الآيات 46 - 48
﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُروُجَ لاََعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَـعِدِينَ 46 لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالا وَلاَوْضَعُوا خِلَـلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّـلِمينَ 47 لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الاُْمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أمْرُ اللهِ وَهُمْ كَـرِهُونَ48﴾
التّفسير:
عدم وجودهم أفضل:
في الآية الأُولى - من الآيات أعلاه - بيان لعلامة أُخرى من علائم كذبهم، وهي في الحقيقة تكمل البحث الوارد في الآيات المتقدمة آنفاً، إِذ جاء فيها (والله يعلم أنّهم لكاذبون) فالآية محل البحث تقول: (ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة) ، ولم ينتظروا الإذن لهم، (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم (1) وقيل اقعدوا مع القاعدين).
وهناك كلام بين المفسّرين في المراد بـ "قيل اقعدوا" فمن هو القائل؟!
أهو الله سبحانه، أم النّبي، أم باطنهم؟!
الظاهر أنّه أمر تكويني نهض من باطنهم المظلم، وإنّه مقتضى عقيدتهم الفاسدة وأعمالهم القبيحة، وكثيراً ما يُرى أن مقتضى الحال يظهرونه في هيئة الأمر أو النهي.
ويستفاد من الآية محل البحث أنّ لكلّ عمل ونيّة اقتضاءً يُبتلى به الإِنسان شاء أم أبى، وليس لكلّ أحد قابلية السير في سبيل الله وتحمّل الأعباء الكبرى، بل هو توفيق من قِبَل الله يوليه من يجد فيه طهارة النيّة والإِستعداد والإِخلاص.
وفي الآية التالية إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للتأثر والأسف فحسب، بل لعله مدعاة للسرور، لأنّهم لا ينفعونكم فحسب، بل سيكونون بنفاقهم ومعنوياتهم المتزلزلة وانحرافهم الأخلافي مصدراً لمشاكل أُخرى جديدة.
والآية في الحقيقة تعطي درساً للمسلمين أن لا يكترثوا بكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكميتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قِلّة، فهذا درس لمسلمي الماضي والحاضر والمستقبل.
وتقول الآية: (لو خرجوا فيكم) أي إِلى تبوك للقتال (ما زادوكم إلاّ خبالا).
"الخبَال" بمعنى الإِضطراب والتردد.
والخَبَل على زنة "الأجَل" معناه الجنون.
والخَبْلُ على زنة "الطَبْل" معناه فساد الأعضاء.
فبناءً على ذلك فإنّ حضورهم بتلك الروحيّة الفاسدة المقرونة بالتردد والنفاق لا أثر له سوى إيجاد الشك والتردد وتثبيط العزائم بين جنود الإِسلام.
وتضيف الآية قائلة: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) (2)
ثمّ تنذر المسلمين مِن المتأثرين بهم في صفوف المسلمين (وفيكم سمّاعون لهم).
"السمّاع" تطلق على من يسمع كثيراً دون تروٍّ أو تدقيق، فيصدِّق كل كلام يسمعه.
فبناءً على ذلك فإنّ وظيفة المسلمين الراسخين في الإيمان مراقبت مثل هؤلاء الضعفاء لئلا يقعوا فريسة المنافقين الذئاب.
كما يَرِدُ هذا الإِحتمال، وهو أنّ المراد من السمّاع في الآية هو الجاسوس الذي يتجسّس بين المسلمين ويجمع الأخبار للمنافقين.
وتُختتم الآية بالقول: (والله عليم بالظالمين).
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إِنذار للنّبيّ (ص) بأنّ هؤلاء المنافقين لم يبادروا لأوّل مرّة إلى التخريب والتفرقة وبذر السموم، بل ينبغي أن تتذكر - يا رسول الله - أنّ هؤلاء ارتكبوا من قبل مثل هذه الأُمور وهم يتربصون الفرص الآن لينالوا مُناهم (لقد ابتغوا الفتنة من قبل).
وهذه الآية تشير إِلى ما جرى في معركة أُحد حيث رجع عبدالله بن أبي وأصحابه وانسحبوا وهم في منتصف الطريق، أو أنّها تشير إلى مؤامرات المنافقين عامّة التي كانوا يكيدونها للنّبي (ص) أو للمسلمين، ولم يغفل التاريخ أن يسجلها على صفحاته!
(وقلّبوا لك الأُمور) وخطّطوا للإِيقاع بالمسلمين، أو لمنعهم من الجهاد بين يديك، إلاّ أن كل تلك المؤامرات لم تفلح، وإِنما رَقَموا على الماء ورشقوا سهامهم على الحجر (حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون).
غير أن مشيئة العباد وإِرادتهم لا أثر لها إزاء مشيئة الله وإرادته، فقد شاء الله أن ينصرك وأن يُبلغَ رسالتك إِلى أصقاع المعمورة، ويزيل العراقيل والموانع عن منهاجك، وقد فعل.
إِلاّ أنّ ما يهمنا هنا أن نعرف أنّ مدلول الآيات آنفة الذكر لا يختص بعصر النّبي (ص) وزمانه، ففي كل جيل وكل عصر جماعة من المنافقين تحاول أن تنثر سموم التفرقة في اللحظات الحسّاسة والمصيرية، ليحبطوا روح الوحدة ويثيروا الشكوك والتردد في أفكار الناس، غير أنّ المجتمع إِذا كان واعياً فهو منتصر بأمر الله ووعده الذي وعد أولياءه، وهو - سبحانه - الذي يذر ما يرقم المنافقون ومخططاتهم سُدىً، شريطة أن يجاهد أولياؤه في سبيله مخلصين، وأن يراقبوا بحذر أعداءهم المتوغلين بينهم.
1- ثبّطهم مشتق من التثبيط ويعني الوقوف بوجه العمل المزمع إجراؤه بوجه من الوجوه.
2- أوضعوا من مادة الإِيضاع ومعناه، الإسراع في الحركة، ومعناه هنا الإِسراع في النفوذ بين صفوف المقاتلين، والفتنة هنا بمعنى التفرقة واختلاف الكلمة.