الآيات 8 - 11
﴿ولَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة مَّعْدُودَة لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يُوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ8 وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَنَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤسٌ كَفُورٌ9 وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاَتُ عَنِّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ10 إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ11﴾
التّفسير
استيعاب المؤمنين وعدم استيعاب غيرهم:
في هذه الآيات - وبمناسبة البحث السابق عن غير المؤمنين - بيان لزوايا الحالات النفسية ونقاط الضعف في أخلاق هؤلاء الأفراد والتي تجبر الإِنسان إِلى هاوية الظلام والفساد.
وأوّل صفة تذكر لهؤلاء هي السخرية من الحقائق وعدم الإِكتراث بها وبالمسائل المصيرية، فهؤلاء بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وغرورهم - حين يسمعون تهديد الانبياء في مؤاخذة المسيئين ومعاقبتهم، ثمّ تمرّ عليهم عدّة أيّام يؤخر الله تعالى بلطفه فيها العذاب عنهم، نراهم يقولون باستهزاء مبطن: ما السبب في تأخرّ العذاب الالهي، و أين عقاب الله: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إِلى أُمّة معدودة ليقولنَّ مايحبسه).
و "الأُمّة" مشتقّة من مادة "أمّ" وهي بمعنى الوالدة، ومعناها في الأصل انضمام الأشياء بعضها إِلى بعض، ولذلك يقال لكل مجموعة على هدف معين، أو زمان أو مكان واحد "أمة".
وقد جاءت هذه الكلمة بمعنى الوقت والزمان أيضاً، لأنّ أجزاء الزمان مرتبطة بعضها ببعض، أو لأنّ المجموعة أو الجماعة تعيش في عصر وزمان معين، فنحن نقرأ في سورة يوسف (ع) الآية (45) مثلا (وادّكر بعد أُمّة)..
ففي الآية - محل البحث - كلمة "الأُمّة" جاءت بهذا المعنى، ولذلك وصفت بكلمة "معدودة" فمعنى الآية هو: إِذا أخرنا عن هؤلاء العذاب والمجازاة لمدّة قصيرة قالوا: أي شيء يمنعه؟!..
وعلى كل حال، فهذه عادة الجاهلين والمغترين، فكلّما وجدوا شيئاً لا ينسجم مع ميولهم وطباعهم عدّوه سخرية، لذلك يتخذون التهديدات والنذر التي توقظ أصحاب الحق وتهزهم..
يتخذونها هزواً ويسخرون منها شأنهم شأن من يلعب بالنّار.
لكن القرآن يحذرهُم وينذرهم بصراحة في ردّه على كلامهم، ويبين لهم أن لا دافع لعذاب الله إِذا جاءهم (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم) وأن الذين يسخرون منه واقع بهم ومدمّرهم (وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون).
أجل، ستصعد صرخاتهم إِلى السماء في ذلك الحين، ويندمون على كلماتهم المخجلة، لكن لا صرخاتهم تغنيهم وتنقذهم، ولا هذا الندم ينفعهم، ولات حين مندم.
ومن نقاط الضعف عند هؤلاء قلّة الصبر بوجه المشاكل والصعاب وانحسار البركات الإِلهية.
حيث نجد في الآية التالية قوله تعالى عنهم: (ولئن أذقنا الإِنسان منّا رحمة ثمّ نزعناها منه أنّه ليؤس كفور).
وبالرغم من أنّ هذا التعبير يتناول الإِنسان بشكل عام، لكن - كما أشرنا إِليه سابقاً - المراد من الإِنسان في مثل هذه الآيات هو الافراد الذين لم يتلقوا تربية سليمة والمنحرفون عن جادة الحق، لذلك يتطابق هذا البحث مع البحث السابق عن الأفراد غير المؤمنين.
ونقطة الضعف الثّالثة عند هؤلاء أنّهم حين يتنعمون بنعمة ويشعرون بالترف والرفاه يبلغ بهم الفرح والتكبر والغرور درجة ينسون معها كل شيء، ولذلك يشير القرآن الكريم إِلى هذه الظاهرة بقوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسته ليقولن ذهب السيئات عني أنّه لفرح فخور).
وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة (ليقولن ذهب السيئات عني) وهو أن مثل هؤلاء الأشخاص حين يُصابون بالشدائد ثمّ يبدل الله بلطفه هذه الشدائد نعمّا من عنده يقول هؤلاء: إِنّ الشدائد السابقة كانت كفارة عن ذنوبنا وقد غسلت جميع معاصينا، لذلك أصبحنا من المقربين إِلى الله، فلا حاجة للتوبة والعودة إِلى ساحة الله وحضرته.
ثمّ يستثني الله سبحانه المؤمنين الذين يواجهون الشدائد والمصاعب بصبر، ولا يتركون الأعمال الصالحة على كل حال، فهؤلاء بعيدون عن الغرور والتكبر وضيق الأفق، حيث يقول سبحانه: (إلاّ الذين صبروا وعملوا الصالحات).
هؤلاء لا يَغترّون عند وفور النعمة فينسون الله، ولا ييأسون عند الشدائد والمصائب فيكفرون بالله، بل إِن أرواحهم الكبيرة وافكارهم السليمه جعلتهم يهضمون النعم والبلايا في أنفسهم دون الغفلة عن ذكر الله واداء مسؤولياتهم ولذلك فإِنّ لهؤلاء ثواباً ومغفرة من الله (أُولئك لهم مغفرة واجر كبير).
بحوث
1 - الأُمّة المعدُودَة وأصحاب المهدي (ع):
في روايات عديدة وصلتنا عن أهل البيت (ع) أنّ الأُمّة المعدودة تعني النفر القليل، وفيها إِشارة إِلى أصحاب المهدي (ع) وأنصاره، وعلى هذا يكون معنى الآية: إِذا ما أخرنا العذاب عن الظالمين والمسيئين إِلى ظهور المهدي وأصحابه، فإِنّ أُولئك الظالمين يقولون: أي شيء يقف أمام عذاب الله فيحبسه عنّا!
ولكن كما قلنا أن ظاهر الآية من الأُمّة المعدودة هو الزمان المعدود والمعين، وقد وردت رواية عن الإِمام علي (ع) في تفسير الأُمّة المعدودة تشير إِلى ما بيّناه، وهو الزمان المعين، فيمكن أن تكون الرّوايات الآنفة تشير إِلى المعنى الثّاني من الآية، وهو ما اصطلح عليه بـ "بطن الآية" وطبيعي أنّه بمثابة البيان عن القانون الكلي في شأن الظالمين، لا أنّه موضوع خاص بالمشركين الذين عاصروا النّبي (ص) ، ونحن نعلم أنّ آيات القرآن تحمل معاني كثيرة مختلفة، فالمعنى الأوّل والظاهر يمكن أن يكون في مسألة خاصّة أو جماعة معينة، والمعنى الآخر يكون عاماً مجرّداً عن الزمان وغير مخصوص بفئة معينة.
2 - أربع ظواهر لضيق الافق الفكري
رسمت الآيات المتقدمة ثلاث حالات مختلفة من حالات المشركين والمسيئين، وقد ورد في ضمنها أربعة أوصاف لهم:
الأوّل: إِنّ المشرك يؤوس عند قطع النعمة عنه، أي لا يبقى له أمل أبداً.
والآخر: إِنّه كفور، أي غير شاكر أبداً.
والثّالث: إِنّه إِذا غرق بالنعمة أو نال أقلّ نعمة، فهو - على العكس من الحالة السابقة - ينسى نفسه وينسى كل شيء ويغفل بما ناله من اللّذة والنشاط، فيغدو ثملا مغروراً وينجر إِلى الفساد والتجاوز على حدود الله.
والوصف الرّابع: إنّ حاله عند وفور النعمة حالة الفخر، أي يبلغ درجة كبيرة من التكبر.
وعلى كل حال، هذه الأوصاف الأربعة هي ظواهر من ضيق الاُفق وقلّة الإِستيعاب والرؤية..
وهي لا تختص بجماعة معينة من غير المؤمنين وملوّثي الفكر، بل هي سلسلة من الأوصاف العامّة لجميع هؤلاء..
أمّا المؤمنون الذين يمتعون بروح كبيرة وفكر عال وصدر رحب ورؤية بعيدة المدى، فلا يهزّهم تبدل الدنيا والزمان، ولا ييأسوا لسلب النعمة عنهم، ولا يغرّهم إقبال النعمة فيكونوا من الغافلين، لذا ينبغي الدقة والملاحظة في آخر الآية التي تستثني المؤمنين، إِذ ورد التعبير فيها عن الإِيمان بالصبر والإِستقامة (إِلاّ الذين صبروا).
3 - معيار الضعف النفسي
والمسألة الدقيقة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها، هي أنّه في الموردين (مورد سلب النعمة بعد إِسباغها ومورد إِسباغ النعمة بعد سلبها) أشير بكلمة "أذقنا" المشتقّة من "الإِذاقة" ويراد بها أن نفوس هؤلاء المشركين ضعيفة إِلى درجة أنّهم لو أعطوا نعمة قليلة ثمّ سُلبت منهم يضجرون وييأسون، كما أنّهم إِذا ذاقوا نعمة بعد شدة يفرحون ويغترّون بها.
4 - النِعَمُ جميعُها مواهب:
الطريف أنّه في الآية الأُولى عبّر عن النعمة بالرحمة (ولئن أذقنا الإِنسان منَّا رحمة) وفي الآية الثّانية ورد كلمة "النعمة" نفسها، ويمكن أن تكون إِشارة إِلى أنّ نعم الله جميعها تصل إِلى الإِنسان عن طريق التفضل والرحمة لا عن طريق الإِستحقاق، وإِذا كان الأصل أن تكون النعمة على حسب الإِستحقاق، فإِنّ جماعة قليلة ستنالها، أو أن أية جماعة لن تنالها أبداً.
5 - أثران للاعمال الحسنة
في آخر آية - من الآيات محل البحث - وعدٌ بالمغفرة - للأفراد المؤمنين الذين يتمتعون بالإِستقامة - ووعد بالأجر الكبير أيضاً جزاءاً لأعمالهم الصالحة، فهي إِشارة إِلى أنّ الأعمال الصالحة لها أثران:
الأوّل: غسل الذنوب.
والثّاني: كسب الثواب العظيم والأجر الكبير.