الآيات 43 - 45
﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم حَتَّى يتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدقُوا وَتَعْلَمَ الْكَـذِبِينَ 43 لاَ يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الاَْخِرِ أَن يُجَـهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيم بِالْمُـتَّقِين 44إِنَّـمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ45﴾
التّفسير
التعرّف على المنافقين!
يُستفاد من الآيات - محل البحث - أنّ جماعة من المنافقين جاؤوا إِلى النّبي (ص) وبعد أن تذرعوا بحجج واهية مختلفة - حتى أنّهم أقسموا على صدق مدعاهم - استأذنوا النّبي أن ينصرفوا عن المساهمة في معركة تبوك، فأذن لهم النّبي بالإِنصراف.
فالله سبحانه يعتّب على النّبي في الآية الأُولى من الآيات محل البحث فيقول: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين).
وهناك كلام طويل بين المفسّرين في المراد من عتاب الله نبيّه المشفوع بالعفو عنه، أهو دليل على أن إِذن النّبي (ص) كان مخالفة، أم هو من باب ترك الأُولى، أم لا هذا ولا ذاك؟!
وقد جنح البعض إلى الافراط إِلى درجة أنّهم أساؤوا إِلى مقام النّبي (ص) وساحته المقدّسة، وزعموا أن الآيات المذكورة أنفاً دليل على إمكان صدور العصيان والذنب من قبل النّبي (ص) ، ولم يراعوا - على الأقل - الأدب الذي رعاه الله العظيم في تعبيره عن نبيّه الكريم، إذ بدأ بالعفو ثمّ ثنى بالعتاب والمؤاخذة، فوقعوا في ضلال عجيب.
والإِنصاف أنّه لا دليل في الآية على صدور أي ذنب أو معصية من النّبي (ص) ، وحتى ظاهر الآية لا يدلّ على ذلك، لأنّ جميع القرائن تثبت أن النّبي سواءً أذن لهم أم لم يأذن، فإنّهم لم يكونوا ليساهموا في معركة تبوك، وعلى فرض مساهمتهم فيها لم يحلّوا مشكلة من أمر المسلمين، بل يزيدون الطين بلة، كما سنقرأ في الآيات التالية قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إِلاّ خبالا).
فبناءً على ذلك فإنّ المسلمين لم يفقدوا أيّة مصلحة بإذن النّبي لأُولئك بالإِنصراف، غاية الأمر أنّه لو لم يأذن النّبي (ص) لهم فسرعان ما ينكشف أمرهم ويعرفهم المسلمون، غير أنّ هذا الموضوع لم يكن من الأهمية بحيث أنّ ذهابهم وفقدانهم موجباً لإِرتكاب ذنب أو عصيان.
وربّما يمكن أن يسمى ذلك تركاً للأولى فحسب، بمعنى أنّ إِذن النّبي لهم في تلك الظروف، وبما أظهره أُولئك المنافقون من الأعذار بأيمانهم، وإن لم يكن أمراً سيئاً، إلاّ أن ترك الإِذن كان أفضل منه، لتُعرف هذه الجماعة بسرعة.
كما يُحتمل في تفسير الآية هو أنّ العتاب أو الخطاب المذكور آنفاً إنّما هو على سبيل الكناية، ولم يكن في الأمر حتى "تركُ الأُولى" بل المراد بيان روح النفاق في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام.
ويمكن أن يتّضح هذا الموضوع بذكر مثال فلنفرض أن ظالماً يريد أن يلطم وجه ابنك، إلاّ أن أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده فقد تكون راضياً عن سلوكه هذا، بل وتشعر بالسرور الباطني، إلاّ أنّك ولإِثبات القبح الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك: لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه؟
وهدفك من هذا البيان إِنّما هو إِثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه، الذي ورد في ثوب عتاب الصديق وملامته من قِبَلِك؟
وهناك شبهة أُخرى في تفسير الآية، وهي أنّه: ألم يكن النّبي (ص) يعرف المنافقين حتى يقول له الله سبحانه: (لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) ؟
والجواب على هذا السؤال، هو:
أوّلا: أنّ النّبي (ص) لم يكن يعرف المنافقين ويعلم حالهم عن طريق العلم الظاهري، ولا يكفي علم الغيب للحكم في الموضوعات، بل ينبغي أن ينكشف أمرهم عن طريق الأدلة المألوفة و (المعتادة).
ثانياً: لم يكن الهدف الوحيد أن يعلم النّبي حالهم فحسب، بل لعل الهدف كان أن يعلم المسلمون جميعاً حالهم، وإن كان الخطاب موجّهاً للنّبيّ (ص).
ثمّ يتناول القرآن أحد علامات المؤمنين والمنافقين، فيقول: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم).
بل ينهضون مسرعين دون سأم أو ملل عند صدور الأمر بالجهاد ويدعوهم الإِيمان بالله واليوم الآخر ومسؤولياتهم وإيمانهم بمحكمة القيامة، كلّ ذلك يدعوهم إلى هذا الطريق ويوصد بوجوههم الأعذار والحجج الواهية (والله عليم بالمتقين).
ثمّ يضيف القرآن: (إنّما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر).
ويعقّب مؤكّداً عدم إيمانهم بالقول: (وارتابت قلوبُهم فهم في ريبهم يترددون).
وبالرّغم من أنّ الصفات الواردة في الآيات آنفاً جاءت بصيغة الفعل المضارع، إلاّ أنّ المراد منها بيان صفات المؤمنين وصفات المنافقين وأحوالهم، ولا فرق بين الماضي والحال والإستقبال في ذلك.
وعلى كل حال فإن المؤمنين - بسبب إيمانهم - لديهم إرادة ثابتة وتصميم أكيد لا يقبل التهاون والرجوع حيث يرون طريقهم بجلاء ووضوح، فمقصدهم معلوم وهدفهم واضح، ولذلك فهم يمضون بخطى واثقة نحو الأمام ولا يترددون أبداً.
أمّا المنافقون فلأن هدفهم مظلم وغير معلوم، فهم مترددون حائرون ذاهلون، ويبحثون دائماً عن الأعذار والحجج الواهية للتخلص والفرار من تحمل المسؤولية الملقاة على عواتقهم.
وهاتان العلامتان لا تختصان بالمؤمنين والمنافقين في صدر الإسلام ومعركة تبوك فحسب، بل يمكن في عصرنا الحاضر أن نميز المؤمنين الصادقين من المدَّعين الكاذبين بهاتين الصفتين.
فالمؤمن شجاع ذو إِرادة وتصميم وخطى واثقة، والمنافق جبان وخائف ومتردد وحائر ويبحث عن المعاذير دائماً.