوه بشدّة من آلهتهم و "أوثانهم"، فإِنّ هوداً في المقابل أنذرهم بنحو أشدّ من قدرة الله القاهرة!

ثمّ أنّ هود قال لقومه في آخر كلامه معهم كما تحكيه الآية (فإِنّ تولّوا فقد بلغتكم ما أُرسلت به إِليكم).

إِشارة إِلى أن لايتصوروا أنّ هوداً سيتراجع إِن لم يستجيبوا لدعوته، فإِنّه أدى واجبه ووظيفته، وأداء الواجب انتصار بحدّ ذاته حتى لو لم تقبل دعوته، وهذا درس لجميع القادة الحقيقيين وأئمة طريق الحق ألاّ يحسّوا أبداً بالتعب والقلق من أعمالهم، وإِن لم يقبل الناس دعوتهم.

وكما هدد القوم هوداً، فإنّه هددهم بأشد من تهديدهم، وقال: إِن لم تستجيبوا لدعوتي فإِنّ الله سيبيدكم في القريب العاجل (ويستخلف ربّي قوماً غيركم).

هذه سنة الله في خلقه وقانونه العام، إِنّه متى كان قوم غير لائقين لاستجابة الدّعوة والهدايه والنعم الأُخرى التي أنعمها عليهم فإِنّه سيبعدهم ويستخلف قوماً لائقين بمكانهم (إِنّ ربّي على كل شيء حفيظ).

فلا تفوته الفرصة، ولا يهمل أنبياءه ومحبيه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من حساب الآخرين بل هو عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.