الآيات 1 - 4

﴿الر كِتَبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيم خَبِير1 أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نُذِيزٌ وَبَشِيرٌ2 وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَعاً حَسَناً إِلَى أَجَل مُّسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْل فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّى آَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يُوْم كَبِير3 إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ4﴾

التّفسير

الاصول الاربعة في دعوة الأنبياء:

تبدأ هذه السورة - كما في بداية السورة السابقة وسائر سور القرآن - ببيان أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء، ليلتفت الناس إِلى محتوياته أكثر ويتفكروا فيه بنظرة أدق.

وذكر الحروف المقطعة (الر) - نفسه - دليل على أهمية هذا الكتاب السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف بسيطة معروفة للجميع مثل الألف واللام والراء(الر) (1) مع ما فيه من عظمة وإِعجاز بالغين، ثمّ يبيّن بعد هذه الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.

أوّلا: إِنّ جميع آياته متقنة ومحكمة (كتاب أُحكمت آياته).

وثانياً: إِنّ تفصيل حاجات الإِنسان في حياته الفردية والإِجتماعية - مادية كانت أو معنوية - مبيَّن فيها أيضاً (ثمّ فُصِّلَتْ).

هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة، من أين أُنزل، وكيف؟!

أُنزل من عند ربّ حكيم وخبير (من لدن حكيم خبير).

فبمقتضى حكمته أُحكمت آيات القرآن، وبمقتضى أنّه خبير مطلع بيّن آيات القرآن في مجالات مختلفة طبقاً لحاجات الإِنسان، لأنّ من لم يطلع على تمام جزئيات الحاجات الروحية والجسمية للإِنسان لايستطيع أن يصدر احكاماً جديرة بالتكامل.

الواقع، إِنّ كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من واحدة من صفات الله.. فاستحكام القرآن من حكمته، وشرحه وتفصيله من خبرته.

وفي بيان ماهو الفرق بين (أُحكمت) و (فُصلت) بحث المفسّرون كثيراً وأبدوا احتمالات عديدة.. وأقرب هذه الإِحتمالات - بحسب مفهوم الآية آنفة الذكر - هو أنّ الجملة الأُولى تعني أنّ القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان المرصوص الثابت، كما تدل على أنّه نازل من إِله فرد، ولهذا فلايوجد أي تضادٍّ في آياته، ولا يُرى بينها أي اختلاف.

والجملة الثّانية إِشارة إِلى أنّ هذا الكتاب في عين وحدته فيه شعب وفروع متعددة تستوفي جميع حاجات الإِنسان الرّوحيّة والمادية، فهو في عين وحدته كثير، وفي عين كثرته واحد!.. وفي الآية التالية يُبيّن أهم مايحتوية القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد والوقوف بوجه الشرك (ألاّ تعبدوا إلاّ الله) (2) وهذا أوّل تفصيل لمحتوى هذا الكتاب العظيم.

والثّاني من محتويات الدعوة السماوية: (أنّني لكم منه نذير وبشير).. نذير لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر، وأُحذركم من عنادكم وعقاب الله لكم!

وثالث ما في منهج دعوتي إِليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا أنفسكم من الأدران: (وأن استغفروا ربّكم).

ورابعها هو أن تعودوا إِلى الله بالتوبة، وأن تتصفوا - بعد غسل الذنوب والتطهر في ظل الإِستغفار - بصفات الله، فإِنّ العودة إِليه تعالى لا تعني إِلاّ الإِقتباس من صفاته (ثمّ تُوبوا إِليه).

في الواقع إِنّ أربع مراحل من مراحل الدعوة المهمّة نحو الحق سبحانه بُيّنت في أربع جمل وفي أربعة أقسام، فقسمان يتضمنان الجانب "العقيدي" والأساسي.

وقسمان يتضمنان الجانب "العملي" والفوقاني.

فقبول أصل التوحيد ومحاربة الشرك، وقبول رسالة النّبي محمّد (ص) أصلان اعتقاديان، والتطهّر من الذنوب والتخلّق بالصفات الإِلهية - اللذان يحملان معنى البناء بتمام معناه - أمران عمليان حضّ عليهما القرآن، وإِذا تأملنا بدقّة في الآيات الكريمة وجدنا أن جميع محتوى القرآن يتلخص في هذه الأُصول الأربعة.. هذا هو الفهرس لجميع محتوى القرآن، ولجميع محتوى هذه السورة أيضاً.

ثمّ تبيّن الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها بالنحو التالي (يمتعكم متاعاً حسناً) فاذا عملنا بهذه الأُصول فإِنّ الله سبحانه يهبنا حياة سعيدة إِلى نهاية العمر، وفوق كل ذلك فإنّ كُلاً يُعطى بمقدار عمله ولا يهمل التفاوت والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول... (ويؤت كل ذي فضل فضله) وأمّا في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية: (وإِن تولوا فإِنّي أخاف عليكم عذاب يوم كبير) حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإِلهي.

واعلموا أنَّ (إِلى الله مرجعكم) كائنا من كنتم، وفي أي محل ومقام أنتم، وهذه الجملة تشير إِلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّة للقرآن وهي مسألة "المعاد والبعث" ولكن لاتتصوروا - أبداً - أن قدرتكم تعدّ شيئاً تجاه قدرة الله، أو أنّكم تستطيعون الفرار من أمره ومحكمة عدله.. ولا تتصوروا - أيضاً - أنّه لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوباً جديداً من الحياة.. (وهو على كل شيء قديرٌ).

علاقة الدين بالدنيا:

مايزال الكثير يظنون أن التدين هو العمل لعمارة الآخرة والسعادة بعد الموت، وأنّ الأعمال الصالحة هي الزاد والمتاع للدار الآخرة.. ولا يكترثون أبداً بأثر الدين الأصيل في الحياة الدنيا على حين أن الدين الصحيح في الوقت الذي يعمر الدار الآخرة يعمر "الدنيا" أيضاً.. وطبيعي إِذا لم يكن للدين أي تأثير على هذه الحياة الدنيا فلا تأثير له في الحياة الأُخرى أيضاً.

والقرآن الكريم يتعرض لهذا الموضوع بصراحة في آيات كثيرة، وربّما يتناول أحياناً الجزئيات من هذه المسائل، كما ورد في سورة نوح (ع) على لسان هذا النّبي العظيم مخاطباً قومه (فقلتُ استغفروا ربّكم إنّه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً يمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) (3).

ويفهم البعض أنّ صلة هذه المواهب المادية في الدنيا مع الإِستغفار والتطهر من الذنوب معنوية وغير معروفة، في حين أنّه لا دليل على ذلك، بل الصلة بينهما ظاهرة معروفة.

فأي أحد لا يعلم أن الكذب والسرقه والفساد تهدم العلاقات الإِجتماعية؟

وأي أحد لايعلم أن الظلم والتبعيض والإِجحاف تجعل من حياة الناس جحيماً وتكدر صفوهم؟!

وأيّ أحد يشك في حقيقة أن قبول أصل التوحيد وتكوين مجتمع توحيدي على أساس قيادة الأنبياء، وتطهير المجتمع من الذنوب والآثام، والتحلّي بالقيم الإِنسانية - وهي الأُصول الأربعة ذاتها التي أُشير إليها في الآيات المتقدّمة - يسير بالمجتمع البشري نحو هدف تكاملي أفضل، ويخلق محيطاً آمناً عامراً بالصفاء والحرية والصلاح؟

وعلى هذا الأساس نقرأ بعد هذه الأُصول الأربعة في الآيات المتقدمة قوله تعالى: (يمتعكم متاعاً حَسَناً إِلى أجل مُسمّى).


1- شرحنا هذا المعنى وسائر التفاسير التي ذكرت للحروف المقطعة في القرآن في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف.

2- في جملة (ألا تعبدوا إلاّ الله) احتمالان: الأوّل: إِنّه على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) - كما أشرنا إِليه - والتقدير: دعوتي وأمري إلاّ تعبدوا إلاّ الله. والثّاني: أنّه كلام الله، والتقدير: آمركم ألاّ تعبدوا إلاّ الله، ولكن جملة (إِنّني لكم منه نذير وبشير) تنسجم مع المعنى الأوّل.

3- سورة نوح، 9 - 11.