الآيات 25 - 28

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ25 أن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يُوْم أَلِيم26 فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل بَلْ نَظُنُّكُمْ كَذِبِينَ 27 قَالَ يَاقُوْم أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَأَتَنِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَرِهُونَ28﴾

التّفسير

قصّة نوح المثيرة مع قومه:

تقدم أنّ هذه السورة تحمل بين ثناياها قصص الأنبياء السابقين وتأريخهم، وذلك لإِيقاظ أفكار المنحرفين والإِلتفات إِلى الحقائق وبيان العواقب الوخيمة للمفسدين الفجار.

وأخيراً بيان طريق النصر والموفقية.

في البداية تذكر قصّة نوح (ع) ، وهو أحد الأنبياء أولي العزم، وضمن (26) آية

تُرسم النقاط الأساسية لتأريخه المثير.. ولا شك أنّ قصّة جهاد نوح (ع) المتواصل للمستكبرين في عصره، وعاقبتهم الوخيمة، واحدة من العبر العظيمة في تاريخ البشرية، والتي تتضمن دروساً هامّة في كل واقعة منها.. والآيات المتقدمة تبيّن بدايه هذه الدعوة العظيمة فتقول: (ولقد أرسلنا نوحاً إِلى قومه إِنّي لكم نذير مبين).

التأكيد على مسألة الإِنذار، مع أنّ الأنبياء كانوا منذرين ومبشرين في الوقت ذاته لأنّ الثورة ينبغي أن تبداً ضرباتها بالإِنذار وإِعلام الخطر، لأنّه أشدّ تأثيراً في إيقاظ النائمين والغافلين من البشارة.

والإِنسان عادةً إِذا لم يشعر بالخطر المحدق به فإِنّه يفضل السكون على الحركة وتغيير المواقع.

ولذلك فقد كان إِنذار الأنبياء وتحذيرهم بمثابة السياط على افكار الضاليّن ونفوسهم، فتؤثر فيمن له القابلية والاستعداد للهداية على التحرك والاتجاه الى الحق.

ولهذا السبب ورد الإِعتماد على الإِنذار في آيات كثيرة من القرآن، كما في الآية (49) من سورة الحج، والآية (115) من سورة الشعراء، والآية (50) من سورة العنكبوت، والآية (42) من سورة فاطر، والآية (70) من سورة ص، والآية (رقم 9) من سورة الأحقاف، والآية (50) من سورة الذاريات، وآيات أُخرى كلها تعتمد على كلمة "نذير" في بيان دعوة الأنبياء لأُممِهم.

وفي الآية الأُخرى يُلخّص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول: رسالتي هي (أَلاّ تعبدوا إِلاّ الله) ثمّ يعقب دون فاصلة بالإِنذار والتحذير مرّة أُخرى (إِنّي أخاف عليكم عذاب يوم أليم) (1).

في الحقيقة أن مسألة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد هي أساس دعوة الانبياء جميعاً.

فنحن نقراً في الآية الثّانية من هذه السورة، والآية (40) من سورة يوسف (ع) ، الآية (23) من سورة الإِسراء... نقرأ في هذه الآيات وأمثالها في الحديث عن الأنبياء أن دعوتهم جميعاً تتلخص في توحيد الله سبحانه.

فإِذا كان جميع أفراد المجتمع موحدّون ولايعبدون إلاّ الله، ولا ينقادون للأوثان الوهمية الخارجية منها والداخلية من قبيل الأنانية والهوى والشهوات والمقام والجاه والنساء والبنين فلا يبقى أثر للسلبيات والخباثب في المجتمع البشري.

فإِذا لم يصنع الشخص الضعيف من ضعفه هذا صنماً ليسجد له ويتبع أمره، فلا استكبار حينئذ ولا استعمار، ولا آثارهما الوخيمة من قبيل الذل والأسر والتبعية والميول المنحرفة وأنواع الشقاء بين أفراد المجتمع، لأنّ كل هذه الأُمور وليدة الإِنحراف عن عبادة الله والتوجه نحو الأصنام والطواغيت.. فلننظر الآن أوّل ردّ فعل من قبل الطواغيت واتباع الهوى والمترفين وامثالهم إِزاء إِنذار الأنبياء، كيف كان وماذا كان؟!

لاشك أنّه لم يكن سوى حفنةً من الأعذار الواهية والحجج الباطلة والأدلة الزائفة التي تعتبر ديدن جميع الجبابرة في كل عصر وزمان، فقد أجاب أُولئك دعوة نوح بثلاثة إِشكالات:

الأوّل: إِنّ الإِشراف والمترفين من قوم نوح (ع) قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلاّ بشراً مثلنا) زعماً منهم أن الرسالة الإِلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إِلى البشر لا أن البشر يحملها إِلى البشر!

وظنّاً منهم أنّ مقام الإِنسان أدنى من مقام الملائكة، أو أنّ الملائكة تعرف حاجات الإِنسان أكثر منه.

نلاحظ هنا كلمة "الملأ" التي تشير إِلى أصحاب الثروة والقوة الذين يملأ العين ظاهرهم، في حين أن الواقع أجوف.

ويشكلون أصل الفساد والإِنحراف في كل مجتمع، ويرفعون راية العناد والمواجهة أمام دعوة الأنبياء (ع).

والإِشكال الثّاني: إِنّهم قالوا: يانوح; لا نرى متبعيك ومن حولك إلاّ حفنةً من الأراذل وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة (وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي).

و"الأراذل" جمع لـ "أرذل" وتأتي أيضاً جمع لـ "رذل" التي تعني الموجود الحقير، سواء كان إِنساناً أم شيئاً آخر غيره.

وبالطبع فإِنّ الملتفين حول نوح (ع) والمؤمنين به لم يكونوا أراذل ولا حقراء، ولكن بما أنّ الأنبياء ينهضون للدفاع عن المستضعفين قبل كل شيءً، فأوّل جماعة يستجيبون لهم ويلبّون دعوتهم هم الجماعة المحرومة والفقيرة، ولكن هؤلاء في نظر المستكبرين الذين يعدّون معيار الشخصيّة القوة والثروة فحسب يحسبونهم أراذل وحقراء..

وإِنّما سمّوهم بـ "بادي الرأي" أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة ويعشقون الشيء بنظرة واحدة، ففي الحقيقة كان ذلك بسبب أنّ اللجاجة والتعصب لم يكن لها طريق الى قلوب هؤلاء الذين التفوا حول نوح (ع) لأنّ معظمهم من الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم، ويدركون بعقولهم الباحثة عن الحق دلائل الصدق في أقوال الأنبياء (ع) وأعمالهم.

الإِشكال الثّالث: الذي أوردوه على نوح (ع) أنهم قالوا: بالاضافة الى أنّك إِنسان ولست ملكاً، وأن الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأراذل، فإنّنا لا نرى لكم علينا فضلا (وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين).

والآيات التي تعقبها تبيّن رد نوح (ع) وإِجاباته المنطقية على هؤلاء حيث تقول: (قال يا قوم أرأيتم إِن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم).

وقد اختلف المفسّرون في جواب نوح (ع) هذا لأي من الإِشكالات الثّلاثة هو؟

ولهم في ذلك أقوال.. ولكن مع التدبر في الآية يتّضح أنّ هذا الجواب يمكن أن يكون جواباً للإِشكالات الثلاثة بأسرها.

لأنّ أوّل إِشكال أوردوه على نوح هو: لِمَ كنت إِنساناً مثلنا ولم تكن ملكاً؟

فكان جوابه لهم: صحيح أنني بشر مثلكم، ولكن الله آتاني رحمة وبيّنة ودليلا واضحاً من عنده، فلا تمنع بشريتي هذه من اداء هذه الرسالة العظيمة، ولا ضرورة لأن أكون ملكاً.

والإِشكال الثّاني هو: إِنّ أتباع نوح مخدوعون بالظواهر.

فيردّهم بالقول: إنّكم أحق بهذا الإِتهام، لأنّكم أنكرتم هذه الحقيقة المشرقة، وعندي أدلّة كافية ومقنعة لكلّ من يطلب الحقيقة، إلاّ أنّها خفيت عليكم لغروركم وتكبركم وأنانيتكم!

وإِشكال الثّالث: أنّهم قالوا: (وما نرى لكم علينا من فضل) فكان جواب نوح (ع): أي فضل أعظم من أن يشملني الله برحمته، وأن يجعل الدلائل الواضحة بين يدي، فعلى هذا لا دليل لكم على اتهامي بالكذب، فدلائل الصدق عندي واضحة وجليّة!..

وفي ختام الآية يقول النّبي نوح (ع) لهم: هل أستطيع أن ألزمكم الإِستجابة لدعوتي وأنتم غير مستعدّين لها وكارهون لها (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون).


1- مع أنّ الأليم صفة للعذاب عادة، ولكن في الآية السابقة وقع صفةً لـ "يوم"، وهذا نوع من الإِسناد المجازي اللطيف الذي نجده في مختلف اللغات في أدبياتها.