الآيات 103 - 105
﴿خُذْ مِنْ أمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيِهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 103 أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 104 وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتَرَدُّونَ إِلَى عَـلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهـدَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 105﴾
التّفسير
الزّكاة مطهرة للفرد والمجتمع:
في الآية الأُولى من هذه الآيات إِشارة إِلى أحد الأحكام الإِسلامية المهمّة، وهي مسألة الزكاة، حيث تأمر النّبي (ص) بشكل عام أن (خذ من أموالهم صدقة).
إنّ كلمة (من) التبعيضية توضح أنّ الزكاة تشكل - دائماً - جزءاً من الأموال، لا أنّها تستوعب جميع الأموال، أو الجزء الأكبر منها.
ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والإِجتماعية للزكاة، حيث تقول: (تطهّرهم وتزكيهم بها) فهي تطهرهم من الرّذائل الأخلاقية، ومن حبّ الدنيا وعبادتها، ومن البخل وغيره من مساوىء الأخلاق، وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم.
وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الإِجتماعية والإنحطاط الخلقي والإِجتماعي المتولّد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدي إِلى وجود طبقة محرومة، كل هذه الأُمور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإِلهية وأدائها، وهي التي تطهر المجتمع من التلوث الذي يعيشه ويحيط به، وكذلك سيفعّل التكافل الإِجتماعي، وينمو ويتطور الإِقتصاد في ظل مثل هذه البرامج.
وعلى هذا فإنّ حكم الزكاة مطهر للفرد والمجتمع من جهة ويكرّس الفضيلة في النفوس من جهة أُخرى، وهو سبب في تقدم المجتمع أيضاً، ويمكن القول بأنّ هذا التعبير أبلغ مايمكن قوله في الزكاة، فهي تزيل الشوائب من جهة، ووسيلة للتكامل من جانب آخر.
ويحتمل أيضاً في معنى هذه الآية أن يكون فاعل (تطهّرهم) هو الزكاة، وفاعل (تزكيهم) (النّبي (ص)) ، وعلى هذا سيكون معنى هذه الآية هو: إنّ الزكاة تطهرهم، وإن النّبي (ص) هو الذي يربيهم ويزكيهم.
إِلاّ أنّ الأظهر أنّ الفاعل في كلا الفعلين هو النّبي (ص) ، كما شرحنا وبيّنا ذلك في البداية، رغم أنّه ليس هناك فرق كبير في النتيجة.
ثمّ تضيف الآية في خطابها للنّبي (ص) بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم (وصلّ عليهم).
إِنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم، حتى إِذا كان مايؤدونه واجباً عليهم وحكماً شرعياً يقومون به، وترغيبهم بكل الطرق، وخاصّة المعنوية والنفسية، ولهذا ورد في الرّوايات أنّ الناس عندما كانوا يأتون بالزكاة إِلى النّبي (ص) كان يدعو لهم يقول: "اللهم صل عليهم".
ثمّ تقول الآية: (إنّ صلاتك سكن لهم) لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإِلهية عليهم، وتغمر قلوبهم ونفوسهم الى درجة أنّهم كانوا يحسون بها.
مضافاً إِلى ثناء النّبي (ص) ، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم، بحيث يشعرون بأنّهم إِن فقدوا شيئاً بحسب الظاهر، فإنّهم قد حصلوا - قطعاً - على ما هو أفضل منه.
اللطيف في الأمر، أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم، إلاّ أنّ هذا الحكم الذي شُرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإِسلامية يعكس عمق الجانب الإِنساني في هذه الأحكام.
وفي نهاية الآية نقرأ: (والله سميع عليم) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية، إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النّبي (ص) ، ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة.
ملاحظات
1 - يتّضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية، أنّ هذه الآية ترتبط بالآية التي سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه، لأنّهم - وكشكر منهم لقبول توبتهم - أتوا بأموالهم ووضعوها بين يدي النّبي (ص) ليصرفها في سبيل الله، إلاّ أنّه (ص) اكتفى بأخذ قسم منها فقط.
إِلاّ أنّ سبب النزول هذا لا ينافي - مطلقاً - أن هذه الآية بيّنت حكماً كلياً عاماً في الزكاة، ولا يصحّ ما طرحه بعض المفسّرين من التضاد بين سبب نزولها وما بينته من حكم كلي، كما قلنا ذلك مكرراً في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها.
السؤال الوحيد الذي يبقى هنا، هو أنّ النّبي (ص) - حسب رواية - قد قبل ثلث أموال أبي لبابة وأصحابه، في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي مورد، ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحياناً، وأحياناً جزء من عشرين جزءاً، وفي الذهب والفضة (5، 2%) ، وفي الأنعام (البقر والغنم والإِبل) لا يصل إِلى الثلث مطلقاً.
لكن يمكن الإِجابة على هذا السؤال بأنَّ النّبي (ص) قد أخذ قسماً من أموالهم بعنوان الزكاة، والمقدار الإِضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفّارة عن ذنوبهم، وعلى هذا فإنَّ النّبي (ص) قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم، ومقداراً آخر لتطهيرهم من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث.
2 - إنّ حكم (خذ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإِسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة، وإلاّ فلا.
3 - إِنَّ جملة (صلّ عليهم) وإن كانت خطاباً للنّبي (ص) ، إلاّ أنّه من المسلّم أنّها في معرض بيان حكم كلّي - لأنّ القانون الكلّي يعني أن الأحكام الإِسلامية تجري على النّبي (ص) وباقي المسلمين على السواء، ومختصات النّبي من جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاصّ - وعلى هذا فإنّ المسؤولين عن بيت المال في كلّ عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة: "اللّهم صلّ عليهم".
وممّا يثير العجب أنّ بعض المتعصبين من العامّة لم يجوز الصلاة مستقلة على آل الرّسول (ص) ، أي أنّ شخصاً لو قال: (اللّهمَّ صلِّ على عليّ أمير المؤمنين) أو: (صلِّ على فاطمة الزَّهراء) فإِنَّهم اعتبروا ذلك ممنوعاً وحراماً!
في الوقت الذي نعلم أنّ منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إِلى دليل، لا جوازه!
إِضافةً إِلى أنّ القرآن الكريم - كما قلنا سابقاً - قد أجاز بصراحة مثل هذا الدعاء في حق أفراد عاديين، فكيف بأهل بيت رسول الله (ص) وخلفائه؟!
لكن، ماذا يمكن عمله؟
فإنّ التعصبات قد تقف أحياناً مانعة حتى من فهم آيات القرآن.
ولمّا كان بعض المذنبين - كالمتخلفين عن غزوة تبوك - يصرّون على النّبي (ص) في قبول توبتهم، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إِلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطاً بالنّبي (ص) ، بل بالله الغفور الرحيم، لذا قالت: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَوبَةَ عَنْ عِبادِهِ).
ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إِنَّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأُخرى التي يعطيها العباد تقرباً إِليه، أو تكفيراً لذنوبهم: (ويأخذ الصدقات).
لا شكَّ في أنَّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبي (ص) أو الإِمام المعصوم (ع) أو خليفة المسلمين وقائدهم، أو الأفراد المستحقون، وفي كلَّ هذه الأحوال فإنّ الله تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهراً، ولكن لمّا كانت يد النّبي (ص) والنّواب الحقيقيين يد الله سبحانه - لأنَّهُم خلفاء الله ووكلاؤه - قالت الآية: إِنَّ الله يأخذ الصدقات.
وكذلك العباد المحتاجون، فإنَّهُم يأمر الله يأخذون مثل هذه المساعدات، وهم في الحقيقة وكلاء الله، وعلى هذا فإنَّ يدهم يد الله أيضاً.
إِنَّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإِسلامي - أي الزكاة - فبالرغم من ترغيب كلَّ المسلمين ودعوتهم إِلى القيام بهذه الوظيفة الإِلهية الكبيرة، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإِسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إِليه، لأنَّ من يأخذها هو الله عزَّوجَلّ، وإنَّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين، أو اعطائه الزكاة بشكل يؤدي إِلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلِّ أدب وخضوع، كما يوصل العبد شيئاً إِلى مولاه.
ففي رواية عن النّبي (ص): "إِنَّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إِلى يد السائل" (1)!
وفي حديث آخر عن الإِمام السّجاد (ع): "إِنَّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب" (2).
بل إِنّ رواية صرّحت بأنّ كلَّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلاّ الصدقة، فإنّها تصل مباشرة إِلى يد الله سبحانه (3).
هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت (ع) بعبارات مختلفة، ونقل أيضاً عن النّبي (ص) عن طريق العامّة، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري: "ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب - ولا يقبل الله إلاّ الطيب - إلاّ أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل" (4).
إنَّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات، والعظيم المعنى، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإِنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإِسلامية.
لقد وردت عبارات حديثية أُخرى في هذا المجال، وهي مهمّة وملفتة للنظر إِلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته.
فمثلا نجد في بعض الأحاديث، أن الأئمّة المعصومين (ع) كانوا أحياناً يقبلون الصَّدقة احتراماً وتعظيماً للصدقة، ثمّ يعطونها الفقراء، أو إِنَّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبِّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إِليه، لماذا؟
لأنَّهم وضعوها في يد الله سبحانه!
وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإِسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة، بل ويرمون مساعدتهم أحياناً بلا أدب وخلق؟!
وكما قلنا في محلّة، فإنّ الإِسلام يسعى بكلِّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإِسلامي، إلاّ أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلِّ مجتمع أفراداً عاجزين أطفال، يتامى، مرضى... وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم.
ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد: (وَإِنَّ الله هُوَ التَّوّاب الرَّحِيم).
التّوبة والجبران:
يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه، كما هو في هذه الآيات، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة.
ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنباً مالياً، أو أي ذنب آخر، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية، وذلك بالعمل الصالح، وهذا هو الذي يُرْجِع الروح إِلى طهارتها الأُولى التي كانت عليها قبل الذنب.
وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مَرَّت بصورة جديدة، وتأمر النّبي (ص) أن يبلغ الناس: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوُلُهُ وَالمُؤْمِنُونَ) فهي تشير إِلى أن لا يتصور أحد أنّه إِذا عمل عملا، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه، بل إِنَّ الرّسول (ص) والمؤمنين يعلمون به إِضافةً إِلى علم الله عزَّوجلّ.
إِنَّ الإِلتفات إِلى هذه الحقيقة والإِيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات، فإنّ الإِنسان - عادة - إِذا أحسّ بأنّ أحداً ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته، فإنَّه يحاول أن يتصرّف تصرفاً لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه، فكيف إِذا أحسّ وآمن بأنَّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!
إِنَّ هذا الإِطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر، لذا فإِنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالَمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنُبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
ملاحظات
1 - مسألة عرض الأعمال
إِنّ بين أتباع مذهب أهل البيت (ع) ، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّة (ع) ، عقيدة معروفة ومشهورة، وهي أنّ النّبي (ص) والأئمّة (ع) يطلعون على أعمال كل الأُمّة، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم.
إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً، وربّما بلغت حدّ التواتر، وننقل هنا أقساماً منها كنماذج:
روي عن الإِمام الصادق (ع) أنّه قال: "تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح، أبرارها وفجارها، فاحذروها، وهو قول الله عزَّوجلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وسكت (5).
وفي حديث آخر عن الإِمام الباقر (ع): "إِنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح" (6).
وفي رواية أُخرى عن الإِمام علي بن موسى الرضا (ع) ، أنّ شخصاً قال له: ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: "أولست أفعل؟
والله أنّ أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة".
يقول الراوي، فاستعظمت ذلك، فقال لي، "أمّا تقرأ كتاب الله عزَّوجَلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ، هو والله علي بن أبي طالب" (7).
إِنّ بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النّبي (ص) فقط، وفي بعضها علي (ع) ، وفي بعضها الآخر ذكر النّبي (ص) والأئمّة (ع) ، كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس، وبعضها جعله كل يوم، وبعضها في الأسبوع مرّتين، وبعضها في أوّل كل شهر، وبعضها عند الموت والوضع في القبر.
ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات، ويمكن أن تكون كلّها صحيحة، تماماً كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية، فالمحصلة اليومية تعرض في نهاية كل يوم، والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع، والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا.
وهنا يطرح سؤال، وهو: هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع غضّ النظر عن الرّوايات التي وردت في تفسيرها؟
أم أنّ الأمر كما قاله مفسّرو العامّة، وهو أنّ الآية تشير إِلى أمر طبيعي، وهو أنّ الإِنسان إِذا عمل أي عمل، فإنّه سيظهر، شاء أم أبي، ومضافاً إِلى علم الله سبحانه، فإنّ النّبي (ص) والمؤمنين سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة؟
وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال: الحق أنّ لدنيا شواهد على هذا الموضوع من نفس الآية، وذلك:
أوّلا: إِنّ الآية مطلقة، وهي تشمل جميع الأعمال، فإنّا نعلم أن جميع الأعمال لا يمكن أن تتّضح للنّبي (ص) والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية، لأنّ أكثر المعاصي ترتكب في السر، وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالباً، بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضاً تُعمل في السرّ، ويلفها الكتمان.
ودعوى أن كل الأعمال، الصالحة منها والطالحة، أو أغلبها تتّضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق والحكمة.
وعلى هذا فإنّ علم النّبي (ص) والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون
عن طريق غير طبيعي، بل عن طريق التعليم الإِلهي.
ثانياً: إِنّ آخر الآية يقول: (فينبئكم بما كنتم تعملون) ولا شك أنّ هذه الجملة تشمل كل أعمال البشر - العلنية منها والمخفية - وظاهر تعبير الآية أنّ المقصود من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد، وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضاً كل الأعمال - الظاهرة منها والباطنة - ولا شك أنّ الوقوف عليها كاملا لا يمكن بالطرق المعروفة الطبيعية.
وبتعبير آخر، فإنّ نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال، وكذلك تبحث بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال، فهنا مرحلتان: إِحداهما: مرحلة الإِطلاع والعلم، والأُخرى: مرحلة الجزاء، والموضوع واحد في المرحلتين.
ثالثاً: إِنّ ضميمة المؤمنين في الآية إِلى الله ورسوله يصح في صورة يكون المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية، وإِلاّ فإنّ الأعمال العلنية يراها المؤمنون وغير المؤمنين على السواء، ومن هنا تتّضح مسألة أُخرى بصورة ضمنية، وهي أنّ المقصود من المؤمنين في الآية - كما ورد في الرّوايات الكثيرة أيضاً - ليس جميع المؤمنين، بل فئة خاصّة منهم، وهم الذين يطلعون على الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى، ونعني بهم خلفاء النّبي (ص) الحقيقيين.
والمسألة الأُخرى التي يجب الإِنتباه لها هنا، وهي - كما أشرنا سابقاً - أنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها، فإنّي إِذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي، وبالإِضافة إِلى ذلك فإنّ نبيي (ص) وأئمّتي (ع) يطلعون على كل أعمالي، الحسنة والسيئة في يوم كل يوم، أو في كل أسبوع، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن، تماماً كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريراً يومياً أو أسبوعياً، تسجل فيه جزئيات أعمالهم، يُرفع إِلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم.
2 - هل الرّؤية هنا تعني النظر؟
المعروف بين جميع من المفسّرين أنّ الرؤية الواردة في قوله تعالى: (فسيرى الله عملكم...) تعني المعرفة، لا العلم، لأنّها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين.
لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي، وهو مشاهدة المحسوسات، لا بمعنى العلم، ولا بمعنى المعرفة، فإنّ هذا الموضوع بالنسبة إِلى الله سبحانه وتعالى الموجود في كل مكان، والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه.
وأمّا بالنسبة للنّبي (ص) والأئمّة (ع) ، فلا مانع من ذلك أيضاً، حيث أنّهم يرون نفس الأعمال عند عرضها، لأنّا نعلم أنّ أعمال الإِنسان لا تفنى، بل تبقى إِلى يوم القيامة.
3 - لا شك أنّ الله عزَّوجَلّ يعلم بالأعمال قبل وقوعها، والذي في جملة: (فسيرى الله) إِشارة إِلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود.
1- مجمع البيان، ذيل الآية.
2- تفسير العياشي، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية.
3- تفسير العياشي، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية.
4- تفسير المنار، ج 11، ص 33. وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيت(عليهم السلام) عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً. راجع: بحارالانوار، ج 96، ص 134، الطبعة الجديدة.
5- أصول الكافي، ج1، ص 171، باب عرض الأعمال.
6- تفسير البرهان، ج2، ص 158.
7- أصول الكافي، ج1، ص 171، باب عرض الأعمال.