الآيات 36 - 39
﴿وَأُوحِىَ إِلَى نُوح أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءاَمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ36 وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلاَ تُخَطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ37 ويَصْنَعِ الفُلْكَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلاٌَ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ38 فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ39﴾
التفسير
بداية النّهاية:
إِنّ قصّة نوح عليه السلام الواردة في آيات هذه السورة، بُيّنت بعدّة عبارات وجمل، كل جملة مرتبطة بالأُخرى، وكل منها يمثل سلسلة من مواجهة نوح (ع) في قبال المستكبرين، ففي الآيات السابقة بيان لمرحلة دعوة نوح (ع) المستمرة والتي كانت في غاية الجدية، وبالإِستعانة بجميع الوسائل المتاحة حيث استمرت سنوات طوالا - آمنت به جماعة قليلة.. قليلة من حيث العدد وكثيرة من حيث الكيفية والإِستقامة.
وفي الآيات محل البحث إِشارة إِلى المرحلة الثّالثة من هذه المواجهة، وهي مرحلة انتهاء دورة التبليغ والتهيؤ للتصفية الإِلهية.
ففي الآية الأُولى نقرأ ما معناه: يا نوح، إنّك لن تجد من يستجيب لدعوتك ويؤمن بالله غير هؤلاء: (وأوحي إِلى نوح أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن).
وهي إِشارة إِلى أنّ الصفوف قد أمتازت بشكل تام، والدعوة للإِيمان والإِصلاح غير مجدية، فلابدّ إِذاً من الإِستعداد لتصفية والتحول النهائي.
وفي نهاية الآية تسلية لقلب نوح (ع) أن لا تحزن على قومك حين تجدهم يصنعون مثل هذه الأعمال (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ونستفيد من هذه الآية - ضمناً - أنّ الله يطلع نبيّه نوحاً على قسم من أسرار الغيب بمقدار ما ينبغي، كما نجد أنّ الله تعالى يخبره بأنّه لَنْ يؤمن بدعوته في المستقبل غير أُولئك الذين آمنوا به من قبل، وعلى كل حال لابدّ من انزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين ليطهر العالم من التلوّث بوجودهم، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم، وهكذا صدر الامر بإغراقهم، ولكن لابدّ لكل شيء من سبب، فعلى نوح أن يصنع السفينة المناسبة لنجاة المؤمنين الصادقين لينشط المؤمنون في مسيرهم أكثر فأكثر، ولتتم الحجّة على غيرهم بالمقدار الكافي أيضاً.
وجاء الأمر لنوح أن (... اصنع الفلك بأعيننا ووحينا).
إِنّ المقصود من كلمة "أعيننا" إِشارة إِلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد من أجله في هذا المجال هو في مرآى ومسمع منّا، فواصل عملك مطمئن البال.
وطبيعي أنّ هذا الإِحساس بأنّ الله حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي الإِنسان قوة وطاقة، كما أنّه يحسّ بتحمل المسؤولية أكثر.
كما يستفاد من كلمة "وحينا" أيضاً أن صنع السفينة كان بتعليم الله، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ نوحاً (ع) لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه، وإِنّما هو وحي الله الذي يعينه في انتخاب أحسن الكيفيات.
وفي نهاية الآية ينذر الله نوحاً أن لا يشفع في قومه الظالمين، لأنّهم محكوم عليهم بالعذاب وإِن الغرق قد كتب عليهم حتماً (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون).
هذه الجملة تبين بوضوح أنّ الشفاعة لا تتيسر لكل شخص، بل للشفاعة شروطها، فإِذا لم تتوفر في أحد الاشخاص فلا يحق للنّبي أن يشفع له ويطلب من الله العفو لأجله (راجع المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية 48 من سورة البقرة).
أمّا عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد - ولو لحظة واحدة - في دعوة النّبي نوح (ع) ويحتملوا على الأقل أن هذا الإِصرار وهذه الدعوات المكررة كلها من "وحي الله" فتكون مسأله العذاب والطوفان حتمية!!
إلاّ أنّهم واصلوا استهزاءهم وسخريتهم مرّة أُخرى وهي عادة الأفراد المستكبرين والمغرورين (ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إِن تسخروا منّا فإنا نسخر منكم كما تسخرون).
"الملأ" والأشراف الراضون عن أنفسهم يسخرون من المستضعفين في كل مكان، ويعدونهم أذلاء وحقراء لأنّهم لا قوّة لهم ولا ثروة!!
ومضافاً بل حتى أفكارهم وإِن كانت سامية، ومذهبهم وإن كان ثابتاً وراسخاً، وأعمالهم وإِن كانت عظيمة وجليلة.. كل ذلك في حساب "الملأ" حقير تافه.. !
ولذلك لم ينفعهم الإِنذار والنصيحة.
فلابدّ أن تنهال أسواط العذاب الأليم على ظهورهم يقال أن الملأ من قوم نوح والأشراف كانوا جماعات، وكل جماعة تختار نوعاً من السخرية والإِستهزاء بنوح ليضحكوا ويفرحوا بذلك الإِستهزاء!
فمنهم من يقول: يا نوح، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجاراً آخر الأمر!
ومنهم من يقول: حسناً تصنع السفينة، فينبغي أن تصنع لها بحراً، أرأيت إِنساناً عاقلا يصنع السفينة على اليابسة.
ومنهم من يقول: واهاً لهذه السفينة العظيمة، كان بإِمكانك أن تصنع أصغر منها ليمكنك سحبها إِلى البحر.
كانوا يقولون مثل ذلك ويقهقهون عالياً، وكان هذا الموضوع مثار حديثهم وبحثهم في البيوت وأماكن عملهم، حيث يتحدثون عن نوح واصحابه وقلّة عقلهم: تأملوا الرجل العجوز وتفرّجوا عليه كيف انتهى به الأمر، الآن ندرك أن الحق معنا حيث لم نؤمن بِكلامه، فهو لا يملك عقلا صحيحاً!!
ولكن نوحاً كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنّها وليدة الإِيمان، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت قلوبهم، وإِنّما يواصل عمله ليكمله بسرعة.
ويوماً بعد يوم كان هيكل السفينة يتكامل ويتهياً لذلك اليوم العظيم، وكان نوح (ع) أحياناً يرفع رأسه ويقول لقومه الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة (قال إِن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون).
ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ماتصنعون، ولا ملجأ لكم، وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة.. ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.
(فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) إِشارة إِلى أنّه بالرغم من أنّ مضايقاتكم لنا مؤلمة، ولكننا نتحمل هذه الشدائد ونفتخر بذلك أوّلا، كما أنّ ذلك مهما يكن فهو منقض وزائل، أمّا عذابكم المخزي فهو باق ودائم ثانياً، وهذان الأمران معاً لا يقبلان القياس.
ملاحظات
1 - التصفية لا الإِنتقام
يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ عذاب الله يفتقد جنبة الإنتقام، لأنّه عبارة عن تصفية نوع من البشر وزوالهم لعدم جدارتهم بالحياة، وليبقى الصالحون من بعدهم.. إِنّ مثل هؤلاء المستكبرين الفاسدين والمفسدين لا أمل بإِيمانهم، ولا حق لهم في الحياة في نظر نظام الخلق، وهكذا كان قوم نوح لأنّ الآيات السابقة تبيّن له أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن، فلا أمل بإيمانهم فتهيأ لصنع "الفلك" (ولا تخاطبني في الذين ظلموا).
وهذا الموضوع يبدو جلياً في دعاء هذا النّبي على قومه، فنحن نقرأ في سورة نوح (ع) (قال ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنّك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفاراً).
وأساساً فإِنّ لكل موجود هدفاً في نظام الخلقة، وحين ينحرف هذا الموجود عن هدفه ويغلق على نفسه جميع طرق الإِصلاح، يكون وجوده وبقاؤه بلا معنى، ولا بد من أن يزول شاء أم أبى، وكا يقول الشاعر:
لا نضرةٌ عندي ولا ورق ولا ***** وردٌ ولا ثمرٌ ففيم بقائي
2 - علائم المستكبرين:
إِنّ المستكبرين الأنانيين يحولون المسائل الجدية التي لا تنسجم مع رغابتهم وميولهم ومنافعهم إِلى لعب واستهزاء.
ولهذا السبب فإِنّ الإِستهزاء بالحقائق - ولا سيما فيما يتعلق بحياة المستضعفين - يشكل جزءاً من حياتهم..
فكثيراً ما نجدهم من أجل أن يعطوا لجلساتهم المليئة بآثامهم رونقاً وجمالا يبحثون عن مؤمن خالي اليد ليسخروا منه ويستهزئوا به.
وإذا اتفق أنّ أحد المؤمنين لم يكن في مجلسهم فسوف يذكرون واحداً من المؤمنين في غيابه ويسخرون منه ويضحكون!..
إِنّهم يتصورون أنفسهم بأنّهم العقل المطلق، ويظنون أنّ الثروة العظيمة - والتي هي من الحرام - دليل على شخصيتهم وعظمتهم وقيمتهم!
وأنّ الآخرين فاقدو الشخصية ولا قيمة لهم وغير لائقين!
ولكن القرآن المجيد يوجه أشدّ هجومه على مثل هؤلاء الأفراد المغرورين المتكبرين، ولا سيما استهزاؤهم المحكوم عليه بغضب الله وسخطه!
نقرأ في التاريخ الإِسلامي - على سبيل المثال - أن "أبا عقيل الأنصاري" هذا العامل الفقير والمؤمن كان يسهر الليل في حمل الماء من آبار "المدينة" إِلى البيوت ويستوفي أجره بتميرات، ثمّ يأتي بهذه التُميرات إِلى النّبي (ص) في عزوة "تبوك" على أنّها مساعدة لجيش الإِسلام، فيلتفت المنافقون المستكبرون ويسخرون منه، فتنزل آيات من القرآن لها وقع الصاعقة عليهم (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاّ جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).
3 - سفينة نُوح:
لا شكّ أنّ سفينة نوح لَم تكنْ سفينة عاديَّة ولم تنتهِ بسهولة مع وسائل ذلك الزمان آلاته، إِذْ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإِضافة إِلى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات، وتحمل متاعاً وطعاماً كثيراً يكفي للمدّة التي يعيشها المؤمنون والحيوانات في السفينة حال الطوفان، ومثل هذه السفينة بهذا الججم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان.
فهذه السفينة ستجري في بحر بسعة العالم، وينبغي أن تمرَّ سالمةً عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها.
لذلك تقول بعض روايات المفسّرين: إِنّ طول السفينة كان ألفاً ومئتي ذراع، وعرضها كان ستمائة ذراع "كل ذراع يعادل نصف متر تقريباً".
ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ النساء ابتلين قبل الطوفان بأربعين عامّاً بالعقم وعدم الإِنجاب، وكان ذلك مقدمةً لعذابهم وعقابهم.