الآيات 64 - 66
﴿يَحْذَرُ الْمُنَـفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون 64 وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَءَايَـتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ 65 لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَة مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ66﴾
سبب النزول
ذكرت عدّة أسباب لنزول هذه الآيات، وكلّها ترتبط بأعمال المنافقين بعد غزوة تبوك.
فمن جملتها: إِنّ جمعاً من المنافقين كانوا قد اجتمعوا في مكان خفي وقرّروا قتل النّبي (ص) عند رجوعه من غزوة تبوك، وكانت خطتهم أن ينصبوا كميناً في إِحدى عقبات الجبال الصعبة، وعندما يمر النّبي (ص) من تلك العقبة يُنفرون بعيره، فأطلع الله نبيّه على ذلك، فأمر جماعة من المسلمين بمراقبة الطريق والحذر، فلمّا وصل النّبي (ص) إِلى العقبة - وكان عمار يقود الدابة وحذيفة يسوقها - اقترب المنافقون متلثّمين لتنفيذ مؤامرتهم فأمر النّبي (ص) حذيفة أن يضرب وجوه دوابهم ويدفعهم، ففعل حذيفة ذلك.
فلمّا جاوز النّبي (ص) العقبة - وقد زال الخطر - قال لحذيفة: هل عرفتهم؟
فقال: لم أعرف أحداً منهم، فعرّفه رسول الله (ص) بهم، فقال حذيفة: ألا ترسل إِليهم من يقتلهم؟
فقال: "إِني أكره أن تقول العرب: إِنّ محمّداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه".
وقد نقل سبب النزول هذا عن الإِمام الباقر (ع) ، وجاء أيضاً في العديد من كتب التّفسير والحديث.
وذُكر سبب آخر للنزول وهو: أنّ مجموعة من المنافقين لما رأوا النّبي (ص) وقد تهيّأ للقتال واصطف أمام الأعداء، قال هؤلاء بسخرية: أيظن هذا الرجل أنّه سيفتح حصون الشام الحصينة ويسكن قصورها، إن هذا الشيء محال، فأطلع الله نبيّه على ذلك، فأمر رسول الله (ص) أن يسدوا عليهم المنافذ والطرق، ثمّ ناداهم ولامهم وأخبرهم بما قالوا، فاعتذروا بأنّهم إِنّما كانوا يمزحون وأقسموا على ذلك.
التّفسير
مؤامرة أُخرى للمنافقين:
لاحظنا في الآيات السابقة كيف أنّ المنافقين اعتبروا نقاط القوّة في سلوك النّبي (ص) نقاط ضعف، وكيف حاولوا استغلال هذه المسألة من أجل بثّ التفرقة بين المسلمين.
وفي هذه الآيات إِشارة إِلى نوع آخر من برامجهم وطرقهم.
فمن الآية الأُولى يستفاد أنّ الله سبحانه وتعالى يكشف الستار عن أسرار المنافقين أحياناً، وذلك لدفع خطرهم عن النّبي (ص) وفضحهم أمام الناس ليعرفوا حقيقتهم، ويحذروهم وليعرف المنافقون موقع اقدامهم ويكفّوا عن تآمرهم، ويشير القرآن إلى خوفهم من نزول سورة تفضحهم وتكشف خبيئة أسرارهم فقال: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم).
إِلاّ أنّ العجيب في الأمر أن هؤلاء ولشدة حقدهم وعنادهم لم يكفّوا عن استهزائهم وسخريتهم، لذلك تضيف الآية: بأنّهم مهما سخروا من أعمال النّبي (ص) فإن الله لهم بالمرصاد وسوف يظهر خبيث أسرارهم ويكشف عن دنيء نيّاتهم، فقال: (قل استهزؤوا إِن الله مخرج ما تحذرون).
تجدر الإِشارة إِلى أنّ جملة (استهزؤوا) من قبيل الأمر لأجل التهديد كما يقول الإِنسان لعدوّه: اعمل كل ما تستطيع من أذى وإِضرار لترى عاقبة امرك، ومثل هذه الأساليب والتعبيرات تستعمل في مقام التهديد.
كما يجب الإِلتفات إِلى أنّنا نفهم من الآية بصورة ضمنية أنّ هؤلاء المنافقين يعلمون بأحقية دعوة النّبي (ص) وصدقها، ويعلمون في ضميرهم ووجدانهم ارتباط النّبي (ص) بالله سبحانه وتعالى، إلاّ أنهم لعنادهم وإِصرارهم بدل أن يؤمنوا به ويسلموا بين يديه، فإنّهم بدأوا بمحاربته وإضعاف دعوته المباركة، ولذلك قال القرآن الكريم: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم).
وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ جملة (تنزل عليهم) لا تعني أن أمثال هذه الآيات كانت تنزل على المنافقين، بل المقصود أنّها كانت تنزل في شأن المنافقين وتبيّن أحوالهم.
أمّا الإية الثّانية فإنّها أشارت إلى أُسلوب آخر من أساليب المنافقين، وقالت: (ولئن سألتهم ليقولون إنّما كنا نخوض ونلعب) (1).
أي إذا سألتهم عن الدافع لهم على هذه الأعمال المشينة قالوا: نحن نمزح وبذلك ضمنوا طريق العودة، فهم من جهة كانوا يخططون المؤامرات، ويبثون السموم، فإذا تحقق هدفهم فقد وصلوا إلى مآربهم الخبيثة أمّا إذا افتضح أمرهم فإنّهم سيتذرعون ويعتذرون بأنّهم كانوا يمزحون، وعن هذا الطريق سيتخلصون من معاقبة النّبي (ص) والناس لهم.
إن المنافقين في أي زمان، تجمعهم وحدة الخطط، والضرب على نفس الوتر، لذا فلهم نغمة واحدة، وهم كثيراً ما يستفيدون ويتبعون هذه الطرق، بل إنّهم في بعض الأحيان يطرحون أكثر المسائل جدية لكن بلباس المزاح الساذج البسيط، فإن وصلوا إِلى هدفهم وحققوه فهو، وإِلاّ فإنّهم يفلتون من قبضة العدالة بحجّة المزاح.
غير أنّ القرآن الكريم واجه هؤلاء بكل صرامة، وجابههم بجواب لا مفرّ معه من الإِذعان للواقع، فأمر النّبي (ص) أن يخاطبهم (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون) ، أي إِنّه يسألهم: هل يمكن المزاح والسخرية حتى بالله ورسوله وآيات القرآن؟!
هل إنّ هذه المسائل التي هي أدق الأُمور وأكثرها جدية قابلة للمزاح؟!
هل يمكن إِخفاء قضية تنفير البعير وسقوط النّبي (ص) من تلك العقبة الخطيرة، والتي تعني الموت، تحت عنوان ونقاب المزاح؟
أم أنّ السخرية والإِستهزاء بالآيات الإِلهية وإِخبار النّبي بالإِنتصارات المستقبلية من الأُمور التي يمكن أن يشملها عنوان اللعب؟
كل هذه الشواهد تدل على أنّ هؤلاء كان لديهم أهداف خطيرة مستترة خلف هذه الأستار والعناوين.
ثمّ يأمر القرآن النّبي (ص) أن يقول للمنافقين بصراحة: (لا تعتذروا) ، والسبب في ذلك أنّكم (قد كفرتم بعد إيمانكم) ، فهذا التعبير يُشعر أن هذه الفئة لم تكن منذ البداية في صف المنافقين، بل كانوا مؤمنين لكنّهم ضعيفو الإِيمان، بعد هذه الحوادث الآنفة الذكر سلكوا طريق الكفر.
ويحتمل أيضاً في تفسير العبارة أعلاه أن هؤلاء كانوا منافقين من قبل، إلاّ أنّهم لم يظهروا عملا مخالفاً، فإنّ النّبي (ص) والمسلمين كانوا مكلّفين أن يعاملوهم كأفراد مؤمنين، لكن لما رفع النقاب بعد أحداث غزوة تبوك، وظهر كفرهم ونفاقهم أُعلِم هؤلاء بأنّهم لم يعودوا من المؤمنين.
واختتمت الآية بهذه العبارة: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنّهم كانوا مجرمين) فهي تبيّن أنّ طائفة قد استحقت العذاب نتيجة الذنوب والمعاصي، وهذا دليل على أن أفراد الطائفة الأُخرى إِنّما شملهم العفو الإِلهي لأنّهم غسلوا ذنوبهم ومعاصيهم بماء التوبة من أعماق وجودهم.
وفي الآيات القادمة - كالآية 74 - قرينة على هذا المبحث.
وقد وردت روايات عديدة في ذيل الآية، تبيّن أن بعض هؤلاء المنافقين الذين مرّ ذكرهم في هذه الآيات قد ندموا على ما بدر منهم من أعمال منافية للدين والأخلاق فتابوا، غير أن البعض الآخر قد بقي على مسيرته حتى النهاية.
ولمزيد التوضيح والإِطلاع راجع: تفسير نور الثقلين، ج2، ص 239.
1- خوض على وزن حوض، وهو - كما ورد في كتب اللغة - بمعنى الدخول التدريجي في الماء، ثمّ أطلقت على الدخول في مختلف الأعمال من باب الكناية، إلاّ أنّها جاءت في القرآن غالباً بمعنى الدخول أو الشروع بالأعمال أو الأقوال القبيحة البذيئة.