الآيات 18 - 22
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَدُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّلِمِينَ18 الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوجاً وَهُم بِالأَخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ19 أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ20 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ21 لاَجَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاءَخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ22﴾
التّفسير
أخسر النّاس أعمالاً:
بعد الآية المتقدمة التي كانت تتحدث عن القرآن ورسالة النّبي محمّد (ص) تأتي آيات أُخر تشرح عاقبة المنكرين وعلاماتهم ومآل أعمالهم.
ففي أوّل آية من هذه الآيات يقول سبحانه: (ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً) ويعني أن تكذيب دعوة النّبي الصادق (ص) في الواقع هو تكذيب لكلام الله وافتراء عليه بالكذب و تكذيب من لا يتحدث عن أحد سوى الله يعدّ تكذيباً لله (1).
وكما تقدم في عدّة مواضع، فالقرآن المجيد يعبر في عديد من الآيات عن جماعة من الناس بقوله: "أظلم" في حين أنّ أعمالهم - كما يبدو - مختلفة، ولا يمكن أن نعدّ جماعات كثيرة مع وجود أعمال مختلفة بأنّهم أظلم الناس!
بل ينبغي أن يُعدّ البعض ظالمين، والبعض الآخر أظلم منهم، وسواهما أشدّ ظلماً منهما جميعاً..
ولكن - كما أجبنا عن هذا السؤال عدّة مرات - جذر جميع هذه الأعمال يعود لشيء واحد، وهو الشرك وتكذيب الآيات الإِلهية، وهو أعظم البهتان "ولمزيد من الإِيضاح يراجع ذيل الآية (31) من سورة الأنعام".
ثمّ يبيّن ما ينتظرهم من مستقبل مشؤوم يوم القيامة حين يُعرضون على محكمة العدل الإِلهي (أُولئك يعرضون على ربّهم) حينئذ يشهد "الأشهاد" على أعمالهم وأنّ هؤلاء هم الذين كذبوا على الله العظيم الرحيم وولي النعمة.. (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم) ثمّ ينادون بصوت عال (ألا لعنة الله على الظالمين).
ولكن من هم الأشهاد؟
أهم الملائكة، أم الحفظة على الأعمال، أم الأنبياء؟
للمفسّرين احتمالات وآراء، ولكن مع ملاحظة أن آيات أُخرى من القرآن تشير إِلى أنّ الأنبياء هم الأشهاد، فالظاهر أنّ المراد بالأشهاد هنا هم الأنبياء أيضاً.. أو المفهوم الأوسع وهو أنّ الأنبياء وسائر الأشهاد يشهدون على "الأعمال" يوم القيامة!
وفي الآية (41) من سورة النساء نقرأ قوله تعالى: (فكيف إِذا جئنا من كل أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).
وفي شأن السّيد المسيح (ع) نقرأ في الآية (117) من سوره المائدة.
(وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم).
بعد هذا مَن القائل: (ألا لعنة الله على الظالمين) ؟
أهو الله سبحانه، أم الأشهاد على الأعمال؟!
هناك أقوال بين المفسّرين، لكن الظاهر أنّ هذا الكلام تتمة لقول الأشهاد.. والآية التي بعدها تبيّن صفات الظالمين في ثلاث جمل:
الأُولى تقول: إِنّهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل الله (الذين يصدون عن سبيل الله) فمرّة عن طريق إِلقاء الشُبهة، ومرّة بالتهديد، وأحياناً عن طريق الإِغراء والطمع، وجميع هذه الأساليب ترجع إِلى أمر واحد، وهو الصدّ عن سبيل الله.
الثّانية تقول: إِنّهم يسعون في أن يُظهروا سبيل الله وطريقه المستقيم عِوَجاً (ويبغونها عوجاً) (2).
أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أو النقصان أو التّفسير بالرأي وإِخفاء الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم.
ولا يستطيع الناس وطلاب الحق السير في هذا الطريق.
والثّالثة تقول: إِنّهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة (وهم بالآخرة هم كافرون).
وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الإِنحرافات، لأنّ الإِيمان بتلك المحكمة الكبرى والعالم الوسيع بعد الموت يفعل الطاقات الايجابية الكامنة في النفس والروح.
ومن الطّريف أنّ جميع هذه المسائل تجتمع في مفهوم "الظلم" لأنّ المفهوم الواسع لهذه الكلمة يشمل كل انحراف وتغيير للموضع الواقعي للأشياء والأعمال والصفات والعقائد.
في الآية التالية يبيّن أنّ هؤلاء لا يستطيعون الهرب من عقاب الله في الأرض ولا أن يخرجوا من سلطانه (أُولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) كما أنّهم لا يجدون وليّاً وحامياً لهم غير الله (وما كان لهم من دون الله من أولياء).
وأخيراً يشير سبحانه إِلى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة (يضاعف لهم العذاب).
لماذا؟!
لأنّهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين، وفي الوقت ذاته كانوا يجرّون الآخرين إِلى هذا السبيل، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين، دون التخفيف عن الآخرين من أوزارهم (وليحملُنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) (3).
وهناك أخبار كثيرة في أن "من سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها".
وفي ختام الآية يبيّن الله سبحانه أساس شقاء هؤلاء بقوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وماكانوا يبصرون).
فهم في الحقيقة بإِهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتينوسيلتي السمع والبصر لدرك الحقائق، ضلّوا السبيل وأضلّوا سواهم أيضاً.. لأنّ الحق والحقيقة لا يدركان إلاّ بالسمع والبصر النافذ.
ومن الطريف هنا أنّنا نقرأ في الآية أنّهم ما كانوا يستطيعون السمع، أي استماع الحق، فهذا التعبير يشير إِلى الحالة الواقعية التي هم فيها، وهي أنّ استماع الحق كان عليهم صعباً وثقيلا إِلى درجة يُتصور فيها أنّهم فقدوا حاسة السمع، فلا قدرة لهم على السمع، وهذا التعبير ينسجم تماماً مع قولنا مثلا: إِنّ الشخص العاشق لا يستطيع أن يسمع كلاماً عن عيوب معشوقه!.. وبديهي أنّ عدم استطاعة دركهم الحقائق كانت نتيجة لجاجتهم الشديدة وعدائهم للحق والحقيقة، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية، لأنّهم هم السبب في ذلك، وهم الذى مهّدوا له، وكان بإِمكانهم أن يبعدوا عنهم هذه الحالة، لأنّ القدرة على السبب قدرة على المسبِّب.
والآية التي بعدها تبيّن في جملة واحدة حصيلة سعيهم وجدهم في طريق الباطل، فتقول: (أُولئك الذين خسروا أنفسهم) وهذه أعظم خسارة يمكن أن تصيب الانسان، إِذ يخسر وجوده الإِنساني..
ثمّ تضيف الآية: أنّهم اتخذوا آلهة ومعبودين مصطنعين "مزيفين" ولكن تلاشت هذه الآلهة المصنوعة والمزيفة أخيراً.. (وضل عنهم ماكانوا يفترون).
وفي نهاية الآية بيان الحكم النهائي لمآلهم وعاقبتهم بهذا التعبير (لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون).
والسبب واضح; لأنّهم حُرموا من نعمة السمع الحاد والبصر النافذ، وخَسِروا كلّ إِنسانيتهم ووجودهم، ومع هذه الحال فقد حملوا أثقالَ مسؤوليتهم وأثقال الآخرين مع أثقالهم.
والمعنى الأصلي لكلمة "لا جرم" مأخوذ من "جَرَم" على وزن "حرَمَ" وهو قطف الثمار من الأشجار، كما نقل ذلك الراغب في مفرداته، ثمّ توسع هذا المعنى فشمل كلّ نوع من الكسب والتحصيل، ولكثرة استعمال الكلمة في الكسب غير المرغوب فيه شاعت في هذا المعنى، ولذلك يطلق على الذنب أنّه جُرم.
ولكن حين تبدأ هذه الكلمة جملةً وهي مسبوقة بـ "لا" فيكون معناها حينئذ: أنّه لا شيء يمكنه أن يمنع أو يقطع هذا الموضوع، فهي قريبة من معنى "لابدّ" أو "من المسلّم به" والله العالم "فتدبر".
1- ما يقوله المفسّرون من أنّ المراد من هذه الجملة هو الردّ على من كان يقول: إِنّ النّبي يكذب على الله، بعيد جدّاً، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة لا تناسب هذا التّفسير، بل المناسب أنّها تشير إِلى الكفار.
2- المقصود بـ"العِوَج" أي الملتوي، وقد بيّنا شرح ذلك في ذيل الآية (45) من سورة الأعراف وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الضمير في "يبغونها" يعود على سبيل الله فهي مؤنث مجازي، أو بمعنى الجادة والطريقة، فهي مؤنث لفظي، ونقرأ في سورة يوسف(عليه السلام) الآية (108) (قل هذه سبيلي أدعوا إِلى الله).
3- العنكبوت، 23.