الآيتان 15 - 16

﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَلَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ15 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الأَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ16﴾

التّفسير

الآيات أعلاه أكملت الحجة مع "دلائل إِعجاز القرآن" على المشركين والمنكرين، ولكن جماعة منهم امتنعوا عن القبول - لحفظ منافعهم الشخصيّة - بالرّغم من وضوح الحق، فالآيات هذه تشير إِلى مصير هؤلاء فتقول: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) من رزق مادي وشهرة وتلذذ بالنعم (نُوَفِّ إليهم) نتيجة (أعمالهم فيها) في هذه الدنيا (وهم فيها لايبخسون) أي لا ينقص من حقهم شيء في الدنيا!

"البخس" في اللغة نقصان الحق، وجملة (وهم فيها لا يُبخسون) إِشارة إِلى أنّهم سينالون نتيجة أعمالهم بدون أقل نقصان من حقوقهم.

هذه الآية سنة إِلهية دائمة، وهي أنّ الأعمال "الإِيجابية" والمؤثرة لاتضيع نتائجها، مع فارق وهو أنّه إِذا كان الهدف الأصلي منها هو الوصول إِلى الحياة المادية في هذه الدنيا فإِنّ ثمراتها في الدنيا فحسب، وأمّا إِذا كان الهدف هو "الله" وكسب رضاه فإِنّ تأثيرها ونتائجها ستكون في الدنيا وفي الآخرة أيضاً حيث تكون النتائج كثيرة الثمار.

الواقع إنّ القسم الأوّل من هذه الأعمال كالبناية المؤقتة والقصيرة العمر، فلا يستفاد منها إلاّ قليلا، ثمّ مصيرها الى الزوال والفناء.

أمّا القسم الثّاني منها فإِنّها تشبه البناء المرصوص المحكم الذي يدوم قروناً وينتفع به مدّة مديدة.

وهذا من قبيل مانراه بوضوح على أرض الواقع المعاش، فالعالم الغربي فتح أسراراً كثيرة من العلم بسعيه المتواصل والمنسّق، وأصبح متسلطاً على قوى الطبيعة وحصل على مواهب كثيرة لتصديه الدائب لمشاكل الحياة الدنيوية بصبر واستقامة وجد.

فلا كلام في نيل العالم الغربي جزاء أعماله وتحقيقه انتصارات مشرقة، ولكن لأنّ هدفه الحياة الماديّة فحسب، فإِنّ أعماله لاتثمر غير توفر الإِمكانات المادية، حتى الأعمال الإِنسانية كبناء المستشفيات والمراكز الصحية والمراكز الثقافية وإِعانة بعض الأُمم الفقيرة وأمثال ذلك، "مصيدة" لاستعمارهم واستثمارهم للآخرين.. فلأنّها تحمل هدفاً مادياً فقط ومن أجل حفظ المنافع المادية فإِنّ أثرها يكون ماديّاً فحسب.

كذلك الحال بالنسبة لمن يعمل رياءً.

فلذلك يقول سبحانه عنهم في الآية التالية: (أُولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار) ليزول كل أثر اُخروي لما عملوا في هذه الدنيا ولا ينالون عليه أي ثواب (وحبط ما صنعوا فيها) وكل ما كان لغير الله فسيزول أثره (وباطل ما كانوا يصنعون).

"الحَبْط" في الأصل يطلق على حالة خاصّة من أكل الحيوانات للعلف بشكل غير طبيعي، فتنتفخ بُطونها ويتعطل الجهاز الهضمي عندها فتبدو وكأنّها قد سمنت ولكنّها في الباطن وفي الحقيقة مريضة.

هذا التعبير الطريف يقال للأعمال التي تبدو في الظاهر مفيدة وإنسانية، إلاّ أنّها في الباطن مقرونة بنية ذميمة وخبيثة!

ملاحظات

1 - من الممكن أن يُتصور في البداية أنّ الآيتين محل البحث متعارضتان، فالآية الأُولى تقول: إِن من كان هدفه الحياة الدنيا فإِنّه سينال جزاءه فيها كاملا غير منقوص (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إِليهم أعمالهم فيها وهم فيها لايبخسون) أمّا الآية الثّانية فتقول إِن أعماله تكون بلا أثر وباطلة: (وحبط ما صنعوا فيها وباطل ماكانوا يعملون).

ولكن مع الإِلتفات إِلى أن إِحدى الآيتين تشير إِلى مايجري في الدنيا والثّانية تشير إِلى الدار الآخرة، يتّضح الجواب على هذا الإِشكال، وهو أنّهم ينالون جزاء أعمالهم في هذه الدنيا، ولكن لا قيمة لهذا العمل حتى ولو كان من أهم الأعمال - إِذا لم يكن لها في الآخرة أيُّ أثر.

لأنّ هدفهم لم يكن نقيّاً ونيّتهم غير خالصة، حيث كانوا يسعون لتحصيل سلسلة من المنافع المادية، وقد تحققت لهم في الدنيا.

2 - ذكر كلمة "الزينة" بعد "الحياة الدنيا" تدلّ ذم عبادة الدنيا وزخرفها وزبرجها، وليس المقصود من ذلك الإِستفادة باعتدال من مواهب هذا العالم!

فكلمة "الزينة" التي جاءت هنا ببيان مغلق، إلاّ أنّها في آيات أُخرى فُسرت بالنساء الجميلات والكنوز والمراكب والزخارف.. الخ.

(زُين للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث) (1) ((2)).

3 - ذكر كلمة "الباطل" بعد كلمة "الحبط" يمكن أن تكون إِشارة إِلى أن أعمالهم لها ظاهر بدون محتوى، ولذلك تذهب نتيجتها أدراج الرياح.

ثمّ يضيف أن أعمالهم اساساً باطلة من البداية ولا خاصية لها، غاية ما في الأمر إنّ كثيراً من حقائق الأُمور لما كانت في الدنيا غير معروفة فإِنّها تنكشف في الدار الآخرة التي هي محل كشف الأسرار، فيتّضح أنّ هذه الأعمال لم يكن لها قيمة منذ البداية!.

4 - في كتاب "الدر المنثور" حديث منقول عن النّبي (ص) في تفسير هذه الآيات يبيّن مفاد هذه الآيات بجلاء "قال رسول الله (ص): "إِذا كان يوم القيامة صارت أُمتي على ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصاً، وفرقة يعبدون الله رياءً.

فرقة يعبدون الله يصيبون به دُنيا".

فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟

فيقول: الدنيا، فيقول: لاجرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إِليه.

انطلقوا به إِلى النّار.

ويقول للذي يعبد الله رياءً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟

قال: الرياء، فيقول: إِنّما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إِلي منها شيء ولا ينفعك اليوم، انطلقوا به إِلى النّار.

ويقول للذي كان يعبد الله خالصاً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟

فيقول: بعزّتك وجلالك لأنت أعلم منّي، كنت أعبدك لوجهك ولدارك، قال: صدق عبدي، انطلقوا به إِلى الجنّة" (3).


1- آل عمران، 14.

2- لمزيد من الإِيضاح يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية 14 من سورة آل عمران.

3- نقلا عن تفسير الميزان، ج 10، ص 186.