الآيتان 36 - 37

﴿51إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَاعَشَرَ شَهْراً فِى كِتَـبِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَـتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَـتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ36 إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَـلِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـفِرِينَ37﴾

التّفسير

وقف القتال "الإِجباري":

لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثاً مفصلةً حول قتال المشركين، فالآيتان - محل البحث - تشيران الى أحد مقرّرات الحرب والجهاد في الإِسلام، وهو احترام الأشهر الحُرم.

فتقول الأُولى: (إِنّ عدّة الشهور عندالله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض).

والتعبير بـ "كتاب الله" يمكن أن يكون إِشارة الى القرآن المجيد أو سائر الكتب السماوية، إلاّ أنّه بملاحظة جملة (يوم خلق السماوات والأرض) يبدو أنّ المعنى الأكثر مناسبة هو كتاب الخلق وعالم الوجود.

وعلى كل حال، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة.

وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيّم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس جميعاً نظاماً طبيعياً، وينظّم على وجه الدقة حسابهم التأريخي، وتلك نعمة عظمى من نعم الله للبشر كما بيّنا تفصيل ذلك في ذيل الآية (189) من سورة البقرة: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج).

ثمّ تضيف الآية - آنفة الذكر - معقبّةً: (منها أربعة حرم).

يرى بعض المفسّرين أنّ تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد "إِبراهيم الخليل (ع) "، وكان نافذ حتى في زمان الجاهلية على أنّه سنة متّبعة إلاّ أنّ عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذا الأشهر أحياناً تبعاً لميولهم وأهوائهم، إلاّ أنّ الإِسلام أقرّ حرمتها على حالها ولم يغيّرها، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى بالأشهر السَرد وهي: ذوالقعدة، وذو الحجة، والمحرم.

وشهر منها منفصل عنها، وهو رجب ويسمى بالشهر الفرد.

وينبغي التنويه على أنّ تحريم هذه الأشهر إِنّما يكون نافذ المفعول إِذا لم يبدأ العدو بقتال المسلمين فيها، أمّا لو فعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين لأنّ احترام الشهر الحرام لم يُنتقض من قبلهم، بل انتقض من قبل العدوّ "وقد بيّنا تفصيل ذلك ذيل الآية (194) من سورة البقرة".

ثمّ تضيف الآية مؤكّدة: (ذلك الدين القيّم).

ويستفاد من بعض الرّوايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم، كان مشرّعاً في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية، إِضافة الى شريعة إِبراهيم الخليل (ع).

ولعلّ التعبير بـ (ذلك الدين القيم) إِشارة الى هذه اللّطيفة، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت: ثمّ تقول الآية: (فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم).

إِلاّ أنّه لمّا كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة، إلاّ أنّهم يقاتلونكم في صف واحد، "كافة" فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحّدون فلابدّ من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص.

وتختتم الآية بالقول: (واعلموا أنّ الله مع المتقين).

وفي الآية الثّانية - من الآيتين محل البحث - إشارة الى إِحدى السُنن الخاطئة في الجاهلية، وهي سنة النسيء "تغيير الأشهر الحرم" إِذ تقول الآية: (إِنّما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا) ففي أحد الاعوام يقرّرون حليّة الشهر الحرام ويحرمون أحد الأشهر الحلال للمحافظة على العدد أربعة (يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم الله)!

فهؤلاء يضيعون بتصرفهم هذا فلسفة تحريم الأشهر، ويتلاعبون بحكم الله بحسب ما تمليه عليهم أهواؤهم، والعجيب أنّهم يرضون عن عملهم، وفعلهم هذا كما تقول الآية: (زّين لهم سوء أعمالهم).

فهم يغيرون الأشهر الحرم ويبدلونها، ويعدّون ذلك تدبيراً لحياتهم ومعاشهم، أو يتصوّرون أنّ طول فترة إيقاف القتال يقلل من حماس المقاتلين فلابدّ من إِثارة الحرب.... فالله سبحانه إِذا علم أن في عباده من ليس أهلا للهداية والتوفيق، خلاه ونفسه: (والله لا يهدي القوم الظالمين).

بحوث

1 - فلسفة الأشهر الحُرُمِ!

كان تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة أحَدَ الطرق لإِيقاف الحروب الطويلة الأمد ووسيلة للدعوة نحو الصلح والدعة، لأنّ المحاربين إِذا وضعوا أسلحتهم في هذه الأشهر الأربعة، وأخمدت نيران الحرب ووجدت الفرصة للتفكير، فمن غير المستبعد أن تنتهي الحرب ويحل السلام محلّه، لأنّ الشروع المجدد بعد إيقاف القتال وانطفاء نار الحرب في غاية الصعوبة، ولا ننسى أن المقاتلين في حرب فيتنام خلال العشرين سنةً من الحرب كانوا يواجهون صعوبة كبيرة لإِيقاف القتال خلال أربع وعشرين ساعة لبداية العام الميلادي الجديد، إلاّ أنّ الإِسلام جعل لأتباعه قراراً بإيقاف القتال خلال أربعة أشهر، وهذا الأمر بنفسه يدل على روح السلام في الإِسلام والمطالبة بالصلح.

إِلاّ أنّ العدو إِذا أراد أن يستغلّ هذا القانون الإِسلامي، وأن ينتهك حرمة هذه الأشهر فعلى المسلمين أن يواجهوه بالمثل.

2 - مفهوم النسيء وفلسفته في الجاهليّة

"النسيء" على وزن "الكثير" من مادة "نسأ" ومعناها التأخير ويمكن أن تكون هذه الكلمة اسم مصدر أو مصدراً، وتطلق على ما يؤجل من إِعطاء المال أو قبضه.

وكان عرب الجاهلية يؤخرون بعض الأشهر الحرم، فمثلا كانوا ينتخبون شهر"صفر" بدل شهر محرم في عام فيحرمونه، كما حدث لأحد زعماء قبيلة بني كنانة، إِذ خطب في اجتماع كبير نسبيّاً في موسم الحج بمنى وقال: إِنّني أخرت المحرم هذا العام وانتخبت شهر صفر مكانه.

وقد روي عن ابن عباس: إِنّ أوّل من سنّ هذه السنّة هو عمرو بن لحي، وقال بعضهم: بل هو قلمس "من بني كنانة".

وفلسفة هذا العمل "التأخير والنسيء" في عقيدتهم أن توالي ثلاثة أشهر حُرم تباعاً كذي القعدة وذي الحجة والمحرم يسبب إضعاف معنويات المحاربين، لأنّ عرب الجاهلية كانوا يتوقون الى الإِغارة وسفك الدماء والحرب، وأساساً فإنّ الحرب والإِغارة وما شاكلهما كان يمثل جزءاً من حياتهم، وكان من الصعب عليهم أن يتحملوا ثلاثة أشهر حرم (يتوقف فيها القتال) لذا فقد كانوا يسعون لفصل شهر المحرم عن هذه الأشهر (أو يؤخروه)!

كما يرد هذا الإِحتمال أيضاً، وهو أنّ ذا الحجة قد يقع في الصيف أحياناً، ممّا يسبب عليهم، حرجاً في موضوع الحج، ونعرف أن الحج لم يكن مسألة عبادية عندالعرب فحسب، بل كان موسماً كبيراً منذ زمن إِبراهيم الخليل (ع) يجتمع فيه خلق كبير، وتقام فيه الأسواق التجارية والإِقتصادية والمحافل الشعرية والخطابية، ويفيدون منها فوائد عامّة، لذلك كانوا يبدلون شهر ذي الحجة حسب ميولهم ويجعلون مكانه شهراً آخر طيب الأجواء لطيف الهواء. وربّما كانت كلا الغايتين صحيحتين.

وعلى كل حال، كان هذا العمل باعثاً على إشعال نار الحرب أكثر فأكثر، وأن تُسحق الغاية من الأشهر الحرُم، وأن يتلاعب بمواسم الحج حسب الأهواء ابتغاء المنافع المادية.

وقد عدّ القرآن هذا العمل زيادةً في الكفر، لأنّهم إِضافةً إلى شركهم وكفرهم الإِعتقادي فإنّهم بسحقهم هذا الدستور كانوا يرتكبون كفراً عملياً، ولا سيما أنّهم كانوا يرتكبون مخالفتين في آن واحد إِذ كانوا يحرّمون ما أحل الله ويحلّون ما حرّم الله.

3 - وحدة الكلمة مقابل العدو

إِنّ القرآن يعلمنا في الآيتين آنفتي الذكر أن نقف صفاً واحداً بوجه العدو عند الحرب، ويستفاد من هذا النص القرآني أنّه ينبغي التنسيق حتى في المواجهات السياسية والثقافية، والإِقتصادية والعسكرية فنحن نكتسب القوة في ظل هذه الوحدة التي تنتهل من روح الإِسلام وهذا الأمر قد جُعل في طي النسيان وكان مدعاة الى انحطاط المسلمين وتأخرهم.

4 - كيف يُزيَّنُ للناسِ سوءُ أعمالهم؟!

إِنّ فطرة الإِنسان إِذا كانت نقيّة تميز الصالح من الطالح بصورة جيدة، إلاّ أنّه حين يذنبُ الإِنسان ويخطو في طريق الآثام فإنّه يفقد هذا الإحساس "بتمييز الصالح من الطالح" تدريجاً.

ومتى ما واصل الإِقدام على السيئات، تبدو له سيئاته وكأنّها أمر حسن وتتزين له، وهذ ما أشارت إليه آيات القرآن - في هذا المورد - وفي موارد أُخرى.

وقد يُنسب تزيين الأعمال السيئة للشيطان، كما في الآية (63) من سورة النحل (فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم) وقد يسند الفعل الى ما لم يُسمَّ فاعله ويُبنى للمجهول كما في الآي محل بحثنا، وقد يكون الفاعل وسوسة الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء.

وقد ينسب الى الشركاء أي الأصنام، كما في الآية (137) من سورة الأنعام، وقد يُنسب تزيين الأعمال السيئة الى الله، كما في الآية (رقم 4) من سورة النمل (إِنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم).

وقد قلنا مراراً: إِنّ نسبة مثل هذه الأُمور الى الله مع أنّها تخصّ عمل الإِنسان نفسه لأن خواص الأشياء بيد الله، فهو مسبب الأسباب.

وقلنا بأن مثل هذه النسبة لا تنافي مسألة الإِختيار وحرية إرادة الإِنسان.